منذ بدء العملية السياسية في العراق عام 2003 وحتى الآن تحوّل العراق إلى منجم للأزمات السياسية، فما أن تنتهي أزمة حتى تكون الأزمة الأخرى مكملة لها . لذلك سئم العراقيون متابعة التجاذبات السياسية في بلدهم، لأنهم تعودوا على أن السياسيين يختلفون ويصلون في ما بينهم إلى مرحلة اللاعودة، لكن سرعان ما يعودون أصدقاء ويجلسون على مائدة واحدة تشهد الكثير من الابتسامات والضحكات المسمومة وغير الصادقة . إلا أن الأزمة الأخيرة التي اندلعت على خلفية اعتقال بعض أفراد حماية وزير المالية والقيادي في الكتلة العراقية رافع العيساوي نهاية العام الماضي أوضحت للجميع أنها الأخطر والأشد من بين كل الأزمات السابقة . حيث تحشد الشارع المساند للكتلة العراقية بزعامة إياد علاوي في تظاهرات واعتصامات كبيرة جداً في محافظات الانبار وصلاح الدين ونينوى وديالى وقسم من مناطق العاصمة بغداد . كانت مطالب المتظاهرين في بداية اندلاع التظاهرات تدعو إلى إطلاق سراح حماية العيساوي، ثم دعت إلى إطلاق سراح المعتقلات، وبعد ذلك توسعت المطالب حتى وصل عددها إلى أكثر من 15 مطلباً لعل أبرزها إلغاء المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب وقانون هيئة المساءلة والعدالة وإيقاف عمل المخبر السري، وقد استجابت الحكومة العراقية لبعض المطالب عبر تشكيلها عدة لجان منها لجنة الحكماء التي تولت مهمة إطلاق سراح المعتقلات ونقلهن إلى محافظاتهن، ثم لجنة العشائر العراقية التي تحركت لاحتواء الأزمة، وحصلت على وعود من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على تنفيذ كل ما تجده هذه اللجنة مناسباً لإقناع المتظاهرين بالعودة إلى منازلهم . ومن بعد ذلك جاءت اللجنة الوزارية التي شكلتها الحكومة برئاسة نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني، حيث قامت هذه اللجنة بالكثير من الإجراءات الملموسة ومنها إطلاق سراح نحو ثلاثة آلاف معتقل ورفع إشارة الحجز عن أكثر من أربعة آلاف عقار لأعوان النظام السابق وغيرها . إلا أن المتظاهرين ومن يقودهم وجدوا في إجراءات الحكومة تراجعاً وخنوعاً أمامهم، لذلك قاموا برفع سقف مطالبهم تدريجياً حتى وصلت إلى المطالبة بإلغاء الدستور وإسقاط المالكي .وتطور الأمر إلى أكثر من ذلك عندما قرر المتظاهرون أداء صلاة موحدة في جامع الأمام الأعظم" رضي الله عنه" في مدينة الاعظمية بالعاصمة بغداد يوم الجمعة الماضي، إلا أن الحكومة وبعض الشخصيات العشائرية دعت المتظاهرين إلى عدم المجيء إلى بغداد، لأن مثل هذا المجيء ربما يؤدي إلى حصول احتكاك بين المتظاهرين والأجهزة الأمنية، وتحصل فتنة كبرى سيكون من الصعب السيطرة عليها، وقد استجاب رجال الدين وزعماء العشائر لتلك الدعوة وجرت التظاهرات في المحافظات . لذلك، فإن رفع المتظاهرين لسقف مطالبهم فسرتها الحكومة ومن يساندها على أن هناك مخططاً يستهدف العملية السياسية برمتها وبدأت ترفض بعض المطالب وتعتبرها خطاً أحمر . التحذير من التقسيم إن المتابع لأحداث التظاهرات في العراق يجد أن هذه التظاهرات تفتقد إلى القيادة الموحدة، سواء كانت سياسية أو دينية أو عشائرية، إذ بعد انطلاق التظاهرات كانت هناك مطالب مشروعة تعاطف معها جميع العراقيين، فضلاً عن ذلك كان هناك خطاب ديني معتدل ومحترم من قبل عامة العراقيين طرحه العلامة عبد الملك السعدي، لكن بعد ذلك بدأت مطالب المتظاهرين تتضارب في ما بينها . حيث هناك جهات عشائرية ودينية تدعو إلى الخطاب الوطني المعتدل، بينما هناك جهات أخرى تظهر على منصة التظاهرات تدعو المتظاهرين إلى عدم سماع تلك الأصوات . ما يعني أن هناك تضارباً واضحاً بين قيادات التظاهرات . وهذا التضارب جعل الكثير من العراقيين يخشون من أن تتحول هذه التظاهرات إلى اقتتال طائفي لن يكون فيه أحد رابحاً . لأن العراقيين جربوا هذا النوع من الاقتتال في عامي 2006 و2007 . الحكومة كانت توقع بروز جيل جديد من السياسيين من بين المتظاهرين يتفاوض معها بشكل منطقي بعيداً عن الانفعالات والتهديدات، إلا أن هذا الجيل تم قمعه من قبل بعض السياسيين ورجال الدين وشيوخ العشائر الذين لا يريدون للأزمة الحالية أن تنتهي، لأن لديهم مشروعاً خطراً جداً كشفه للعلن نائب رئيس الوزراء والقيادي في الكتلة العراقية صالح المطلك . حيث ذكر أن هناك جهات في "الكتلة العراقية" تحمل منذ زمن مشروعاً لتقسيم العراق . مؤكداً أن هؤلاء ربما يستغلون التظاهرات