مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجل بلا وجه" كتاب بالإنكليزية عن الرئيس بوتين للباحثة الروسية ماشا غيسن المسيرة الغامضة من كهنوت المخابرات الى ظلال السلطة

رجل بلا وجه" كتاب بالإنكليزية عن الرئيس بوتين للباحثة الروسية ماشا غيسن المسيرة الغامضة من كهنوت المخابرات الى ظلال السلطة
11-19-2012 06:23
الجنوب الحر - جهاد الترك
من الظلال الداكنة الى الأضواء الكاشفة. من أسفل العالم حيث تلتحم الحقيقة بالخديعة بالوهم الى أعلى العالم حيث تُصنع الحقائق ثم تُوزّع بالمجان. لعلّ في هذا التصوّر ما ينطبق بهذا القدر أو ذاك، على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. خرج في بداية حياته من الحياة ومضى ببطاقة ذهاب واحدة الى صومعة المخابرات السوفياتية.. الى الظلال المعزولة. الى كهنوت السلطة السياسية. الى حيث يظهر العالم على حقيقته في الخفاء بعيداً عن ثرثرة الأنوار الصاخبة. هناك في تلك الهوة السفلى حيث تُلقى الحقائق كالنفايات لتحترق بألسنة اللهب، تكوّنت ذاكرة القيادة في عقله البارد. وعندما عاد القهقرى من الظلّ الى العلن، من الأسفل الى الأعلى، كان يحتفظ في جعبته بسيناريوات جاهزة غير مذيّلة بإمضاء، ليستدل بها على الطريق الى الزعامة الروسية. قد لا تبدو هذه الصورة من نسيج الكتاب المدهش الذي وضعته الباحثة الروسية المرموقة ماشا غيسن بعنوان "رجل بلا وجه: الصعود الملتبس لفلاديمير بوتين"، عن دار "ريفرهيد"، 2012. وقد تنسجم، من ناحية أخرى، مع الكيفية التي استخدمتها المؤلفة وهي تعيد صوغ هذه الشخصية الغامضة.
يبدو بوتين مستهدفاً، في هذا الإصدار، حتى العظم، على الصعد السياسية والاقتصادية والحريات الليبرالية التي عادت الى روسيا بصوت مخنوق. تتحرك المؤلفة في كل الاتجاهات لتثبت بالأدلة القاطعة تورّط بوتين في إشاعة أنماط من الفساد لم تكن معهودة حتى في الاتحاد السوفياتي السابق. ومع ذلك، قلما تصل الى مبتغاها. واللافت أنه كلما قطعت الكاتبة شوطاً إضافياً على طريق إدانة هذا الزعيم، بدا أكثر تألقاً في غموضه. وكأنه يمارس السياسة من موقع الغياب. قائمة طويلة تعدّها الكاتبة تحتشد فيها اتهامات من الوزن الثقيل، وبعضها تقشعر لها الأبدان من أجل أن يظهر بوتين متلبساً بالجرم المشهود. تجتهد الكاتبة، في هذا السياق، في أن توظف ضده عناصر المباغتة ليؤخذ على حين غرة. تسعى، في هذا المنحى الدرامي المشوّق، الى أن تنال منه بالضربة القاضية، أو أن تهزمه بالنقاط في أحسن الأحوال. تكاد تقترب من تحقيق هذا المبتغى. وأحياناً يخيّل إليها أنها ألقت القبض عليه في العلن. غير أن بوتين الذي يتقن فن الانتقال من مكان الى آخر من دون أن يخلّف وراءه أثراً يُذكر، يحبط مسعاها. هي نفسها وصفته بأنه رجل بلا وجه. وقد غاب عنها أن من لا وجه له لا أثر لخطواته على الأرض. رجل بلا ملامح. لعله كذلك. في حوزته أقنعة كثيرة وبصمات كثيرة وعيون كثيرة.
