مواضيع ذات صلة صالح الديواني التحولات السياسية في العالم العربي لم يقبلها المثقف بشكل مرض، لأنها لم تمثل الحد المتوسط على الأقل من طموحاته وتطلعاته لفكرة التغيير، وهو ما يبرر صمته وحيرته إزاء ما حدث ويحدث حتى اللحظة عبر التاريخ شكلت الملاحم التنويرية الإنسانية بطرقها ومناهجها المختلفة، محور اختلافات فكرية عميقة، تمرد بعضها جوهرياً على مضمون المألوف الذي نشأ عليه النسق الاجتماعي، وأخذ بعضها شكل الحدة والصدام في أحايين كثيرة، وكان ذلك نتاجاً طبيعياً لتنوع المدارس الفكرية في المكان الواحد والمنطقة الواحدة. وتشابهت السحنات الثقافية وعبرت الأماكن عن نفسها من خلال العادات والتقاليد والممارسات. وكان المثقف على الدوام حجر الزاوية الرئيسي في كل تلك المجتمعات، والشخصية الأكثر تأثيراً في أوساطها. وقد استمر في تأديته لدوره التنويري العظيم. وحالياً ما زال المثقف متعاطفاً مع قدره الذي يجعل منه وسيطاً وحيداً لكتابة التاريخ الإنساني، وتشكيل اللوحة المستقبلية لعالمه، بل لعوالم أخرى من حوله أيضاً. لكنني اليوم لن أتفق مع كل من يذهب إلى تجيير الفضل الكبير للمثقف العربي، في التحولات السياسية التي حدثت في الوطن العربي مؤخراً، والتي لا تزال انفعالاتها مستمرة إلى وقتنا الراهن، وقد تواصل استمرارها ربما وبشكل أكثر اختلافاً فيما يخص الطريقة، لكن النزعة إلى التغيير هي ما تجتمع عليه حتماً. فالمثقف العربي لم يحرك ساكناً في نهاية المطاف، بل ظل مراقباً أكثر منه مشاركاً، ربما لإحساسه العميق بأن الحدث ليس له فيه ناقة أو جمل. وهو موقف يعبر عن حجم الارتباك والحيرة التي طغت على رؤيته للمشهد وتحولاته المتلاحقة، ومثلت بالتالي موقفه مما يحدث. ولكنني أتفق مع من يذهب إلى أن تلك التحولات ربما لم يقبلها المثقف بشكل مرضٍ، لأنها لم تمثل الحد المتوسط على الأقل من طموحاته وتطلعاته لفكرة التغيير. وهذا قد يكون تبريراً معقولاً لصمته وحيرته إزاء ما حدث ويحدث حتى اللحظة. ونظرته الحزينة إلى الصورة من واقع رفضه ل(البراغماتية)، الواقفة خلف الأحداث والتي يقرر البعض من خلالها الأفعال الصائبة والأفضلية، مما يعني أحادية الفكر والقرار المسيطرين على الموقف، واللذان تم بهما دفع الشارع باتجاه التغيير تحت راية مبدأ (نيكولا مكيافيلي) "الغاية تبرر الوسيلة" أيضاً. وهو ما أظهرته ودللت عليه بالفعل صراعات وقفزات (السياسي) الخاطفة إلى واجهة الأحداث! من هنا قد يرى المثقف أن الحدث قد فقد الموضوعية وأخذت المبادئ (كالحق والعدل والمساواة...إلخ) الشكل النسبي المعتمد على مزاجية وقيم ورؤية ومصالح المُقرر لها بالكيفية والكمية، وذلك ما لم يستسغه أو يرغب المثقف العربي (الإيديولوجي) في رؤيته كنتيجة لعملية التغيير التي حلم بها دائماً. جزئياً قد يكون ذلك صحيحاً جداً، لكنه لا يعني بالضرورة مضمون الحقيقة الكاملة لما وراء الأحداث، فالمثقف الذي وضع نفسه في حالة خصام شبه تام مع المتغيرات حتى الآن، قد وجد بعضهم نفسه فجأة منتقلاً من جانب المعارضة إلى الجانب الآخر المعني بالحكم. فوقع في حيرة وإشكالية لم يكن يوماً ليضع نفسه فيها لولا التحولات المتسارعة التي وضعته فيها بفجائية محيرة أيضاً، لكنها لم تضع كثيرا غيرهم من المثقفين على نفس الطريق. والقول بأن المثقف لعب الدور الأساسي في تلك التغييرات ليس مقبولاً بجملته، إذ لا يمكن لنا إغفال الدور العظيم الذي لعبته الآلة الإعلامية، في تصميم الشكل والصورة التي قلبت موازين عقلية وثقافية وفكر المجتمعات العربية بشكل كبير وعنيف، وكان ذلك خلال فترة وجيزة لا تتجاوز الخمسة عشر عاماً، في تحد كبير وخطير لمعظم المثل التي يؤمن بها المثقف العربي، وهي التي نجح في استغلالها السياسي لصالحه بطريقة سهلت له تنفيذ أغلب مشاريعه، وربما حدث ذلك لأن المثقف ليس انتهازياً بطبعه وثقافته، فكان أن أكد ذلك الدور تحول المثقف إلى الانعزالية المقيتة عن المجتمع، وظهر على إثر ذلك شكل جديد لروح المثقف يمكن لنا تسميته بحالة (المثقف الانعزالي)، وبالتالي تحول في طريقته التنويرية إلى الفردية التي وضعته هي الأخرى في معزل عن الشكل الثقافي الجماعي، وليكون في شكله الجديد (المحارب الفردي) لأي شكل سلطوي. وهنا وقع في مأزقه بكل ما فيه من مأساة وأنانية غير مبررة. وأعتقد أن فترة التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي كانت فترة مؤثرة كثيراً على نظرة وتفاعل المثقف مع الشكل الثقافي العالمي الجديد، ورسمت الآلية التي يحاكيها المثقف حالياً.