حراس الجمهورية تجبر ميليشيا الحوثي التراجع عن استهداف مطار المخا    الكشف عن استحواذ جماعة الحوثي على هذه الإيرادات المالية المخصصة لصرف رواتب الموظفين المنقطعة    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    فضيحة قناة الحدث: تستضيف محافظ حضرموت وتكتب تعريفه "أسامة الشرمي"    لمن يجهل قيمة الإنتقالي    ريال مدريد يثأر من السيتي ويجرده من لقب أبطال أوروبا    الجنوب ومحاذير التعامل مع العقلية اليمنية    حضرموت تستعد للاحتفاء بذكرى نصرها المؤزر ضد تنظيم القاعدة    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    ثلاث مساوئ حوثية أكدتها عشرية الإنقلاب    فيديو اللقاء الهام للرئيس العليمي مع عدد من كبار الصحفيين المصريين    "ليست صواريخ فرط صوتية"...مليشيات الحوثي تستعد لتدشين اقوى واخطر سلاح لديها    "سيضيف المداعة في خطبته القادمة"...شاهد : خطيب حوثي يثير سخرية رواد مواقع التواصل بعد ظهوره يمضغ القات على المنبر    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    الرئيس الزُبيدي يطمئن على الأوضاع في محافظة حضرموت    حكومات الشرعية وأزمة كهرباء عدن.. حرب ممنهجة على الجنوب    العين الاماراتي يسحق الهلال السعودي برباعية ويوقف سلسلة انتصارات الزعيم التاريخية    رافقه وزيري العمل والمياه.. رئيس الوزراء يزور محافظة لحج    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    استقرار أسعار الذهب عند 2381.68 دولار للأوقية    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    أنس جابر تنتزع تأهلا صعبا في دورة شتوتجارت    رافينيا يوجه رسالة حماسية لجماهير برشلونة    محافظ المهرة يوجه برفع الجاهزية واتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية تحسبا للمنخفض الجوي    وفاة وإصابة 162 مواطنا بحوادث سير خلال إجازة عيد الفطر    إيران: مدمرة حربية سترافق سفننا التجارية في البحر الأحمر    توكل كرمان تجدد انتقادها لإيران وتقول إن ردها صرف انتباه العالم عما تتعرض له غزة    أمين عام الاشتراكي اليمني يعزي الرفيق محمد إبراهيم سيدون برحيل زوجته مميز    عن صيام ست من شوال!    مصر: ختام ناجح لبطولة الجمهورية المفتوحة " للدراجون بوت "ومنتخب مصر يطير للشارقة غدا    أبناء الجنوب يدفعون للحوثي سنويا 800 مليون دولار ثمنا للقات اليمني    حزب الإصلاح يكشف عن الحالة الصحية للشيخ ''الزنداني'' .. وهذا ما قاله عن ''صعتر''    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وفاة طفل غرقًا خلال السباحة مع أصدقائه جنوبي اليمن    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    مصير الأردن على المحك وليس مصير غزة    محافظ عدن يلزم المنظمات باستصدار ترخيص لإقامة أي فعاليات في عدن    من هم الذين لا يدخلون النار؟.. انقذ نفسك قبل فوات الأوان    نيابة استئناف الامانة تتهم 40 من تجار المبيدات والأسمدة بارتكاب جرائم بيئية وتعريض حياة الناس للمخاطر    ارنولد: انا مدين بكل شيء ل كلوب    دوري ابطال اوروبا: دورتموند يخالف التوقعات ويُحرج دفاع الاتلتيكو برباعية    الضالع: القوات المشتركة تُحافظ على زخم انتصاراتها وتُحبط مخططات الحوثيين    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    الكشف عن آخر تطورات الحالة الصحية للفنان عبدالله الرويشد    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صالحة غابش تعجن طينة الشعر بالمسك والعنبر وماء الورد
نشر في الجنوب ميديا يوم 19 - 11 - 2012

كتبتُ مرة بقلم الرصاص على إحدى صفحات ديوانها المرايا ليست هي "نحتاج إلى إعادة قراءة لنصل إلى أعماق هذه الشاعرة، ليس لأن هنالك غموضاً يكتنف قصائدها، ولكن لأن الشاعرة عجنت طينة الشعر بالمسك والعنبر وماء الورد ثم مزجت الخليط بالدموع وأخرى بالفرح وأخرى باغتراب تشبَّع بالموحيات" .