في العشرين من تشرين الثاني نوفمبر 1998، أُطلق الرصاص على عضو في البرلمان الروسي، شاءت الأقدار أن يكون غالينا ستاروفوتيوفا. ترصدها الموت على درج منزلها الكائن في أحد مباني سانت بيترسبورغ. انهالت برقيات التعزية من كل حدب وصوب. أصابت الفاجعة كل من عرفها في روسيا، وحفرت عميقاً في ذاكرة من كان يرقبها عن كثب في الخارج. لم يكن من قبيل المصادفة أن استقطبت شخصيتها الكاريزمية توافقاً نادراً على كونها امرأة مختلفة عن الساسة الروس الذين برزوا في الماضي وتعاقبوا على مسرح الحاضر. ترى مؤلفة الكتاب أن من بين صفاتها الاستثنائية التي انفردت بها، أنها كانت تتحدث بلهجة مختلفة، تفكر بأسلوب مختلف. بدت صريحة من دون تصنّع، مفعمة بالحيوية مسكونة بتغيير حياة الناس نحو الأفضل. كتبت صحيفة "الاندبندنت" البريطانية وقتئذ في عزاء مقتضب: لم تساوم على مبادئها مع انتقال الريح من وجهة الى أخرى. ولم تقدم على دمج السياسة بالمصالح. بدا مقتل غالينا لدى الأكثرية الساحقة من الروس فألاً سيئاً. ذهبت بهم هواجسهم الى الظن بأن اغتيال هذه السيدة تحت جنح الظلام، شكّل مفترقاً في السياسة الروسية وبداية لعودة التقهقر الى الإصلاحات المنشودة. ساد اعتقاد وقتئذ بأن الظروف قد تدفع روسيا من جديد الى حافة الهاوية.
لعلّ المؤلفة لم يقع اختيارها على هذه السيدة الرمز مدخلاً لكتابها المشار إليه "رجل بلا وجه" على سبيل اعتباطي، أو اعتماداً على حبكة درامية جذابة. كانت في العام 1998 صحافية شابة عادت لتوها من الولايات المتحدة وألقت بنفسها بشغف في أحضان الحياة في موسكو. كانت مقرّبة من غالينا، وبدت أعلم من سواها في ما تمثله غالينا من إعجاب وتقدير في المخيّلة الروسية. شكّلت غالينا في رؤية الجيل العريض الذي تنتمي إليه المؤلفة، أملاً بزغ مع فجر جديد كان ينتظره الروس منذ قرن بأكمله. من بين هؤلاء، صحافيون ليبراليون، ناشطون سياسيون واجتماعيون، وفئات غفيرة من المثقفين الذين وجدوا في زوال الاتحاد السوفياتي سابقاً فرصة تاريخية لاستعادة حرياتهم الفكرية والسياسية واللحاق بركب العصر والحداثة. لم يخالط الفساد غالينا. ظلت نقية في عقلها وسريرتها. ولو قيّض لروسيا نظراء ونظيرات لغالينا، تقول المؤلفة، لبدا مستقبل البلاد مختلفاً، واعداً ومليئاً بالمفاجآت السارة. جاء موتها، وفقاً لسياق الكتاب نهاية تراجيدية لهذا الأمل. والأخطر أن اغتيالها الغامض تزامن، على نحو مبهم، مع صعود الرئيس فلاديمير بوتين الى سدّة السلطة.
[ البداية في ألمانيا
لم يكن بوتين قد تسلّم الرئاسة بعد عندما اغتيلت غالينا. كان أسند إليه حديثاً مسؤولية إدارة شؤون جهاز الاستخبارات. وكان نجمه بدأ يلتمع كشخصية معروفة على المستوى القومي. حتى ذلك التاريخ، كان بوتين منشغلاً في مدينة دريسدن في ألمانيا الشرقية، موظفاً رفيع المستوى في الاستخبارات السوفياتية السابقة (كي.جي.بي). وتعتقد المؤلفة أنه واظب على هذه المهمة عندما عاد الى سانت بيترسبورغ، من دون أن ينقطع، على الرغم من اكتظاظ وقته بالمشاغل، عن كتابة أطروحة جامعية يعتقد أنها "منتحلة". وما يبعث على الدهشة أنه، الى جانب مسؤولياته التي قيل إنها جسيمة للغاية، كان بوتين يعمل نائباً لمحافظ المدينة، أناتولي سوبتشاك، الذي لم يقلّ، هذا الآخر، غموضاً والتباساً عن بوتين في تلك السنوات المضطربة بين 1991 و1996.