لتحقيق مشروعهم الخطير . ودعا المطلك العراقيين إلى التمسك بوحدتهم وعدم السماح لمن يريد أن يقود البلد إلى هاوية التقسيم بتنفيذ مشروعه . ولم يكتف المطلك بذلك، إنما بعد أن شاهد علو الصوت الطائفي في التظاهرات دعا المتظاهرين إلى عدم حصر معاناتهم ومظلوميتهم بطائفتهم فقط . مؤكداً أن أبناء الطائفة الأخرى في الوسط والجنوب هم مظلومون أيضاً . كما أن المطلك وجه نقداً لاذعاً لرئيس الوزراء نوري المالكي متمهاً إياه بعدم سماع صوته وصوت الناس في السنوات الماضية الذي كان يتكلم عن المظالم التي لحقت بالعراقيين جراء قانون هيئة المساءلة والعدالة وقانون مكافحة الإرهاب وما فعله المخبر السري من جرائم خطيرة بحق الكثير من الأبرياء . داعياً المالكي إلى الاستقالة حفاظاً على وحدة البلد ودماء أبنائه . إن ما كشفه المطلك يمثل أمراً في غاية الخطورة على وحدة العراق، لأن تقسيم العراق إن حصل حسب رغبة بعض الدول الإقليمية فلا يعني انتهاء المشاكل واستقرار الكانتونات الجديدة للعراق المقسم، بل إن حروباً ومشكلات عديدة ستبقى ما بين هذه الكانتونات الصغيرة والضعيفة . الاتصال بالأكراد أما المالكي وبعد أن وجد أن الكثير من شركائه في "الكتلة العراقية" يهدفون إلى إسقاطه بكل الوسائل ومنها الوسائل غير الدستورية، فقد اتجه مجدداً نحو الحليف القديم الجديد وهو الطرف الكردي، حيث أرسل في الأسبوع الماضي وفداً مهماً من حزبه "حزب الدعوة الإسلامية" ومن ائتلاف دولة القانون لفتح باب جديد في العلاقات مع الكرد، بعد أن توترت هذه العلاقات بشكل كبير جداً في الأشهر الأخيرة من العام الماضي بسبب الخلاف على تشكيل قيادة عمليات دجلة في كركوك وما تلاها من تداعيات كادت أن تؤدي إلى إشعال فتيل حرب بين الجيش العراقي وقوات "البيشمركة" الكردية . حيث أراد المالكي الاستعانة بالكرد من جديد لإضعاف المتظاهرين ومن يساندهم من سياسيي الكتلة العراقية . إذ بإمكان المالكي تقديم الكثير من التنازلات للكرد في المناطق المتنازع عليها مقابل أن يحصل على دعم الكرد له في هذه الأزمة . وهذا الأمر لم يكن في حسابات الكثير من قادة العراقية باستثناء المطلك الذي كان عارفاً باتجاه المالكي نحو الكرد عندما يجد نفسه متضايقاً من خصومه الآخرين . تعطيل الانتخابات إن بعض السياسيين الذين فشلوا في إقناع الجماهير التي انتخبتهم في أدائهم البرلماني أو الحكومي أو السياسي اطلعوا على نوايا جماهيرهم التي بينت لهم أنها لن تقوم بإعادة انتخابهم مرة أخرى، لذلك يحاولون الآن استغلال أزمة التظاهرات لتعطيل انتخابات مجالس المحافظات التي من المؤمل أن تجري في العشرين من إبريل/ نيسان المقبل، لأنهم أصبحوا من المفلسين بين جماهيرهم، بينما هناك سياسيون وجدوا الفرصة في هذه التظاهرات لإسقاط الدستور والعملية السياسية، لأنهم اكتشفوا أنهم بوجود هذا الدستور لن يحققوا طموحاتهم، لذلك يحاولون الآن تعطيل الانتخابات عبر عدم الموافقة على أي مشروع حل يطرح من قبل جهات مختلفة في البلد . العودة للعنف الطائفي مع بقاء الأمور على وضعها الراهن من دون أن تقدم الأطراف المختلفة تنازلات كبيرة من أجل الحفاظ على وحدة العراق، فإن هناك مخاطر كبيرة جداً في قادم الأيام ستحيط بالبلد خصوصاً بعد أن أخذ الصوت الطائفي يرتفع ويتكلم بوضوح في الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة ويقابل ارتفاع هذا الصوت في الطرف الآخر تشكيل مليشيات طائفية أيضاً تستعد لمواجهة الطرف الآخر، وإن حصلت مثل هذه المواجهة بين العراقيين فإن مسألة إيقافها لن تكون سهلة هذه المرة نتيجة للوضع المحترق الذي تشهده المنطقة . حيث إن تداعيات ما يحصل في المنطقة لن يكون العراق في منأى عنها إذا لم ينتبه جميع أبنائه إلى تلك المخاطر الجسيمة التي تحيط بهم . الحلول الممكنة رغم كل ما يحدث الآن من تهديدات وتداعيات، إلا أن حل الأزمة الراهنة يبدو ممكناً إذا توافر مفهوم حسن النوايا وتم الاحتكام للدستور في تنفيذ مطالب المتظاهرين . وقد شعر الأمريكيون بخطورة الوضع في العراق، لذلك دعوا رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني إلى إطلاق مبادرة جديدة تهدف إلى احتواء الأزمنة الراهنة . حيث أبدى البرزاني استعداده لطرح مثل هذه المبادرة في القريب العاجل . إذ يتوقع أن تكون هذه المبادرة هي الحاسمة في إنهاء الأزمة، لأن عدم نجاحها سيكون له تداعيات خطرة جداً على وحدة العراق .