ولأنها ( شاعرة ) أهبها من وقت روحي ما تستحق . . وها أنا ذي أحلق معكم في عوالمها وفضاءاتها العالية .
نحتت تجربتها بإزميل فنان مدرك لأبعاد فنه، وغزلت من خيوط صباحات الصيادين شباكاً لتصطاد لآلئ معانيها، تبحرُ دائماّ على زوارق الغربة وأحلام بنات البلد حيث الدار والمحلة والأهل، ثم تبحر بمديات أبعد حيث الوطن برجاله وخيوله وصقوره وراياته، تتأمل وطنها الأكبر فتبكي على جراحاته، وما أن تهدأ حتى تلتفت للعالم الواسع حولها فيؤرقها طفلٌ يتيم أو جائع هناك، أو ظلمٌ صبّه الطغاة على شعب أعزل في زاوية أخرى من العالم . هي شاعرة في بيت قلبها بيوت شعر فيها الله والناس والوطن .
صالحة غابش اسم يجب أن تتوقف عنده وأنت تقرأ لشعراء دولة الإمارات العربية المتحدة . . فهي صاحبة تجربة شعرية ذات خصوصية غنية بغنى ثقافتها ووعيها وتجاربها في الحياة، تضاف إلى ذلك خبرتها العلمية حيث تحمل شهادة بكالوريوس آداب من جامعة الإمارات وشهادة الماجستير من كلية دار العلوم جامعة القاهرة .وشغلت مناصب اجتماعية وصحفية عدة وحازت جائزة الإبداع من سمو الشيخة جواهر .
ولدت صالحة غابش قبل خمسة عقود من الياقوت في ضاحية الأحمدي في الكويت ، وقضت طفولتها هناك لتعود مع الأسرة وهي صبية إلى الوطن الأم في وقت ماتزال النهضة الاقتصادية في بواكيرها الأولى، وما تزال الأطر الاجتماعية المألوفة مكتنزة بدفئها وتقاليدها المتوارثة، الإيجابي السامي منها والسلبي الآيل للسقوط كذلك، عاشت الشاعرة كل التحولات واستطاعت أن تعبّر عنها برمزية عالية، ولمَ لا وهي شاهدة أمينة على تلك التحولات توثقها على شاشة تاريخها الشعري الذي سجلت له وسجل لها ذكريات بندى القلب وماء العين .
أصدرت صالحة غابش لحد الآن أربعة دواوين شعرية هي كما يلي:
* بانتظار الشمس/من إصدارات اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات عام 1992 .
* المرايا ليست هي/من إصدارات اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات كذلك عام 1997 .
* الآن عرفت /من إصدارات الدار المصرية اللبنانية عام 1999 .
* بمن يا بثين تلوذين/من إصدارات دائرة الثقافة والإعلام لحكومة الشارقة عام 2002 .
وقد نالت شاعرتنا جائزة مركز دراسات المرأة العربية في حقل الأدب عن عطائها في مجال الشعر . ولها جوائز أخرى في الحقل الاجتماعي أهمها وسام التميز من سمو الشيخة جواهر وجائزة سيدات الإمارات في حقل المساهمات الاجتماعية .
بدءاً لابد من القول إن صالحة غابش في إطلالتها الأولى بدأت بالقصيدة التقليدية ( المقفاة) وقصيدة التفعيلة بما تضمنه ديوانها الأول من قصائد، ثم تحولت إلى ما يسمى ب(قصيدة النثر) عبر دواوينها الأخرى باستثناء بعض القصائد ذات التفعيلة، وحين سُئلت عن هذا التحول قالت (الموضوع عندي هو الذي يستدعي شكله)، وهذا رد موضوعي لأن الشاعرة غير مكترثة بالشكل العروضي للقصيدة قدر اكتراثها بشاعرية القصيدة وإيحاءاتها عبر لغة سليمة صافية، فهل تحقق لها ما أرادت؟
باستثناء بعض القصائد في ديوانها الأول فإن لغة صالحة ترميزية واضحة، سلسة غير معقدة، لغة نقية تستند إلى تراكم من المفردات اللغوية الغنية بمرجعيتها، والشاعرة لا تماحك اللغة، بل تتركها على سجيتها تنساب كالماء الرقراق من جدول معينها الشاعري . وهي لم تجتهد في اتباع أساليب البديع والبيان، كل ما تقوله يحمل بلاغته بسجية تلقائية .