وعلى الرغم من قصر المدة التي أمضاها بوتين في هذا الموقع، فقد سبق له أن شرع في تكثيف جهوده لتجميل صورة جهاز المخابرات في نسخته الجديدة. وكان أول ما فعله، في هذا السياق، هو الإطلاع من جديد على الأساليب والتقنيات التي كان يستخدمها الزعيم السوفياتي الراحل، لينين. لم يجد صعوبة تُذكر، وهو يقلّب هذه الملفات، في العثور على واحد من أهم المصطلحات التي درجت في ثلاثينات القرن الماضي وهو "تشيكست". وهذه كلمة قديمة تحوم حولها الشبهات وتفوح منها رائحة البطش وتعني "البوليس السياسي". بدا بوتين مغتبطاً بهذا "الإنجاز"، ووضعه، على الفور، موضع التنفيذ الصارم بفخر واعتزاز. والأرجح أن بوتين كان يصول ويجول في هذه المؤسسة المغلقة على نفسها بتأثير مباشر من النموذج الرمز الذي سكنه من الداخل ودغدغ خياله. إنه يوري أندروبوف الذي قاد جهاز المخابرات السوفياتية مديداً، من العام 1967 الى 1982. كان بوتين، وهو ينطوي على نفسه في أوقات الفراغ والعزلة يستظل القامة الفارهة لأندروبوف في محاولة منظمة ومدروسة لاستعادة طرائق التفكير والتخطيط والإدارة التي كان يتميّز بها الجهاز. دأب بوتين، انسجاماً مع نظرياته المفرطة في التشكك والطعن في ظاهر الحقائق، على الاعتقاد أن رئيسه الأسبق أندروبوف توفي في ظروف غامضة وهو لا يزال متماسكاً موفور الصحة سليم العقل. شاركه، في هذا التوجه، أعضاء كثر في جهاز المخابرات ممن كانوا يمحضون أندروبوف ولاء كاملاً. سعى، بكل جوارحه، بعد تسلّمه موقعه الجديد، الى إعادة إحياء "أسطورة" الرجل ولكن بعد أن يتقمّصه بالكامل، وإن كان خيّل إليه، على سبيل الانتفاخ بمرض العظمة، أن أندروبوف نفسه هو من ينبغي أن يتقمّص بوتين.
[التماهي بأندروبوف
وفي قراءة أعمق لشخصية بوتين والدوافع الذاتية التي تتنازعه، ترى المؤلفة أن هذا الأخير لم يكبّ فقط على صوغ اهدافه وطموحاته وبناء قدراته التنفيذية بالانضواء تحت جناح أندروبوف. خطا أبعد من ذلك قليلاً أو كثيراً. راح يمنّي النفس بالتماهي بالتجارب السياسية التي اضطلع بها أندروبوف، من بينها أن الرئيس الأسبق للمخابرات أصابه الذهول، عندما كان سفيراً للاتحاد السوفياتي في بودابست، بعد أن تناهى الى مسامعه أن شباناً هنغاريين تجرأوا على المطالبة بالديموقراطية ثم تجمهروا في تظاهرة حاشدة للاحتجاج على المؤسسة الشيوعية. ثم لجأوا الى استخدام السلاح ضد النظام وأردوا عنصرين من البوليس السري أثناء تقدمهم في الأحياء والأزقّة التي تقاطروا إليها. خيّل الى بوتين أن الوقت قد حان ليختبر على الأرض هذا التماهي المزعوم. جاءته الفرصة التي كان يترقّبها بفارغ الصبر. كان ذلك في العام 1989 عندما شهد بأمّ العين تظاهرات غصّت بها شوارع مدينة دريسدن في ألمانيا الشرقية. وقد هرعت مجموعات من هؤلاء نحو مقر البوليس السري وعاثت فيه نهباً وتخريباً. والأرجح ان كلا الرجلين، بوتين واندروبوف، خلص إلى النتيجة عينها: ان إثارة الديموقراطية أمر يؤدي إلى الاحتجاج الذي يؤدي بدوره إلى الانقضاض على مقار الشرطة السرية. ومنعاً لهذا السياق الممجوج، ينبغي الحد من الجنوح نحو الديموقراطية قبل ان تتفاقم على نحو لا تحمد عقباه. لم تكن غالينا ستاروفوتيوفا بالنسبة إلى بوتين وأمثاله من الجيل نفسه، نموذجاً مستحباً. على النقيض من ذلك، بدت في عرفهم فألاً سيئاً يبشر بالوجه الآخر المشرق لروسيا. كانت غالينا مأخوذة بالزمن الروسي المقبل. كانوا مشدودين إلى الزمن السوفياتي البائد. أدرك بوتين، وفقاً لمناقشات الكتاب، ان من شأن ساسة من أمثال غالينا ضلّ الفساد طريقه إلى قلوبهم ان يشكلوا خطراً فادحاً على الدور الذي يضطلع به جهاز المخابرات السوفياتي في توفير الملاذ الآمن للكيانات المالية العظمى التي ساهم هو نفسه في تكوينها ورعايتها.
