'فيس بوكب الوحيدينجاء افيس بوكب تمثيلاً لفكرة االحياة في مكان آخر'، وكان طبيعياً أن ينضم إليه كل المثقلين بحمولات الوهم والحلم والأمل، رغبةً منهم في خوض هجرة يومية، كنوع من التمرّد على حياة عادية قلما يغادرون فيها بيوتهم. جاء افيس بوكب ليتخلّص الوحيدون من وحدتهم، والحزانى من أحزانهم، فالموقع معجزةٌ لتوليفه فكرة الحلم في إطار محسوس. إنك تحلم أن تحقق ذاتك، وتحلم ألاّ تكون وحيداً، وحتى لو كنتَ كذلك، أعني وحيداً بلا تحقيق للذات، صار متاحاً لك التغيير والرفض للواقع القائم على تجريدك من كل ما يجب أن يكون لك. جاء 'فيس بوك' فعرفنا أهلنا في الدخل الفلسطيني، وهم لا يبرحون العيش في عنق الزجاجة. عرفنا الضفة الغربيّة والقطاع الغزيّ اللذين خنقتهما الحصارات المتتالية، وعرفنا فلسطينيي ال'48' وسوريي الجولان المحتلّ المغتربين على أرضهم كأقليّة صُنعت بالإكراه التاريخيّ. إذا كان الاحتلال الاسرائيلي يحاصر الحياة أمنياً وسياسياً واقتصادياً، فقد عرفنا غولاً آخر يخنق أهل الخليج، حيث تفعل الوهابية السعودية بالإنسان ما تفعله الصهيونية، إذ أنّ أفق مطامح الحياة أمام كل جيل جديد محكوم بلعنة 'المَطَاوعة'. الأمر نفسه على شواطئ الخليج الأخرى، لكنّ القوى الحاكمة تتجلّى في إحلال مجتمع العولمة كمجتمع نموذجي، رغم أنه يحيل الإنسان إلى سمكة سردين محصورة في علبة عملاقة هي 'المول'. مع الوقت رحنا نكتشف أننا مثل الضفة الغربية وقطاع غزة، مثل الب48ب والجولان، مثل الخليج العربيّ، كلنا في ثقب أسود يمتص أعمارنا، صحيح أن الأمر احتلال هنا، وقمع أصولي هناك، وتسليع عولمي شائن هنالك، لكن الصحيح أكثر أننا نحن الذين لم نكن في أيّ من السياقات السابقة، لسنا في منجى، فثمة مسخ الاستبداد السياسي جاثماً على حيواتنا كجبال لا تتزحزح بأقل من زلزال. تختلف الأشكال اختلافات طفيفة، لكنها واحدة في النهاية، نعم واحدة، وأكثر ما تراها واضحة في محصلتها النهائية: 'الإنسان المغترب'. هذا االإنسان المغتربب سيسمى االكائن الفيس بوكيب. وسيكون من اليسير رصد ملامحه العامة. نفسياً يشتكي من الحرمان العاطفي. سياسياً هو مقهور، مغلوب، متداع. اقتصادياً مهوبٌ تماماً ويعيش في حدود الكفاف إن لم يكن دونه. وثقافياً هو في أزمة هوية وبحث عن كيان. طبعاً كان يمكن، لو كنا وافري حياة، أن نجعل هذا المنبر مجرد موقع تواصل نتعاطاه بالقدر الذي يحتاجه أبناء هذا العصر كمنبر إخباري، وصندوق بريد، ومجال للنشاط الإنساني والاجتماعي، لكنّ نقصان الحياة الفادح جعله حياةً بديلةً، أو حياة موازية، فالذين لم يجدوا حياتهم جاؤوا، قبل أي شيء آخر، ليعرفوا هل هم أحياء أم فعلاً؟ وبناء على هذا الأساس حدثت قصص حب، أو علاقات جنسية، أو صداقات... لكنها، في الأغلب كي لا نعمم، كانت تتبخر وتتلاشى، ذلك أن افيس بوكب كمنتج عولمي حافظ على أصله، وأدخل الجميع إلى افخ العولمةب وسرداب الاستهلاك، فالوحيد الذي كان وحيداً فقط، تضخّم وصار حالة مستعصية في الوحدة والعزلة، لا سيما في الحالات التي استباح إنسانيتها الجنس الالكتروني. مع هزة الثورات العربية التي انفجرت انفجارات عنقودية، صاحبتها عودة إلى الوعي العمومي، وسؤال الحقوق والمواطنة، والبحث في الهوية، تحوّل افيس بوكب إلى ميدان عارم يشبه إلى حدّ كبير اميدان التحريرب المصري. ومع النكهة المصرية الساخرة والحية بات المرء يستطيع تحديد مذاق خاص لطريقة تفكير مدهشة. استمر الأمر وتعمّق مع تتالي سقوط الطغاة العرب، هؤلاء الذين يخجل كل ذي حس إنساني من قبولهم، طوال هذا الزمن، في صدارة حياتنا. لكن الانكسار البفيس بوكيّ' عاد وطغى في تأزّم أحوال الثورة السورية، والانتقال الدراماتيكي إلى اللغة الثأرية وتمجيد الموت واستشراء الدم. البطولة السورية على الأرض تحولت الى نواح وحقد على الجدران الالكترونية، بل صارت أرض وغى لا أرض أفكار وقيم، فتعالت همجيةٌ مضادةٌ لا تختلف عن الهمجية النظامية التي خرج الناس عليها. عاد الوحيد وحيداً. عاد الحزين حزيناً. والحياة التي كان يمكن أن نضخ فيها زبدة الأفكار والعواطف الدافئة تحولت إلى سراب مقبرة يلاحق الجميع. شباب كثيرون جعلوا صفحاتهم مساحات للصوت الإنساني. جمال وافر اكتشفناه هنا. هل يمكن القبول بتبديدها؟ هل يمكن الإذعان لموتها؟ لنتذكر كيف استطاع الشعر، ذلك المخلوق الحرون، أن يعود إلى الحياة صاخباً صخبَها، مجنوناً جنونَها، جامحاً جموحها. لنتذكر أن افيس بوكب أعاد للشعر بعضاً من وهجه (كي لا نعمم أيضاً)، فتقنية الكتابة فيه هي تقنية شعرية بالأساس، تقوم على الاقتصاد اللغوي والكثافة الدلالية. فأن تكتب على حائطك في افيس بوكب هو أن توقظ الشاعر الذي فيك، أن تذهب إلى المعنى، أن تقول ما تحسّه بلغة مقدودة من مفردات الحواس. نعم.. أتاح موقع مايكل زوبيرك الوقوف وجهاً لوجه مع الشعر، وخلال الوقت الذي مر كان هناك شعر وشعراء، وكان هناك ما يسرق روح الشعر ويأخذها إلى هوية جمالية أخرى، بما يحقق الحلم القديم في تحويل الشعر إلى كائن شعبي. أليس الشعر هو البداية؟ ألم تكن أسئلة الإنسان الأولى أسئلة شعرية؟ ألم تكن تعبيرات الإنسان عن علاقته بذاته والطبيعة، وعن الدين، وعن أفراحه وجنازاته.. شعراً؟ ثم ألم ينزوِ هذا الفن في الحياة انزواء احتجاجياً على الاستهلاك، والظلم، والزيف؟ في افيس بوكب عاش الشعر زمنه الذهبي. عادت فكرة المعلقات على الجدران، لكنها جدران الكترونية، والكعبة هنا متاحة للجميع. شعراء جدد أُعلنت ولاداتهم هنا، وشعراء من كل العصور واللغات والمدارس حضروا عبر صفحات اختصت بهم. ثم إن الشكل الجماعي للكتابة، سواء أكانت سياسية أم ذاتية أم نقدية، كانت مستلهمة مما درج على تسميته ببقصيدة البياضب أو االومضةب. يعني هي إعادة تشكيل شعرية للعالم، بذلك الشكل الذي حلمت به القصائد. حين يكون افيس بوكب مسرحاً لا معبداً، مدرسةً لا سجناً، سنفكّر بالثورة كقيمة ومعنى أبعد من ربطها بإزالة حاكم تافه. سنفكر بها كعملية استعادة لكل ما يخص الإنسان، بدءاً من محاربة الاغتراب وحتى تحقيق الحرية، وما يرتبط بهما. وقتها ستتحول هذه المساحة إلى ما يشبه أحلامنا، ووقتها ستكون معلقاتنا عليها أناشيد للحياة والحب.