النص لديها يتحمل أكثر من قراءة لأنها ترمي أبعد مما تقول، ولهذا أحياناً حين تعيد قراءة نصَّها تكتشف أبعاداً أخرى، فهي من دون أن تقصد تجعل النص يشف عن مكنونات لا تريد أن تطرحها كما هي بل تترك للقارئ الذكي التوغل في بحر القصيدة لاكتشافها .
لإسلوبها جماليات من فيض الروح وفيض المعنى ورشاقة اللغة، كما لابد لكل تلك المشاعر أن تجنح بين الفينةِ والأخرى إلى الرومانسية العالية، تقول في قصيدة نجمة في ديوانها الأول: (تطل على الليل من شرفات بعيدة/تناجي السلام وحيدة/تغني فيحسبها كل راءٍ سعيدة/وألحانها خلجات عواطف/ خذي يا قلوب الصحارى القصيدة . . .) أو في قصيدة مسافرة حيث تقول (وأشعاراً يغنيها هزارُ الحبِّ/ تلاشي عنه أنّات المواويلِ/وتهربُ من دموع الناسِ أنسجة المناديلِ/بسطتُ مدى خيالاتي/ إلى ما خلف كلِّ حقائق الآلام . . . أصداء الأقاويلِ/ لأشعل غابة الظلمة/ بأنفاس القناديلِ) .
وفي ديوان "المرايا ليست هي" تقول في إحدى مقاطع قصيدة من دفاتر ضائعة ( أبيعُ كلامي لمن؟/ ومن يشتريه . ./وكل الكلام الذي أفلت الصمتُ منه انكسر) وفي مقطع آخر من القصيدة ذاتها تقول غابش (يغيب المساءُ / وراء سديم انتظاري/ويتركني في بقاياهُ/أشعل صمت افتقادي إليك . . .) .
مسارات الطيف
والمتتبع لكل هذه الدواوين سيلحظ أن هناك العديد من المسارات تجاذبت وتآلفت في ما بينها كما تتجاذب ألوان طيف قوس قزح ليشد اللون بخصوصية اللون الآخر مشكّلة بذلك خصوصية أخرى لصوت الشاعرة تميزها عن غيرها من الشاعرات .
ولعل أهم تلك المسارات التي تجاذبت في تجربة شاعرتنا هي:
المسار الوجداني وملامح الغربة
هي شاعرة مرهفة العواطف مرهفة الأحاسيس تتجسم في ذاتها انعكاسات ما حولها، فلا تفصح عما في دواخلها إلاّ عندما تبوح القصيدة بسرِّها . . . لذلك فحتى المرايا وهي تبصرها شكلاً لا تعرف ما يخبئ هذا الشكل من أحاسيس وعواطف بين جوانحه . . .لذلك صرخت بهدوء (الوجوه وجوهنا/ والمرايا ليست هي) وتابعت في قصيدة مرثية قلب من ديوان المرايا ليست هي (خاوٍ هذا العالم يا صديقي/ لا مكان فيه لشاعر) ورغم ذاتية الصوت إلاّ أن القصيدة رمزت لبعد قومي سكت عنه العرب أو سكتت عنه بنادقهم . هنا تمازج الذاتي مع الموضوعي بضفر محكم .