صحيح أن المؤلفة لا تتهم بوتين باغتيال غالينا ولا تقدم على شيء من هذا القبيل من قريب أو بعيد. غير أنها تفصح، من دون مواربة، ان هذه الجريمة الشنعاء عبّدت لها السبل لتنقّب، كصحافية، في الطبقات السفلى لجهاز الشرطة السرية لتكشف النقّاب وتزيل الغبار الكثيف عن البنية الغامضة التي انبثق منها بوتين وهو يضع نصب عينيه هدفاً وحيداً لا يخضع للمساومة: القبض على السلطة.
[قراءتان في واحدة
على هذا الأساس من محاولة المؤلفة التوصل إلى قراءة في شخصية بوتين من خلال قراءة أعمق، على الأرجح، في البنية الداخلية الغامضة لجهاز المخابرات الذي كان يديره، تمضي الكاتبة في بناء الخلفية المنهجية التي أدّت، في نهاية المطاف، إلى ان يستحوذ بوتين في شخصه على السلطات الحاسمة في روسيا. ولكونه نشأ وترعرع في كنف اندروبوف الذي كان بدوره يستقطب المصالح المالية الكبرى والنخبة السياسية ويمنحها الحماية والرعاية، اكتسب بوتين، بجدارة التلميذ النجيب، قدرة استثنائية على توظيف الأخلاقية المنحرفة التي غرف منها الكثير في عالم المخابرات. ومع ذلك، لم يعمد، على نقيض استاذه، إلى استدراج هذه النخبة إلى مواقع السلطة. والسبب في ذلك، أن الرئيس الذي سبقه إلى سدة الحكم، بوريس يلتسين، كان أنعم على زمرة قليلة العدد من هؤلاء المنتمين إلى الصفوف الضيقة لهذه النخبة، بالامتيازات المالية والاقتصادية الوافرة. والواقع ان يلتسين تجرأ على اختطاف هذه الامتيازات من بعض كبار المسؤولين في جهاز المخابرات، ثم وهبها، بالتكافل والتضامن، لأشخاص من أصحاب الحظوة لديه. لم يبق الحال على حاله طويلاً. إذ عندما طغت الأنباء السيئة على الأوضاع الصحية ليلتسين منذرة باقترابه من الموت، تعاظم القلق لدى هؤلاء وتملكتهم الهواجس المخيفة من احتمال أن تتملص من بين أصابعهم امتيازاتهم. توافقوا، على الفور، على البحث عن خلف ليلتسين بمقدوره أن يحمي مكتسباتهم "الخرافية" بالدعم والرعاية. لم يكن لديهم متسع من الوقت ليختاروا، بهدوء ورويّة الشخص الأنسب لهذه المهمّة الخطيرة. استقر رأيهم، على عجل، على ان يجعلوا من بوتين الشخصية المرتقبة لقيادة روسيا في مرحلة من سيطرة المافيات العملاقة على مقاليد الأمور. كان بوتين، في تلك الأثناء المضطربة، يرقب التحولات من خلال صمته المريب.
ولعله أيقن مبكراً ان لديه من المواهب والمواصفات وجاذبية القيادة ما يحيله الشخصية التي يتهافت عليها هؤلاء.
