لم يدر في خلد الظلاميين الذين عمدوا إلى قطع رأسي أبي العلاء المعري وطه حسين، ولو من خلال تمثاليهما التذكاريين، أن الفارق كبير جداً بين فكرة الأصنام وغايتها وبين الفن وغايته، ففي الأولى لا يكون الجمال هدفاً للأنصاب أو الأوثان، بل الغاية هي التزلف للخالق والاتصال به عبر وسيط حسي ومباشر، ذلك أن الجاهلين لم يكونوا قادرين على التواصل الدائم مع إله لا يرونه بالعين المجردة ولا على إيلاء المهمة للعقل المجرد، فأوكلوها إلى رموز أرضية محسوسة يستطيعون أن يحمِّلوها همومهم وهواجسهم المتعاظمة، ثم ما لبثوا أن استبدلوا الأصيل بالوكيل واستأنسوا إلى الأوثان نفسها لسهولة الاتصال بها ولأنها تكفيهم مشقة إعمال العقل والتفكر العميق، لكن الأوثان والأنصاب ليست من الفن في شيء، خاصة أنها قد تأخذ صورة صخرية عادية أو شجرة أو ثمرة قابلة للأكل، كما حدث لبعض الجوعى من "المتعبدين" السذج . ليست التماثيل أصناماً للعبادة بالقطع بل إن فكرتها متصلة اتصالاً وثيقاً بجوهر الفن نفسه الذي يقوم على استنطاق اللغة والمادة والصوت واللون للتعبير عن احتفائنا بالجمال وفتنة الوجود، أو عن ردنا على محدودية الحياة الزائلة بلا محدودية الفن وقدرته الرمزية على مواجهة الموت، وهو ما عبر عنه محمود درويش في جداريته الشهيرة بقوله "هزمتك يا موت الفنون جميعها"، ورغم أن الحضارة اليونانية احتفت بالتماثيل أكثر من أية حضارة مماثلة، فإن الآلهة آنذاك لم تلبس لبوس التماثيل، ولم تحل في أي منها، حيث كان البحث عن الجمال ومحاكاة نماذجه العليا هو هاجس النحاتين الأهم . ومع ذلك فقد ظلت العلاقة بين الفن والحياة واقعة دائماً في دائرة الالتباس والمشاكلة، ففي الأسطورة الإغريقية يعمد بجماليون إلى صنع منحوتة رائعة لامرأة في خياله ما يلبث أن يقع في غرامها مبتهلاً لفينوس أن تنفخ في أوصالها الحياة، وحين استجابت الآلهة له سمى المرأة غالانيا وتزوجها، في إشارة رمزية إلى أن الحياة أهم من الفن في نهاية الأمر، أما توفيق الحكيم فيذهب بالأسطورة نفسها إلى مكان مختلف حيث يطلب النحات العاشق من فينوس أن تعيد غالانيا التي خانته مع صديقه مرة أخرى إلى تمثال يحطمه قبل أن يضع حداً لحياته، وقطع رأس التمثال في هذه الحالة ليس إلا القطع الرمزي للمكان الذي يحيط بالدماغ ويحتويه، وحرمان المرأة الخائنة من إمكانية التفكير مرة أخرى . لم يكن هدف التكفير بين الظلاميين الذين عمدوا إلى قطع رأسي أبي العلاء المعري وطه حسين، ولو على صورتي تمثالين، هو النيل من التماثيل نفسها، بل من الفكر النير والمتحرر من العقد الذي امتلكه الرجلان المبدعان، فالتكفيريون يعلمون تمام العلم أن أحداً من الناس لا يعبد صاحبي "رسالة الغفران" و"الأيام"، وأن تمثاليهما ليسا سوى شكل من أشكال التكريم والاحتفاظ بصورتهما في الأذهان والقلوب، لكن المستهدف الحقيقي هو القضاء على أية محاولة جادة للتفكير وطرح المسائل الجوهرية التي تخرج العقل العربي من غيبوته وعمائه، وما حدث بالتالي هو النظير الموازي لمنع الكتب المميزة وإحراقها ومصادرتها، بمفعول رجعي يعود إلى "ألف ليلة وليلة" وغيرها ويخلص الظلام اليقيني من أي ضوء محتمل أو شكوك في غير محلها . ليست التماثيل هي الهدف، بل أصحابها حتى ولو لم يتم التذرع بالدين والتلطي وراء فكرة تحطيم الأصنام وحرمة إقامتها في ديار المسلمين . وإلا فلماذا لم تختر الفؤوس الحاقدة أعناق عشرات التماثيل الأخرى المنتشرة في عواصم المسلمين وحواضرهم الشاسعة؟ إن المستهدف الفعلي هو أبو العلاء نفسه، حين قال: "اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا/ دين وآخر دين لا عقل له" . والذي قال "كذب الظن لا إمام سوى العقل/ مشيراً في صبحه والمساء" . والمستهدف هو صاحب "في الشعر الجاهلي" الذي تجرأ على المس بالمسبقات اليقينية والمحرمات الثابتة، ودعا إلى إعمال العقل في كل ما تقاربه من قضايا ومسلمات ومعتقدات . لكن الأمر الأكثر إدهاشاً ومدعاة للتأمل هو أن يكون المبدعان "المغتالان" قد أصيبا في حياتهما بالعمى الكامل، وأن يدفعهما فقدان البصر إلى إطلاق أكثر الدعوات صلة بالتنوير في تاريخ العرب . وهو ما يذكر بقول الكاتب الأرجنتيني الضرير بورخيس من أن الله أعطاه العمى وضوء الكتابة في وقت واحد، أما التكفيريون فيرسبون في الظلمة الدامسة والعمى الكامل ويطعنون "الربيع" العربي في صميم قلبه وشميم وروده، قاطعين الطريق على أية محاولة جادة للخروج من العتمة .