في ذاتها حنين لما مضى، وفي ذاتها غربة تتكرر في أكثر من ديوان، شاعرتنا لم تعش الغربة بالمعنى الحقيقي للاغتراب، ربما وعيها المبكر وهي صغيرة ولدت ونشأت بضع سنين بعيداً عن وطنها الإمارات كان له أثر ما، لكن هي آنذاك لم تر من وطنها شيئاً غير حكايات الأهل وقصصهم، فهل كان لتلك الحكايات والقصص ما يوقد جمرة الحنين في قلب تلك الصبية؟ أو هو ذلك الاغتراب الذي يهيمن على المبدعين بسبب نزوعهم إلى الوحدة لغرض التأمل والتجلي مع الذات بعيداً عن صخب الحياة وتفاصيلها المادية التي تشغل الفكر والعقل عن التحليق في عوالم أخرى ينشدها المبدع، أو لأن الحصيلة الثقافية ونضوج ثمار الوعي عند المبدع تخلق هوة بينه وبين الآخرين ممن يصعب عليه أن يجاريهم في همومهم السطحية ولذلك فهو لا يقترب من الناس كثيراً باستثناء من ثقلت حصيلتهم من الوعي والثقافة أو من الهموم والأحزان تراه يقترب منهم ليغذي مداه الشعري بالجديد . ترى ألهذه الأسباب تعود غربة شاعرتنا صالحة أم أن غربتها هي من نوع آخر؟ لنر ما ما عبرت عنه صالحة عبر دواوينها الأربع من تشظيات الاغتراب:
من ديوان بانتظار الشمس تقول في قصيدة رحيل زهرة ص 43:
وحدتي يا ربعُ طالت في الصحارى
وغيومُ الودقِ ما زالت حيارى
تائهات في سرى الأعوام عني
أم تراها تبتغي عني فرارا
عافني حتى الندى أشتاقه في
صحوِ فجرٍ زفَّ للكونِ نهارا
وفي ديوانها الثاني "المرايا ليست" هي تقول في قصيدة ليست لكِ:
(للنظرة الأخيرة تسألني/ مالك يا شاعر والسفر/ وهذه القصاصات القديمة/ يتيمة من دونك/ لامرأة خرجت من البحر بثلاث صدفات/ ألقيتها في صدري/ صدفة صدفة/ كي لا تعيش غريبة مثلي/ ولي أنا هذه البقايا مني . . . من اسمي/ الذي سميت به/ شارع الغربةِ والمتاه/ . . . .) .
أما في ديوانها الثالث "الآن عرفت" فتقول في قصيدة من ذا يصيرك :
( ليس هنا سواي/ ألبسُ وحدتي طقوسَها الجميلةَ . . .)
وتقول في ذات القصيدة (وظلّي الخائف من ضياعهن أثري/ يدخلني . ./ ويحتمي بغربتي) .
كما تواترت مفردات الغربة في ديوانها الرابع بمن تلوذين يا بثين حيث تقول في قصيدة خيوط المغازل ( معي الليلُ/ يصحبني نحو حفلته / لأسافر في حضرة الخوف والغربة الصاخبة/ فتشتاقني خيمة علقت في يدي/ خيوط مغازلها . .) .
فضاءاتها الموحية بالألق الفلسفي
الذي يتابع قصائد الشاعرة صالحة غابش يدرك أن الغربة التي تراودها هي من نوع غربة المبدعين والمتصوفة الذين ينسحبون من دوامة اليومي والسائد في حياة الناس من أجل خلق الفضاء التأملي الذي لابد منه للتجلي والسمو في عالم الإبداع، ولا غرابة فقد بدأت منذ الديوان الأول في تأملات تدرجت في رموزها بإيحات فلسفية تربط الماضي بالحاضر بأهم القضايا التي تؤرق إنساننا العربي ففي قصيدة داخلون من ديوانها بمن يا بثين تلوذين تقول:
(أتى الداخلون بأحزانهم/ وبأحلامهم/ قيدوا الصبح من قدميه بليل السلاسل/حتى يعودوا إليه/ أتوا غرباء/حفاةً سوى من خُطىً عرفت للهروب /عناوين مجهولةً/قبل أن يدخلوا/ علَّقَ الصقرُ في كلِّ ثغرٍ/ حروف لهاثه . . . يبني بها/ كلمات الرجوع إلى شرقِهِ) .
