في مقال الجمعة الماضي ب «العرب»، تناولت بالتعليق كلمة وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري خالد بن محمد العطية، في الندوة الافتتاحية لمنتدى شبكة الجزيرة السابع، بأن قطر تدعم الشعب المصري، وليس فصيلا معينا، وعندما توقع اتفاقيات فهي توقعها مع من اختاره المصريون في السلطة، وأنها تقف على مسافة متساوية من مختلف القوى المصرية، وتربطها علاقات مع الجميع. وذكرت أن هناك دليلا عمليا على صحة هذا الأمر، حيث تحولت الدوحة خلال أيام المنتدى إلى مصر مصغرة بكل أطيافها الفكرية والسياسية، حيث حضر الليبرالي بجانب الإخواني، والعلماني مع السلفي، والناصري بجوار الوفدي. خلال وجودي في الدوحة أيام المنتدى، تعرفت عن قرب على الدكتور أيمن نور، مؤسس وزعيم حزب «غد الثورة»، حيث كان أحد الحضور الفاعلين، وشارك في ندوة نقاشية ضمت نخبة من المسؤولين والمفكرين العرب. مدير الندوة الإعلامي علي الظفيري قدم أيمن نور بعبارة لخصت المأساة المصرية: «أخيرا نجد ليبراليا في مصر يؤمن فعلا بمعنى الليبرالية، ويعترف بنتائج الصناديق»! العالم كله بات يضحك على كثير من ليبراليي مصر. أصبحوا مسخرة في العالمين. صاروا فُرجة أمام أمة لا إله إلا الله. يقولون منذ زمن إنهم يتمنون أن يروا في مصر انتخابات حرة، يقول الشعب فيها كلمته، ولتأتِ الصناديق بمن تأتي. بعضهم صرخ أنه لو أفرز الاقتراع شياطين أولاد أبالسة فسيعترف بهم لأنها أصول الديمقراطية، ونحن نعرف الأصول لأننا أولاد أصول. كلامهم معسول ولسانهم حلو. لكن وقت الجد، وحين تبين الخيط الأسود من الأبيض، اكتشفنا أن كلماتهم مجرد «وعود وعهود لا تصدق ولا تنصان». أثبتوا أنهم يؤمنون بالديمقراطية فعلا، لكن بشرط بسيط: أن تأتي بهم وحدهم. أظهروا أنهم مع الصناديق الشفافة، ولما تأتي بغيرهم فإنها تصبح «صناديق فيميه» ومهببة ومنعول من اخترعها ومن صوّت فيها ومن رآها ولم يطلب الحماية الدولية. هم انكشفوا ليس فقط خلال الانتخابات الرئاسية. بل بعد نتيجة انتخابات مجلس الشعب «المنحل». لما حصل الإسلاميون على أغلبية البرلمان، حصل لهم حالة هيجان.. فريق منهم راح ينصب مناحة في الفضائيات على الأجواء الظلامية والأيام السودا التي تنتظر مصر على أيدي «الكائنات البدائية» التي احتلت مقاعد نواب الشعب. وفريق آخر ذهب للمجلس العسكري واقعا في عرضه وطوله ونياشينه ودباباته أن يبقى عامين أو ثلاثة أو خمسة في السلطة، وأن يعتبر قصر الحكم بيته ومطرحه. بينما الفريق الثالث جابها من قصيرها وطالب بمنع نحو 70 مليون مصري من بين ال90 مليونا، من التصويت باعتبارهم قصّر، ولا يعرفون مصلحتهم، ولا يفهمون تنظير السادة المثقفين في مقاهي وسط القاهرة. أما بعد نجاح الدكتور محمد مرسي، ووصوله إلى قصر الاتحادية، فهنا وقعت عليهم صاعقة لم يفيقوا من هولها حتى الآن. هاموا على وجوههم في أروقة المؤتمرات ومساحات المقالات ينعون مصر التي ياللعار يحكمها رئيس منتخب. الوحيد الذي نجا من هذا العته العقلي هو أيمن نور. أثبت فعلا أن الليبرالية لها ناسها ورجالها الذين يؤمنون أنها تعني