| إعداد بشاير العجمي | برز في الحراك السياسي للشعوب العربية رغم تباعده المكاني وتباين مرحلته التاريخية أحيانا جملة من المشاهدات متصلة بحجم مشاركة المرأة ودورها في المجال العام وحقوقها كمواطنة. فالمتتبع لتاريخ الأزمات السياسية المعاصر في المنطقة والتي أخذت شكل الاحتلال المباشر لدولة أجنبية أحيانا، وصورة «الثورة» الشعبية كما يجري في دول «الربيع العربي» أحياناً اخرى يلاحظ اختلافات وجود المرأة في الظرف العام، فبعد حضورها الاستثنائي ومجهوداتها ذات الطبيعة الخاصة وقياديتها في زمن الحرب والأزمات تراجعت تلك الثائرة متخلية عن مكتسباتها بعد انجلاء الشدة أو خفوت شدة العاصفة. فالكويتيات اللواتي انتظمن للمرة الاولى حول هدف عام متصل بالحق الوطني الكويتي وكرسن كمقاومات للغزو العراقي في عام 1990 لم ينجحن في كويت ما قبل الغزو ومنذ تأسيس الدولة الحديثة في تحقيق تضامن فعلي على مستوى العمل النسوي وذلك لوجود انقسامات اجتماعية بينهن تابعة لخطوط الطبقة والقرابة(1). ورغم عدم قدرتهن في مرحلة ما قبل الغزو على اجتياز عقبات التباين الاجتماعي والطبقي لغاية خلق تنظيم مدني فاعل للمطالبة بحقوقهن السياسية الدستورية فإنهن انطلقن ومنذ بداية الاحتلال في عمل جماعي منظم محفوف باحتمالات الخطر، وتمكنَّ من خلال تضامنهن الواسع والاصيل من القيام بدور شديد الحساسية في العمل الوطني المقاوم. ويذكر تاريخ العمل النسوي المنظم في الكويت منذ الستينات وحتى الثمانينات فشل الجمعيات الناشطة في مجال المرأة في تحقيق تعاون فاعل في ما بينها بسبب تشتت النساء القائمات عليها في روابط الدم والنسب والطبقة وصعوبة هدم حواجز الاختلافات التي رسمها مجتمع أبوي يريد الحفاظ على تراتبيته. وكانت الجمعيات الفاعلة حينها وهي جمعية النهضة الأسرية والجمعية الثقافية النسائية ونادي الفتاة ولاحقا الجمعيات الاسلامية بحسب مؤرخين غير قادرة على انتاج مبادرة حقيقية نحو عمل مشترك، واستمرت النساء في انتاج الانقسامات وفشلت كل محاولات التعاون في ما بينهن، وحتى الاتحاد النسائي الكويتي الذي قام بمبادرة من نورية السداني مؤسسة جمعية النهضة الأسرية وضم الجمعيات الثلاث الثقافية النسائية والنهضة الأسرية ونادي الفتاة والذي تم حله من قبل الحكومة بعد ثلاث سنوات من إنشائه لم تنجح في تحقيق شيء من التعاون بينهن. الكويتيات وأدوار المرحلة الحرجة في مرحلة الغزو أتاحت الأزمة واقعا جديدا تزعزعت معه الاشتراطات الاجتماعية السائدة فتركت للنساء حرية التصرف كمواطنات واثبات قدراتهن وهو ما فضح أباطيل الفكر التقليدي تناقضاته وكشف التناقضات القائمة في قلب مبدأ المقاومة، فكان العمل الجماعي الاول للنساء بيان سياسي في الدفاع عن بلدهن بعد 3 ايام من الغزو شاركت به النساء مسنات وشابات في تظاهرة بدأت من مسجد العديلية(2)، تلتها تظاهرات اخرى قامت النساء بتصويرها وإرسالها الى الحكومة الكويتية في منفاها لتوصل للعالم الرفض الكويتي للاحتلال. تحركت الكويتيات بفاعلية مدهشة خلال هذه المرحلة وتقدمت فعليا الصفوف المقاومة وذلك لضرورات انحسار الوجود الرجالي العام الذي فرضه استهداف المحتل للرجال خاصة الذين يشغلون مراكز وظيفية حساسة في مقابل الاعتقاد بأن المرأة الكويتية المرفهة لن تشكل خطرا في الميدان المقاوم. طبعت الكويتيات منشورات مناهضة للوجود العراقي ووزعنها، اصدرن صحيفة مثلت الصوت الرافض. هربن الأدوية، ووزعن الأغذية واستلمن مهام الرعاية الصحية والاجتماعية حتى أنهن افتتحن مدارس في بعض مناطق البلاد(3)، ووصلت جهودهن الى حد الانخراط في حركة مقاومة