وفي هذه القصيدة ترميز وتماهٍ مع حكاية الخليفة عبدالرحمن الداخل (صقر قريش)، وعن الدخلاء ممن كانوا وراء ضياع الأندلس، ولو أبدلت الشاعرة كلمة (الداخلون) ب(المرجفون ) لكان أفضل لكي نميز (الداخلون) عن الداخل أي عبدالرحمن الداخل، فهي كانت تستنهض ذلك البطل الذي هرب من بطش بني العباس (في الشرق) فبنى دولة عظيمة انتهت بفرقة العرب وتشرذمهم حتى غابت شمس العرب عن دولة الأندلس . وهذا المشهد للأسف يتكرر في تاريخ العرب بسبب الدخلاء .
وتقول في قصيدة أحرف الحب من ديوانها الأول تقول: ( تسبّح في فؤادي أحرف الحبِّ / فأنثرها ندى في كوننا الرحبِ/فتسمو الروحُ في العلياء/كمثل حمامة بيضاء/ فتصغرُ تصغرُ الأشياء/ وألقى اللهَ رغم ستائر الغيبِ/وأهمسُ إنني أهواك يا ربّي) عبرت خلالها عن توجد روحي يتألق بحب الله عز وجل كما هو واضح .
وتقول في قصيدة شرقية في ديوان بمن يا بثين تلوذين :( جميل / إذا قام يرمي الصلاة / توحّد فيه بكاءٌ طويل / فيجهشُ فصلُ الشتاءِ بماء السماء / ليكتب في صدره سورة الله / باللغة الباقية) .
فضاؤها الاجتماعي
لم يكن البوح بهمومها الإنسانية (كامرأة) واضحاً في ديوانها الأول، كان انشغالها بالهم العام أو الشأن الإنساني والفلسفي العام أكثرحضوراً ربما لأنها أرادت أن تعبر عن مكنوناتها الإنسانية فقط من دون الولوج إلى موضوعات أخرى، أو لأن فيضها الذاتي حلق في أفق العام ليعبر عن نفسه وهو في ظهوره الأول، تقول في قصيدة بنت النهر :( أحاول مد السعادةِ جسراً إلى موطن البؤساء/ أحاول أن أبني الشعر بيتاً ليسكنه الفقراء/ أحاول أن أُسمع الناسَ من وتري أغنية/ مخضّبَة بالسَّناء . . .) .
في الديوان الثاني "المرايا ليست هي" تجلت ملامح المرأة الشرقية الباحثة عن مكانها المتمسكة بتطلعاتها، ولكن بمنتهى الحيطة، بمنتهى الحياء، ربما لأن صالحة غابش شخصية هادئة متزنة لا تتعمد الإرباك ولا تحب الاشتباك، هنا في هذا الديوان تجلى بوحها وأخذت تدافع برمزيتها المعهودة عن المرأة وتلقي تساؤلاتها أمام رفيقها الرجل، تقول في قصيدة إليك قهوتي : (ما زلتُ يا رفيقي/ امرأة تعشقُ في الصحراء بسمة القمر/ واحدة من النساء/ يخرجن من خيامهن في حذر/خوفاً من المدينة المعبأة/ بالرمل والأفواه والظنون/ واندهاشة الحضر)، أما في ديوانها الثالث الآن عرفت فقد تصاعدت حدة البوح، تقول في قصيدة فضائي والاجنحة مخاطبة الرجل: (ها أنت تهيؤني/ لقصيدتك المجهولةِ في المشهد/ وتجرِّدُني من معرفتي/ فتُعبِّئني سفراً في غابتك القلقة/ وتبعثرُ فيَّ قراءات النسيان/ فلا أتذكرُ حنجرتي/ لأواري فيها أشجاري الخرساء . . .) لكنها بعد هذا العتب الخجول، تستحضر كبرياءها فتقول في قصيدة تتويج : ( لن أبعث جلدي نحو الشمس/ لن أبعثهُ نحو الأقمار/ تهيلُ عليه الفضّة من سلتها/فأنا في الشرق متوجة/ وبلاطي صوت امرأة تمشي في إثرِ نبي . . .) وهنا تميز حضورها الشرقي بالعفاف عن نساء الغرب اللواتي يعرضن أجسادهن للشمس .
