يشكّل كتاب "الحداثة المعطوبة" للشاعر المغربي محمد بنيس كتاباً استشرافياً، يتحول فيه الشاعر إلى عراف قادر على قراءة المستقبل قراءة صحيحة . وهو منذ أن أصدر هذا الكتاب في 2004 كان يعي بأن العالم العربي مقبل على تحولات عميقة، ربما لم تكن واضحة بالشكل الكافي، أو لم يكن ممكناً التعرف إلى جميع ملامحها، ولا إلى هؤلاء "القادمين" الجدد، لكنه يقر بأن قراءة الملامح كانت دائماً شأناً عربياً خالصاً، ففي الرواية العربية أن "حدام" كانت تنذر قومها بوقوع الأسوأ، لكنها اليوم غير قادرة على القراءة، فقد ضاعت الرؤيا وتبلبلت المشاعر، وما عاد بالإمكان معرفة الحوافر التي تقترب، هل هي خيول أعداء، أم جيران سلم وسلام؟ دفع الربيع العربي الشاعر بنيس إلى معاودة إصدار كتابه "الحداثة المعطوبة"، في طبعة ثانية، مزيدة ومنقحة . ويكتسي هذا الإصدار رمزية خاصة، لأنه يأتي من جهة في سياق مقتضيات رياح الربيع العربي، وما حمله هذا الهبوب من متغيرات على الساحة السياسية، مست في العمق البنى الثقافية، ومقولات الحداثة التي ظلت تهيمن على الفضاء الثقافي العربي لأكثر من نصف قرن، جربت فيها الأشكال والأنظمة وانتقل فيها المثقف العربي من المعسكر الاشتراكي إلى التيارات الليبرالية والديمقراطية مع سقوط الجدران الفاصلة . هذا الكتاب، الذي صدر سنة ،2004 يعتبر من جهة ثانية قراءة استباقية للواقع الثقافي والاجتماعي وللتعبيرات السياسية التي كانت تمور في تلك الفترة، والتي أدت إلى حصول المتغير الجديد في الحالة العربية عموما، والحالة المغربية على وجه الخصوص، بوصول التيارات الإسلامية في أكثر من بلد عربي إلى سدة تدبير الشأن العام . هذا الوصول لم يكن مفاجئاً، ولا تعبيراً عن حالة ارتدادية، ولكنه تراكم جرى في الزمان والمكان وأدى إلى النتائج المتحصلة اليوم . والحقيقة أن قراءة كتاب "الحداثة المعطوبة" بعين الحاضر يفتح الباب على الانتباه إلى الكثير من التفاصيل ومن المسلكيات الرمزية، التي جرت في الماضي القريب، ومن الحوادث العرضية أو الفواصل الجوهرية التي عاشها وعايشها المثقف العربي، وكانت في جملتها وتفصيلها تشير إلى تدهور المشروع الحداثي العربي وسقوطه وفشله في الوصول إلى الناس والجماهير العريضة . كما أن الكثير من التعبيرات الاجتماعية التي بدت طاغية في المجتمعات العربية أشرت على أنه من الصعب تماما المرور إلى الحداثة في ظل الشروط الراهنة، وفي ظل حالة الارتكاس الثقافي وغياب مشاريع تترجم نوايا الدولة الحديثة الخارجة من الأطر التقليدية . يكتب بنيس في المقدمة الجديدة لكتابه "عندما أقدمت عام 2004 على جمع هذه المذكرات ونشرتها في كتاب كنت أريد أن أتقاسم مع غيري شهادة على زمننا الثقافي . لم أختر موقع المؤرخ ولا موقع المفكر ولا موقع المحلل . موقع الشاهد قبل كل شيء، هذا ما اخترته . شاعر يشهد على زمنه الذي يعيشه، في فترة انهيارات متوالية لأفكار ومواقف كان القائلون بها والمعبّرون عنها من قبل يمثلون حداثة فاعلة في زمنها، فإذا هم يندمون ويتبرأون مما فعلوا" . تكتسي مقدمة "الحداثة المعطوبة" أهمية خاصة، لأنها تعيد موضعة الأفكار الواردة في هذا الكتاب والقراءات المقدمة في ذلك الوقت، ضمن سياق جديد، قوامه أن الماضي القريب ليس إلا جزءا من الحاضر، وأن المستقبل التي يتشكل في الأفق ليس إلا وليد تراكمات الأمس واليوم، والتي تتم في غفلة من الفاعل الثقافي والاجتماعي والسياسي، وتنتج فعلها الخاص بها وأثرها في البنى الأخرى المجاورة لها . فهاهم الإسلاميون الذين كانوا يحملون تصورات خاصة عن الإبداع والحرية والفكر يصلون إلى السلطة، عبر ثورات الربيع العربي، وعبر صناديق الاقتراع، والاحتكام إلى اللعبة الديمقراطية التي كانوا يمجدونها في السابق ويعتبرونها منتوجاً غربياً لا يجوز الاحتكام إلى قسطاسه . يؤكد بنيس هذا المنحى حين يقول: "وإذا كان الربيع العربي فاجأنا مثلما فاجأ العالم، فإن وصول الإسلاميين إلى السلطة، عن طريق الديمقراطية، التي كانوا يكفّرونها ويكفّرون المنادين بها، لم يكن مفاجئاً . هل