بدأ الربيع العربي في تونس منذ عامين وثقافتنا ليست في تمام عافيتها، نتيجة يخرج بها كل متابع لأحوال هذه الثقافة خلال العقد الماضي على الأقل وتؤكدها أيضاً رؤى وطروحات ظلت على مدار عامين تراوح حول دور المثقف، تتساءل عن إبداعه وتنظيره لهذه الثورات، فضلاً عن المشاركة فيها . مؤخراً، وصل الأمر بالبعض إلى التحذير من تحول هذا الربيع إلى خريف أو شتاء، وعاد بعضهم إلى قاموس بكائيات أثير، طالما اشتهر به الكثير من المثقفين العرب، وما بين الربيع والخريف، والتردد في المشاركة والإبداع وإطلاق الأحكام، لم يتحدث أحدهم يوماً عن نقد شامل لأوضاع ثقافية متردية منذ سنوات عدة، ولم يشر آخر إلى أن الخريف المقبل المحتمل سيكون نتيجة لضعف النخبة الثقافية: ضبابية رؤيتها وتكوينها وغياب التحامها مع نبض الشارع وعدم قدرتها على صياغة مشروع نهضوي يحظى بالقبول. إن الحديث عن أزمة في علاقة الثقافة بأحداث الربيع العربي ظهر على استحياء في تونس عندما ردد المتظاهرون قصيدة أبي القاسم الشابي "إرادة الحياة"، وفي مصر استعيدت أشعار أحمد فؤاد نجم وبيرم التونسي . . إلخ، وبدا لافتاً غياب الأصوات الجديدة، الأمر الذي دفع البعض، ومعظمهم من الاجيال السابقة، إلى كتابة قصائد عدة صيغت على عجل للتعبير عن ذلك الحراك، وبدا لافتأ مرة أخرى أن هذه القصائد لا ترقى إلى مستوى الحدث، وامتلك فاروق شوشة القدرة على نقد الذات ليؤكد في تعليق له عن الشعر المواكب لثورة 25 يناير أنه لا يرضى عن قصيدته وقصائد الآخرين، لقد أدخل سؤال الشعر الإبداع بأكمله في اختبار القدرة على التعبير عن لحظات التحول التاريخي مقارنة بلحظات أخرى سابقة وامتلأت الساحة الثقافية بعلامات استفهام، وربما من الشعراء أنفسهم، حول هذه الظاهرة، ولم يلتفت أحدهم إلى ان عقوداً من الجدل بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة والنثر، التي ربما أفقدت الشعر غنائيته، ومن الحديث عن زمن الرواية، وغياب النقد وضعف المواهب وتردي أحوال اللغة العربية كان لابد لها من وضع الشعر موضع المساءلة . بعد الشعر دخلت الرواية إلى المشهد على أعتبار انها أصبحت سيدة الفنون الإبداعية، وفي هذه المرة أدخلها "بعض" الروائيين أنفسهم، ونقول هنا "بعض"، فمع مرور الوقت سيتحول هؤلاء إلى "الأكثرية" . في البداية سمعنا احدهم يؤكد أنه تنبأ بالثورات قبل اشتعالها في روايته، وقرأنا لآخر أنه ليس من الضروري التنبؤ بما سيحدث مباشرة ولكن يكفي فضح الواقع بصورة مباشرة أو مجازية . . . .إلخ، بعد ذلك أعلن الكثيرون نيتهم كتابة رواية معبرة عن تلك الثورات، وتناول فريق من المتابعين والمحللين السمات الفنية الواجب توافرها في مثل هذه الرواية، ومع الاقتراب من "الخريف" سادت نغمة أخرى، نغمة التأمل والترقب والانتظار حتى اكتمال الحدث واختمار الإبداع . إن سيادة النغمة السابقة يمنعك من ان تسأل منذ متى يحتاج الشاعر إلى التأمل لينفعل بما يدور حوله؟، وإذا كان الأمر في الرواية يحتاج إلى سنوات فأين هي الرواية التي يمكن تصنيفها في باب أدب الحرب برغم كل الحروب التي خاضتها أمتنا خلال القرن الماضي؟ لقد كان الجميع ولا يزالون في انتظار "أدب الثورة" . وبعد الشعر والرواية تكاثرت الأسئلة عن مهام وأدوار المؤرخ والمشتغل بعلم الاجتماع والمنظر، أصبح الإنتاج الثقافي كله على المحك، وصدرت كتابات هنا وهناك حاول أصحابها من خلال وصفها بالتوثيقية أو الصحفية الهروب من النزعة العلمية أبراء للذمة من جهة، وإخفاء لعدم امتلاك أصحابها لمناهج وأدوات تاريخية وسيسيولوجية جديدة تستطيع التعامل مع الحدث الراهن، لقد وقع المؤرخ العربي على سبيل المثال في أزمة حادة، فمدارسنا التاريخية التي ترفض حتى الآن الصحافة كوثيقة معتمدة في التأريخ فوجئت بحدث اللاعب الأساسي فيه الصورة الفضائية والإليكترونية . صمت المفكر أهم فصل في هذه القصة، لقد تميز العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بخرس تنظيري عربي واضح، وسكتت المعارك الفكرية تماماً، وهى ظاهرة يبررها موضوعياً غياب نخبة من ألمع الباحثين العرب خلال السنوات الماضية وتوقف المركز الغربي نفسه عن إنتاج الأفكار، وخطاب امتلأ بقضايا أعيد تدويرها مراراً وتكراراً حتى وصلت إلى طريق مسدود، وصراع لم يحسم بين قوى حداثية