ببساطة ودون كلام مقعر «قبول الآخر» أيا كان فكره أو منهجه. شارك وحزبه في العملية السياسية بإيجابية. من الحوارات مع مؤسسة الرئاسة إلى الذهاب لصناديق الاقتراع في الاستفتاء على الدستور. إنه سياسي حقيقي وليس مراهقا سياسيا، لذلك يدرك أن المقاطعة لا تجدي، خاصة مع نظام منتخب لم يسطُ على السلطة. كان طبيعيا أن يطلقوا عليه صبيانهم في الإعلام لينهشوا لحمه، ويتهمونه ببيع نفسه للإخوان. لكنهم من جهلهم نسوا أن حزبه هو من رفع القضية التي حكم فيها القضاء بتأجيل انتخابات البرلمان المقبلة، وهو الحكم الذي نزل بردا وسلاما على مهاجمي نور،لأنهم يعرفون أنهم لا ناقة لهم ولا جمل في أي احتكام لرأي الشارع، فهم بتوع مقاطعة! المفارقة أن أيمن نور على عكس شتاميه، له تاريخ طويل في العمل والنضال السياسي لا يمكن التشكيك فيه، أو المزايدة عليه. في صباه دخل وهو ابن 15 سنة فقط سجون السادات حينما طالب في بيان بعدم استضافة شاه إيران الذي خلعته الثورة الإسلامية. دخل مجلس الشعب وكان أحد أصغر الأعضاء في تاريخ البرلمان، ومثالا للمعارض القوي، ومناصرا لحق كل التيارات في العمل الشرعي، ووقف ضد اعتقال الإسلاميين حتى لو اختلف معهم فكريا. ثم أحدث زلزالا هز أركان نظام مبارك، بعدما ترشح أمامه في الانتخابات الرئاسية الوحيدة التي شهدها عصر الرئيس السابق. خاض الانتخابات بروح المنافسة الحقيقية ولم يكن ضيف شرف مثل باقي المرشحين. لذلك دفع الثمن: «5 سنوات سجنا وتعذيبا، وعمليات ممنهجة لتشويه سيرته ومسيرته». رأى فيه النظام أكبر خطر على مشروع «التوريث»، لذلك كان المطلوب تدميره نفسيا، وجعله نسيا منسيا. لكنه خرج أقوى وأنضج مما كان، وشارك في الثورة التي أطاحت بالديكتاتور. وأثبت معدنه الأصيل بعدم الشماتة في جلاده يوم تنحيه، وطوى صفحة ما ناله منه من أذى، بل وطلب بعد ذلك من رئاسة الجمهورية نقل الرئيس السابق إلى المستشفى رأفة به. في مشاركته بمنتدى الدوحة، كان واضحا في آرائه بأنه معارض حقيقي، وليس معارضا على جثة الوطن مثل دعاة الفوضى والخراب. وسط مشهد الاستقطاب الحالي يبدو أيمن نور يقود تيارا ثالثا يدعو إلى شراكة وطنية جادة لإنقاذ مصر من أزمتها. في جولة لنا بسوق «واقف» التراثي الرائع بالعاصمة القطرية، اكتشفت فيه جوانب جديدة. إنه رغم نخبويته وثقافته الواسعة، كسياسي ورجل قانون وصحافي وكاتب، فإنه ذكي جدا في التعامل مع الناس البسطاء. يتحدث بلغتهم ويجاريهم في اهتماماتهم. ونحن نسير في السوق بدا وكأنه في شوارع القاهرة وسط محبيه وأنصاره. المصريون المارون بالسوق كانوا يوقفونه.. يأخذونه بالأحضان، ويسألونه نفس السؤال: «مصر رايحة على فين». كان يطمئنهم، ويشرح لهم بطريقة بسيطة المشهد الحالي، قبل أن يودعهم ويدعوهم لرؤيته في القاهرة لو احتاجوا أي شيء. أيمن نور سياسي شاب، له رؤية، ونموذج لليبرالي الذي لا يعرف معنى الإقصاء، ويقف على مسافة واحدة من كل القوى المصرية. أظنه -وبعض الظن ليس إثما- يصلح رئيس وزراء توافقي، أيا كانت نتيجة الانتخابات البرلمانية المنتظرة. الكرة في ملعبك يا دكتور مرسي!