مسلحة ضمن خلايا عسكرية مدربة، وحتى النساء في الخارج كانت لهن عطاءاتهن اذ تم تشكيل اللجنة النسائية المشتركة للمقاومة في القاهرة وفي اماكن اخرى، في الفترة التي تلت التحرير مباشرة رغبت النساء في التمسك بالتضامن الجديد الذي حققنه اثناء الغزو ومن خلال المقاومة وكان بودهن توجيه هذا التلاحم والوعي المتعزز تجاه بناء كويت ما بعد التحرير برؤية جديدة. أعادت النساء طرح قضية الحقوق الانتخابية والسياسية على مسرح الاهتمام. ومع ان النساء كن ماهرات خطابيا في استخدام تجربتهن المقاومة لتعزيز مطالبتهن بالحقوق السياسية فإنهن لم يكنَّ قادرات على اعادة توجيه المهارات العملية والتنظيمية التي ظهرت في المقاومة، فلم يمض وقت قبل طويل قبل ظهور انقسامات الطبقة والنسب والإثنية والطائفة على السطح من جديد مهددة مبدأ التلاحم الذي تحقق اثناء الاحتلال. واجهت المرأة حينها عقبة اخرى في سبيل الحصول على حقها السياسي الانتخابي تمثلت في فقدان دعم جاد من الرجل سواء من كانوا من رجال الجمعيات النسائية او من الذين كانوا في دفة الحكومة (2). ويبدو ان فقدان الدعم الرجالي الليبرالي للحقوق السياسية النسائية في المرحلة التي تلت التحرير يعود الى الخشية من ان تظهر النساء الليبراليات استقلالية تهدد طبقة الذكور والبنية الأبوية التقليدية للمجتمع الكويتي، لاسيما وأن المرأة لم تنجح في الحصول على حقوقها الانتخابية الا في عام 2006 من خلال قانون حكومي تم التصويت عليه في مجلس الأمة، وهكذا يبدو واضحا كيف فشل النموذج القيادي والنضالي المتميز للمرأة الكويتية الذي ظهر تحت الاحتلال في تكريس وجود متقدم لها في ساحة العمل العام في المرحلة التي أعقبته. العودة الى الخلف وبدلا من ان تستفيد الكويتية من حصيلة جهودها خلال الغزو العراقي والتي وصلت الى حد قيادة كل مواقع المواجهة مع المحتل وادارة شؤون المجتمع كافة محطمة بذلك كل قوالب الخصوصية الجنسية وأدوار النوع الاجتماعي المحددة سلفا في مجتمع أبوي تقليدي، وممارسة مواطنتها كاملة كند للرجل لا كجزء مكمل له تراجعت في مرحلة بعد التحرير عن المواقع التي نالتها تاركة العجلة تسير الى الخلف مدعومة برغبة رجالية محافظة في إقصاء النساء عن الشأن العام الحساس لاسيما السياسي منه، ولم تنل حقوقها السياسية وموقعها العام الا في سياق تطور لاحق وطبيعي للأوضاع المحلية والعالمية المتصلة بحقوق المرأة والتطور الديمقراطي. تراجع «المساواة» وفي سياق الحضور النسائي المتقدم في زمن الأزمات السياسية والمواجهات العسكرية يبرز الحضور السياسي والميداني المذهل للمرأة في دول «الربيع العرب»، ففي تونس مهد «الانتفاضات» العربية الجديدة التي نهضت مطالبة ب«الخبز» و«الحرية» و«العدالة» تقدمت المرأة صفوف الثوار ورفعت صوتها الحقوقي في مواجهة آلة السلطة العسكرية، وبسطت كلمتها فوق ميادين الاحتجاج وانخرطت في مواجهات دامية مع السلطة مدعومة بقوة اصحاب الحق وهوية المواطنة الكاملة. والواقع ان من نزلوا الى الشارع رجالا ونساء في الاحتجاجات عبروا عن توقهم الى استبدال أنظمة استبدادية بأنظمة مدنية ترسي منظومة قيمية تجمع بين الحريات والعدالة الاجتماعية والمساواة. (4) وأكدت معظم الشرائح الاجتماعية الفاعلة في المسار الثوري حرصها ان تكون الدساتير الجديدة عاكسة لهذه المطالب الانسانية، ولكن عند استعراض المسودتين الاولى والثانية من الدستور التونسي التي سعى الى إقرارها حزب النهضة القابض على مقاليد السلطة بعد انتهاء الثورة يتبين صعوبة ادخال مفهوم «المساواة» والنص عليه صراحة في مقابل طرح مفهوم «التكامل» غير