هو المآل الحتمي للحداثة المعطوبة؟" . وفي سياق الإجابة عن هذا السؤال، يؤكد محمد بنيس أن هذا المآل قادت إليه الأعطاب الثقافية، لذلك فإن الخلل ثقافي ومن طبيعة ثقافية، ويفكك هذا المعطى بالإشارة إلى أن العطب بدأ من التعليم ومن مضامينه وطرائقه وامتد إلى السلطة والمؤسسة بالمعنى الأوسع لكل منهما، وفي الحياة العائلية والاجتماعية والسياسية والثقافية . ويرى بنيس أن هذه العناصر هي المشتركات التي يقتسمها المغرب والمشرق، على حد سواء . يقول: "إنه المشترك، الذي لا ينفصل فيه المشرق عن المغرب، ولا يختلف فيه تقدمي عن محافظ . قام التعليم على محاصرة الحرية، في اللغة والأدب والفنون والفكر . إذ إن الحرية، حرية الفرد والجماعة، هي مبدأ الحداثة الأسبق على كل مبدأ سواه . إن ثقافة الحرية هي ثقافة العدل والمساواة، بين جميع أبناء الوطن الواحد، في الكرامة والمعرفة والاختيار والاعتقاد والحلم والخيال والتعبير . ثقافة الحرية هي شهادة ميلاد المواطن في دولة الحق والقانون الذي يساوي بين الجميع ويتساوى فيه الجميع" . ويمضي بنيس في تحليله للآثار الوخيمة للإجهاز على التعليم بالقول إن "التعليم الذي حاصر الحرية، هو نفسه الذي عمم الجهل، فالجهل هو الكلمة العليا لمنع الذاتيات بأفقها المفتوح على اللانهائي، وهو بالتالي رحم العبودية بجميع أشكالها" . وفي ما يخص حكمه على وصول الإسلاميين إلى الحكم، يؤكد بنيس أن هذه خطوة أولى لتسلّم الإسلاميين السلطة، وللمرور إلى تطبيق الإسلام السياسي . ويؤكد بنيس "لا أتسرع في إصدار حكم على المستقبل، ليس ذلك شأني، لكن ما أشعر به هو أن ضرورة نشر هذا الكتاب، اليوم، تفوق ما كنت شعرت به يوم نشرته للمرة الأولى . تصاعد أعطاب الحداثة، من خلال مثقفين ومؤسسات ثقافية، في المغرب والمشرق، لا يمكن أن نعتبره مجرد وقائع عادية، من طبيعة الحياة السياسية والثقافية، ولا يخص زمناً سياسياً بعينه . إننا نعيش وضعية أصعب من السابق . أبرز علاماتها انسحاب كلمة "الحداثة"، في كل من الحقلين السياسي والثقافي" . يؤمن بنيس من خلال إعادة نشر هذا الكتاب بما يسميه "المقاومة الثقافية"، ويرى بأن هذه المقاومة هي اللغة الممكنة في عالم اليوم، بل يعتبرها اللغة الوحيدة التي يمكن بواسطتها إعطاء معنى للحياة، وحسبه، أن "الوفاء للمقاومة الثقافية هو ما يسمح للوعي النقدي أن يستكشف مناطق أخرى من فضاء الحرية، لأنه الفضاء المفتوح على مستقبل الإبداع والأمن، اختيار أتقاسمه مع غيري، وأظل متشبثاً بهذا القليل، المستحيل" . لا تشمل الطبعة الثانية جديداً، باستثناء إضافة وحيدة عن "المكتبة المفتقدة" في البيوت، وفيها يتتبع محمد بنيس عبر محطات وصور أشكال غياب المكتبة من البيوت المغربية . هذا الغياب الذي يعتبره دالا وموحيا، ويؤكد على العديد من الحقائق القاسية . يكتب "هي المكتبة المفتقدة، وللملاحظة أن تأخذنا إلى التأويل، ما هذا المجتمع الذي لا يعطي للمكتبة اهتماماً في هندسته المعمارية ولا في عنايته بالتأثيث؟" . ويضيف في موضع آخر "كيف يمكن تناول مسألة التحديث في مجتمع من غير تناول مسألة التكوين الثقافي المستمر؟ أو التكوين الثقافي عن طريق الكتب؟ أو التكوين الثقافي المتعدد الاهتمام؟" . ويشير محمد بنيس إلى أن هذه الملاحظات من شأنها أن تقود إلى دلالة المكتبة المفتقدة في البيوت، والوقوف على عدد من أشكال البيوت التي خالطها والفئات الاجتماعية التي تعرف إليها، والتي تعرف غياباً لافتاً لركن المكتبة ضمن الإطار العام لهندسة البيوت، سواء كان هذا البيت بيتاً صغيراً أو بيتاً كبيراً أو فيلا أو قصراً، أو بيتاً تقليدياً أو بيتاً حديثاً، على عكس البيوت الأوروبية التي كيفما كان شكلها أو حجمها أو درجة اتساعها، فإن للمكتبة حيزاً داخل الفضاء، بل تكاد تكون الجزء البارز من ديكور البيت، فهناك مكتبة غرفة الاستقبال، ومكتبة غرفة النوم ومكتبة الممر ومكتبة الحمام، وهذه الحيزات تدل على مكانة المكتبة في الهندسة وفي الحياة الاجتماعية والثقافية الأوروبية . إنها جزء من الوجدان والعقل الغربيين .