ثم نأتي إلى ديونها الرابع الذي تكلل بعنوان جميل موحٍ هو "بمَ يا بثين تلوذين"، مستذكرة واحدة من أميرات العرب في الأندلس وشاعراتها، ألا وهي بثينة بنت المعتمد بن عباد ملك أشبيلية في عصر ملوك الطوائف، وكان شاعراً قرّب في ديوانه الشعراء مثل ابن زيدون وابن اللبانة وغيرهما وازهرت أشبيلية في عصره حتى باتت تنافس مملكة يوسف بن تاشفين في المغرب، ولعب الوشاة دوراً في التفريق بينهما حتى انتهت القصة بالقتال وتم جلبه إلى المغرب ليقضي حياته في سجن اغمات، أما ابنته الأميرة بثينة فقد هربت عندما شبت المعركة ضد والدها ووصلت القصر ثم أسرت وأشتراها أحد تجار أشبيلية وأهداها لابنه، فرفضت أن تعيش في كنفه من دون زواج شرعي وبموافقة أهلها، فكتبت لوالدها وهو في السجن قصيدة وانتظرت جوابه الذي جاء بالموافقة .
هذه الحكاية التاريخية كانت جوهرة الديوان وثيمته الأساس، تقول صالحة غابش في مقدمة الديوان وتحت عنوان "لماذا هي": (لأن في قصتها شيئاً من الأسطورة، وكثيراً من القيم، وبعضاً منّي، نشأت مسافة غير مرئية أقف في أولها، وتقف هي في خاتمتها، أو أقف في خاتمتها وتقف هي في مبدئها، وما بين المبدأ والخاتمة حكاية واحدة تشبهنا، وتقيم أواصر صداقة وقربى ليست بمواصفاتها المعتادة التقليدية، هذا التشابه ليس في قصّة الحياة، ولكن في موقف ومعتقد يكاد لشدة حضوره يكون هوية وحيدة لامرأة ما) . بهذه المقدمة المختصرة مهدت الشاعرة لقصة بثينة بنت المعتمد والتي أوردتها باختصار شديد آنفاً، فجاءت قصائد الديوان متماهية مع شجرة هذه القصّةِ جذوراً وأغصاناً مترعة بالاخضرار تحت شمس كانت وستظل مشرقة في سماء المرأة العربية الأصيلة ألا وهي شمس المبادئ والعفة والشرف .
وكان الحضور البهي لبثينة بنت المعتمد هو الحضور البهي للشاعرة صالحة غابش التي ارتقت مدارجها الشعرية في هذا الديوان وأنضجت رؤاها بفطنة ودربة وذكاء ,
وها هي المرأة تحلّق في هذا الديوان بكبرياء الأميرات اللواتي يرفضن القيد والركون إلى ضربات القدر وارتهاناته .
كما استثمرت الشاعرة في هذا الديوان معاني أخرى سنأتي على ذكرها في ما بعد .
تقول في قصيدة لا تنكروا أني سبيت ( تبوح الليالي/ وكل المسامع غادرن مملكة المعتمد/ وكنَّ وصيفاتِ عرشِ هزيمتِهِ / يرتبن منفاهُ في العربات غناء جريحاً / هوى في دموع بثينة / وكلُّ القلوب جنودٌ مُخَشَّبَة عندَ بابِ حراستِهِ / نبوحُ/ فتطفو اللغاتُ بحرفٍ هجين / تُمجِّدُهُ كائنات الخيانة) .
وفي بوحها الأنثوي وهي تصهل بالكبرياء، تقول في قصيدة شرقية :(تريدين ألاّ تكوني . ./ ولكنه البحرُ/ والشط/ واللؤلؤ المتمحور في امرأةٍ/ شارقيَّتِها حلمٌ / يتمهل في أعين العابرين/ وأنتِ التي تقفين على مفترق المدن/ الخربة/ يرمم صوتك وحشتها إذ تنادينه يا جميل/ بثينتك الشهد يصنعها نحلُ غيبتِك/ الموحشة / فموسمها ينحت الملح نصباً/لأشباحك الحاضرة . .) . وهنا تداخل رمز بثينة بنت المعتمد برمز بثينة جميل بتباريح الشاعرة وهواجسها من الزمن الموحش .