المؤسس لمواطنة حقيقية للمرأة. ولولا ضغط مجموعة من نشطاء المجتمع المدني لما أمكن التراجع عن هذه الصياغة التي أرادها الحكام الجدد والتي تدفع بتقليص حقوق المرأة والانتقاص من مواطنتها. ورغم الوجود النسائي الكثيف في صفوف الحزب الاسلامي الحاكم والاستقلال النسبي لبعض المنتسبات اليه عن الالتزامات الحزبية المحافظة، ورغم استمرار الفعاليات النسائية الليبرالية في طرح أجندات حديثة لحقوق المرأة الا ان التونسيات اليوم يواجهن معارك مستمرة لإثبات مواطنتهن الكاملة في مقابل محاولات تأطير وجودهن اجتماعيا من قبل الجناح التقليدي والمحافظ في تونس ما بعد الثورة. بطولات واعتداءات اما المرأة المصرية والتي كانت الصوت العالي الداعي الى الثورة في بداياتها عبر وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة، والعنصر الذي اثبت قدرات تنظيمية عالية المستوى وثبات وصلابة ميدانيين طوال 18 يوما من التظاهرات والاحتجاجات المتواصلة في ميدان التحرير فتجد نفسها اليوم وبعد انتهاء احداث الثورة التي صنعتها بمشاركة الرجل في مأزق حقيقي بحسب معظم الآراء التي رصدت دورها وحضورها في المشهد العام. فالاعتداءات الجسدية التي تعرضت لها مصريات خلال إحيائهن ليوم المرأة العالمي في 8 مارس 2011 وما وقع في اليوم التالي من اعتداءات ذات طبيعة جنسية في فض اعتصام في ميدان التحرير باستخدام قوة وصلت الى حد تطبيق «فحص العذرية» عليهن شكل سندا لاعتبار ان الثورة المصرية الجديدة «تأكل بناتها». اضافة الى احداث اعتصامات محمد محمود ومجلس الوزراء وما تعرضت له النساء من اعتداء جسدي وسحل وتعرية. وتقول الناشطة المصرية مارغريت عازر ل«الراي» تتعرض المرأة المصرية اليوم لأقسى انواع الإقصاء عن الساحة العامة باستخدام ادوات قمعية مختلفة أشدها ذات الطبيعة العنفية والجنسية من خلال إيذاء ممنهج متواصل منذ لحظة خروجها الى ميدان التحرير لتمارس مواطنتها الكاملة. وتكمل حديثها مؤكدة «تراجعا مخيفا» في حضور المرأة العام والذي لا ينسجم وجهودها الاستثنائية وشجاعتها الخاصة في ايام الثورة ويتمثل هذا التراجع في «النسبة الضعيفة لمشاركتها في الجمعية التأسيسة لصياغة الدستور، وفي تشريع زواج القاصرات كما حدث أخيرا وأما الإشكالية الأشد وضوحا فهي ان المرأة المصرية اليوم باتت تقاتل في سبيل حقها في السير دون التعرض لاعتداء»، ومن اللافت أيضاً الاختفاء الحالي وجوه نسائية شابة كانت فاعلة خلال الحراك الثوري، وتراجع حضور الكثير من الناشطات على الساحة العامة حاليا. تقر الرؤى الراصدة لمسار حركة المرأة العربية في ظروف الأزمات السياسية وزمن الدفاع عن القضايا الوطنية الكبرى ان عطاء المرأة للعمل الوطني والثورات لا يتناسب مع مكاسبها منها، ويعود ذلك بشكل أساسي الى فقدان الدعم من القواعد الرجالية حتى تلك المناصرة للقضية النسوية، والى ضرب حضور المرأة العام من خلال آليات العنف والاقصاء التي تستخدمها قوى محافظة ومتشددة، اضافة الى نقص التنظيم الهيكلي الذاتي للأنشطة ومواصلة النضالات في المواقع المستجدة. وبين تغيير مستحق للبنى الثقافية التقليدية المقيدة للمرأة وبحث عن قرار سياسي جريء مدعوم بأجندة فكرية تقدمية وآليات ديموقراطية حديثة، وإعادة النظر في استراتيجيات العمل، والانتصار للقضايا من جهة المرأة يبقى الوجود النسائي العام وحقوقها في المواطنة الكاملة ملفا تتداوله الأحداث والأيام. هوامش: 1 - Al-Mugni، Women in Kuwait 2 - مارغو بدران، دولة النساء الموقتة، 1997 3 - فاطمة ومنيرة العجيري 4 - آمال قرامي، معهد العربية للدراسات، 2013