وهو ما انعكس قولا وفعلا علي المواقف الخليجية من مصر الثورة, فتراوحت خصوصا في الأشهر التالية مباشرة للثورة بين الفتور والتوتر. بعد ما يقرب من عامين علي الثورة المصرية, كان المأمول أن تشهد علاقات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مع مصر نقلة نوعية أو علي الأقل تطورات إيجابية ملموسة في مجالات متعددة. فمن ناحية يفترض بحكم عامل الزمن أن تزول تدريجيا حالة الرفض النفسي الداخلي التي أصابت بعض دوائر الحكم في الخليج لإخراج مبارك من الحكم بطريقة بدت مهينة. ومن ناحية أخري لم تصدق التوقعات بتصدير الثورة وانتقال عدواها من القاهرة لتجتاح دول الخليج. فقد أثبتت القاهرة أنها غير معنية بتصدير ثورتها في أي اتجاه. كما تجسدت العقلانية المصرية في عدة مواقف بل وأزمات في علاقاتها الخليجية, كان يمكن للقاهرة في أي منها توظيف ورقة المد الثوري والاستناد إلي الحماس الشعبي لتثوير السياسة الخارجية, في الضغط علي دول الخليج لتغير مواقفها تجاه مصر. لكن لأسباب وحسابات متداخلة, امتنعت السياسة المصرية بعد الثورة عن استخدام تلك الأساليب, بل كانت حريصة علي تبديد المخاوف الخليجية بشأنها.في المقابل, استمرت دول الخليج علي ترددها بشأن العلاقة مع مصر بعد الثورة, وربما يكون ذلك مفهوما في المرحلة الحالية التي يحكم مصر فيها رئيس إسلامي ينتمي تحديدا إلي جماعة الإخوان المسلمون لاعتبارات كثيرة تتعلق بموقف نظم الحكم الخليجية من الجماعة بطبيعتها الانتشارية عبر الحدود والأقطار, وبأفكارها ذات البعد العالمي/ الأممي. لكن من غير المفهوم وما يحتاج إلي تفسير, هو أن ذلك الفتور والتحفظ الشديد الذي بدأ مع رحيل مبارك, استمر لأكثر من عام ونصف كان يحكم مصر خلالها المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وليس محمد مرسي ولا الإخوان. صحيح أن دول مجلس التعاون الخليجي قدمت لمصر مساعدات اقتصادية مهمة في تلك الفترة. لكنها تظل ضئيلة مقارنة بما تحتاجه مصر لتخرج من كبوتها الاقتصادية, وشديدة الضآلة بالنظر إلي القدرات المالية الخليجية. قد تكون هناك دوافع موضوعية للإحجام الخليجي عن الإقبال علي مصر اقتصاديا, خصوصا في مجال الاستثمارات وتنمية أوجه التعاون الاقتصادي. من تلك الدوافع القلق من غموض مناخ الاستثمار في مصر سياسيا واجتماعيا. وهو قلق مبرر ومشروع بالمنطق الاقتصادي وبعقلية رأس المال أو المستثمر. لكن ما من تفسير واضح لإجراءات أخري بدت عقابية بامتياز, مثل الاستغناء عن أعداد من العمالة المصرية في بعض دول الخليج, وفرض قيود جديدة علي كل التأشيرات للمصريين بما فيها الزيارة والسياحة, فضلا عن تأشيرات العمل التي أصبحت عسيرة المنال. ربما كانت كل تلك الإجراءات بغير توجيهات معلنة رسميا, لكنها تمت علي نطاق غير ضيق وبتزامن يجعل تفسيرها الأقرب للمنطق أنها انتقام من مصر والمصريين الذين أطاحوا بمبارك بعد ثلاثة عقود. ما قد ينساه أو يتناساه البعض( سواء في مصر أو في الخليج) أن الروابط المصرية الخليجية أوسع وأعمق من دعم اقتصادي لمصر ومن اعتماد العمالة في دول الخليج علي ملايين المصريين. فالحديث( الذي يبدو للبعض أحيانا مجرد شعارات جوفاء) عن العروة الوثقي بين أهل الخليج وأهل مصر, والارتباط الجيواستراتيجي والتداخل العضوي بين الأمنين الخليجي والمصري, كثيرا ما تثبت المواقف والأحداث أنه واقع فعلي لا يملك أي من الطرفين الفكاك منه وإن أراد. وبالتالي فإن إدارة العلاقة مع مصر ينبغي أن تعود إلي ما كانت عليه من محددات ومنطلقات تتجاوز المعايير الجزئية والحسابات الضيقة المباشرة المتعلقة بحسابات الربح والخسارة الاقتصادية, أو تلك المترتبة علي تغير شخص الحاكم أو المجموعة المهيمنة علي الحكم. لقد أعاد المصريون إلي ذاكرة العالم وليس الخليج فقط أن مصر أكبر من مبارك, وستظل أيضا أبقي وأكبر من مرسي أو الإخوان. وفي مرحلة سيولة وإعادة تشكيل للسياسة المصرية ولأوضاع المنطقة ككل, ليس من الحكمة ولا من المصلحة الخليجية ولا المصرية, أن تترك مصر ضعيفة لأنها تحت حكم الإخوان. وإن كان أمام القاهرة بدائل أخري للاستقواء بها, منها إيران وتركيا, فلن يكون التوجه المصري, في هذا المسار أو ذاك, بلا مقابل. والرشادة التي لا تزال تسم حركة مصر الخارجية, قد لا تصمد طويلا أمام الضغوط الاقتصادية وفعالية وديناميكية سياسات وتحركات الأطراف غير الخليجية