وفي الفضاء الاجتماعي الكثير مما يمكن قوله ولا يتسع له المقام، فشاعرتنا ذات تجربة عميقة في العمل الثقافي الاجتماعي وهي حالياً المستشار الثقافي والإعلامي للمجلس الأعلى لشؤون الأسرة في الشارقة، وقد عملت في هذا المجلس سنوات طويلة ما أضاف لها الكثير من الخبرة وأغدق على رؤاها أبعاداً وظفتها لإنضاج تجربتها الشعرية ورفدها بمعين لا ينضب من الرؤى والتفاعلات .
فضاء الوطن وسجع اليمام
تشربت دواوين صالحة غابش أجمعها بحب وطنها الإمارات وشعّت شمس هذا الحب على رقعة أوسع لتشمل الخليج العربي بل والأمة العربية وجرحها النازف فلسطين .
وتعتبر قصيدتها "هنا في الخليج" من أنضج قصائد ديوانها الأول "بانتظار الشمس"، فهذه القصيدة "السّيابية" الاسلوب الدافئة بإيقاعها السلس والمفعمة بأريج المعاني مرت على وطنها الخليجي مرور يمامة تنتقل بسجعها من نخلة لنخلة مرة متوجسة من بعض الغيوم وأخرى مبشرة السلام متفوقة على الخوف ومشرقة بالأمل تقول في بدايتها (هنا في الخليج/ شروق بحجم المحبة/ وأرضٌ كعاطفة الأم رحبة/ وشدو هديل يداعب سربه بأغنية للسلام/ وفجر يسبح ربه . . .) .
وفي القصيدة رؤى لتداعيات الطفرة النفطية، كيف كان الإنسان هنا يكدح راضٍ بعيشه البسيط (أتمرٌ وماء / فحمداً لرب السماء/ فذاك طعام الرسول/ وأنعم به وجبة مشبعة . . .) وهو حين جاءت الطفرة النفطية لم ينس السنين العجاف التي مرَّ بها فلم يركن للترف بل (رمى سكرات الترف/ ترفّع عنها وعف/ فذاك سلاحه تحضنه يده المبدعة / وإنسانُ هذا الخليج / كيان عن الحب لا يوصد/ ونجم بعين الوفا يرصد . . .) .
وفي ديوان "المرايا ليست هي" تتألم من سخرية ما يمر به العرب من تناقضات فتقول في قصيدة مرثية قلب (خاوٍ هذا العالم/ من وقت يسرقنا من حرب أحزان / معاركنا الخاسرة / وإذا اشتهينا الانتصار/ نلصق إعلان النصر على ظهر الانسحاب . . .) وفيها أيضاً تقول : ( منذ رفعنا المظلات فوق الرؤوس/ ومشينا/ لم نعد نرى السماء . .) وهذا المقطع برمزيته العالية لوحده يعد قصيدة .
ونرجع إلى ديوانها الرابع الذي تشرب برموز الوطن والأمة من خلال التماهي مع عوالم الأميرة العربية .
تقول في قصيدة داخلون :(فقم لا تكن مثلهم/ وجئني بملء الكرامة مهراً/ أنا في انتظارك منذ قرابة خمسين عاماً / ومهري المغيَّبُ بين ركام الهزائم ضاع فجدْهُ هناك/ براية نصرٍ على القادمين بأسفارهم/ وأكاذيب يأنفُ عنها النبأ/ بسيفٍ تجرَّدَ عنهُ الصَّدأ/ بزلزلة في خطابِك تعلنُ أن الجهاد بدأ/ فقم لا تكن مِثلهمُ / وجئني بقدس الحبيبةِ مهراً / وقل يا حبيبة إنا انتصرنا / فهل قلبك العربيُّ هدأ؟) .
وهنا تآلفت الرموز وانفتحت على بعضها بعضاً في سباكة محكمة .
أخيراً أقول إنني لم أدرج كل ما لدي من ملاحظات وأفكار بشأن تجربة صالحة غابش الشعرية، فثمة هوامش كتبتها على جدران دواوينها (كعادتي عندما أقرأ أي كتاب)، ولكن لا يسع الوقت ولا المجال للمزيد من القول .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.