وتقليدية استنفذ حججه وبراهينه كافة، وأجله التاريخ لنشاهد وقائعه على الأرض الآن في مصر وتونس، والملاحظ أن تحذيرات الكثير من باحثينا بأن هذا الصراع الذي يخفي في جوهره تشوهاً في البنى الاجتماعية، واعتبرها الكثيرون نوعاً من الترف الفكري، يتحول تدريجياً إلى صدام ربما لن تحمد عقباه . لقد جاء الربيع العربي وثقافتنا في لحظة ضعف تاريخي، كانت المسألة تحتاج إلى جرأة الاعتراف بهذا الضعف فحسب،لا البحث عن حجج لا تصمد أمام أي تحليل هادئ . إن مقولات مثل: "ما حدث أكبر من الخيال"، أو "إن الثورات فاجأت المثقف العربي"، أو"إن الثورة لم تكتمل كمشروع تغييري متكامل الأنساق الثقافية" . . . .إلخ هي من قبيل الخداع، فلا فضاء أكبر من الخيال إذا كنا نستوعب مداراته بالفعل، فضلاً عن أنها تمثل إدانة للمثقفين، الغافلين عما يدور حولهم، وتناقضاً لأصوات عدة أدعت التنبؤ بالمقبل ، ولكننا لم نخرج بعد من سوق الأفكار حيث لكل مقام مقال ولكل سؤال نقدي إجابة جاهزة ومعدة سلفاً، مقولات تأملها يؤكد أننا أمام نوع من المضحكات التي ستكون ذات نتائج كابوسية تتجلى بالسلب على المثقف العربي بالدرجة الأولى، وستتحول رويداً رويداً إلى "بكائيات" ثقافية . إن النخبة المثقفة هي تلك الفئة التي كان ينبغي أن تكون في طليعة المشاركين في الربيع العربي، التي كان ينبغي أيضاً أن تكون إبداعاتها مؤثرة في العقول والوجدان ومتخلصة من أسر الواقع ومتقدمة عليه، ملهمة للخيال، والأهم من ذلك كله امتلاكها لمشروع نهضوي يستظل به الجميع، مجموعة من الينبغيات غيابها، يؤكد أن الثقافة العربية تفتقد القدرة على الاستشراف أو حتى المواكبة، تتأخر في رد الفعل، وهو ما فجر سؤال الثقافة وموقعها في هذه الثورات . لا يمكن تلخيص أزمة علاقة الثقافة بالربيع العربي في قصيدة شعرية ينتظر الشباب ترديدها بحماس أو رواية تصيغ ما حدث في سرد فني عذب وجذاب، أو حتى إبداع "غرافيتي" يشيد به الجميع . . إلخ، ولكن الأزمة الحقيقية تكمن في غياب الأفكار التي تشكل حداً ادنى من التوافق في: السياسة وشكل مؤسسات المجتمع والعلاقة بين الطبقات والشرائح المختلفة والتوجه الإقتصادي والمسألة الثقافية وعلى رأسها جدل الوافد والموروث والبوصلة الحضارية، وفي كل حقل من هذه الحقول سنجد مئات الرؤى التي يتسم كل منها بعدم التماسك النظري وضعف الإحاطة بمفرداته الخاصة، فضلاً عن أنها تنفي بعضها بعضاً، صورة تؤكد أننا لم نعرف يوماً الحوار البناء او ما أطلق علية البعض عشرات الأوصاف بدءاً من حوار الطرشان وحتى عقلية التخاصم مروراً بالفصام النكد . وإذا بحثنا عن روح مميزة لعشرات الأدبيات التي وضعها أصحابها تحت مسمى المشروع الفكري المحلل لإشكاليات "الاسم العربي الجريح"، على حد تعبير عبد الكبير الخطيبي، والمنقذ للأمة من عثراتها لوجدنا التشاؤم المثبط للفعل، فهذا يعلن إستقالة العقل العربي، وذلك يؤكد أننا كائنات تاريخية وثالث يرسخ لحضارة النص ورابع ينظر للثبات، واللافت أن هذه المشروعات اعتبرناها ذروة النشاط العقلي العربي خلال الربع الأخير من القرن الماضي . تكتمل علاقة الثقافة بالثورة من خلال الالتفاف إلى النخبة كقوى فاعلة وذات تأثير مباشر في ما يحدث على الأرض، هنا نقرأ أيضاً عشرات الحجج التي يسوقها المثقفون لتبرير مواقفهم التي تتبدل من بلد إلى آخر ومن هذا الحدث إلى ذاك، وهي حجج مكررة وربما إعادة تصديرها في كل مناسبة جعل البعض يمل من هذا الخطاب وربما لا يلتفت إليه كلية . لقد كانت ثقافتنا في حاجة إلى مراجعة شاملة قبل اندلاع الربيع العربي، والحاجة الآن أشد، فمقارنة مع الثورات التاريخية الكبرى وحتى الثورات العربية مثل ثورة 23 يوليو/تموز ،1952 تؤكد هشاشة راهننا الثقافي، لقد كانت النخبة الثقافية آنذاك محددة الأفكار، فضلاً عن قدرتها على إشاعة هذه الأفكار من خلال التواصل مع الجمهور، والأهم تغليف أفكارها بروح التفاؤل، تنظر إلى الأمام عابرة لكوابيس الاستعمار والفقر والجهل والمرض، أما تلك النخبة الراهنة، المنقسمة والعاجزة عن التحاور ضبابية الرؤية متغيرة المواقف التي بدأ فريق منها بعد أقل من مرور عامين في البكائيات وجلد الذات، فحديثها عن أي خريف مقبل يخفى أن ثقافتنا هي التي تعيش خريفاً وضعوها فيه منذ عقود، خريف الثقافة حين يخذل الثورة .