[ملفات وشخصيات
تسهب المؤلفة في استكمال الظلال الخفيّة لهذه الصورة المشوشة التي أُريد لها، على الأغلب، ان تظل في دائرة الكتمان المغلق. تفتح، في هذا السياق، ملفات مدهشة لعدد من الشخصيات الرئيسية والثانوية التي كانت تدور، بعيداً عن الأضواء، في فلك الأحداث. والأرجح أنها كانت تشكل النواة الصلبة التي بدت متحفزة لتضخ الدماء في جسد الطبقة الحاكمة التي راحت تلتف حول عنق السلطة في روسيا الاتحادية. من بين هؤلاء: المحافظ اناتولي سوبتشاك الذي كان ولا يزال صديقاً ومستشاراً أميناً لكل من بوتين والرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف. ويمحض هذا الأخير بوتين ولاء لا حدود له باعتباره مرشده "الروحي" الذي جاء به من العتمة إلى أضواء السلطة. تشير الكاتبة أيضاً إلى شخصية هامة أخرى هي: بوريس بيريزوفسكي، وهو من الدعاة المتشددين إلى استئثار نخبة قليلة العدد قوية الشكيمة بالسلطة في روسيا. وقد اشتهر بمواهبه في الهندسة والرياضيات، ويعزى إليه إقدامه على تثبيت بوتين شخصاً لا يستغنى عنه في الحلقة الضيقة التي كانت تحيط بالرئيس الراحل يلتسين. وقد ساهم بذلك في إزالة المعوقات من أمام بوتين ليدخل بعد ذلك إلى الكرملين دخول الأبطال. من بينهم أيضاً: أندريه بستريتسكي، المدير التنفيذي لمحطة التلفزة الرسمية الذي استغل نفوذه الإعلامي الواسع ترويجاً لإعادة انتخاب بوتين رئيساً في العام 2004. تبدو هذه العيّنة من الأسماء ومثيلاتها الواردة في الكتاب وفقاً لسياق الأحداث وتسلسلها، ضرورية، على الأرجح، لملء الفراغات المحتملة في مسيرة بوتين المحيّرة إلى السلطة. وقد تغدو هذه المحاولة التي تكبّدت المؤلفة مشاقها، مهمة مستحيلة للغاية في حال بقيت هذه البؤر الفارغة خاوية من الأدلة التي ينبغي ان ترصد هذا الزعيم في صعوده "المدهش" إلى موقع القيادة. كل من هذه الأسماء وسواها يشكل جزءاً ضائعاً من الصورة الكلية لهذا الرجل، تستخدمه المؤلفة في مكانه الملائم له، ثم توظفه في تعقّب أسماء أخرى من شأنها ان تملأ فراغات أخرى.
[البيئة الفكرية
وبغضّ النظر عن الجهد المذهل الذي بذلته الكاتبة في لملمة الشتات المبعثرة لهذا الرجل الذي أطل على الفضاء الروسي من خلف بواباته الواسعة، تنطوي هذه السيرة، في دينامياتها الداخلية، على قراءة عميقة في الأبعاد التي تسبق الحدث ثم تتجاوزه بعد أن يتكون على مسرح الواقع. تتجلّى هذه الرؤية الاستشرافية، إذا جاز التعبير، على نحو مثير للجدل والاستنباط والترقب، في الكيفية التي تنفذ من خلالها إلى البيئة الفكرية والسيكولوجية التي تتحكم، على الأغلب بجهاز المخابرات. ولعلها تعثر، وهي تتجول في الأرجاء الموحشة لعالم المخابرات، على ضرب مستهجن من الحقائق التي تنتمي، في طبيعتها الذاتية المغلقة، إلى "الخرافة" أكثر منها الحقائق الباهتة في الواقع الرتيب. تكتشف من خلف أروقة الوقائع أن بوتين وسواه ممّن يدورون في فلك هذه الظلال، لا يتلقون فقط التقنيات التقليدية التي ينبغي لعناصر المخابرات أن يتقنوها بالكامل. يتشربون من هذه "المدرسة" المعزولة في الضباب، تقنيات أخطر وأهم لمقاربة ذواتهم ومحيطهم والعالم من زوايا حادة مغرقة في الوهم وابتداع الأفكار المستغربة التي لا تنسجم بأي حال من الأحوال مع ذهنية البشر العاديين. خضع بوتين، على سبيل المثال، لتدريب مكثّف وعنيف ليستبدل عقليته التقليدية بعقلية أخرى، هي من النسيج الداخلي لرجل المخابرات. بات بمقدوره، على هذا الأساس من التشبع القسري بمفاهيم من هذا النوع، ان يوقن هو وزملاؤه ان السلطة، في طبيعة تكوينها وصيرورتها، هي حكر على الدولة فقط. ولأن الأمر كذلك، فإن استخدامها وممارستها في حيّز التطبيق العملي أمران لا يكونان إلا بالسيطرة على حياة الأمة.
وتعتقد المؤلفة أنه ليس من قبيل المصادفة ان الدرس الأول الذي تلقاه بوتين وسواه، في هذه الأكاديمية الغامضة، أن يعملوا الشك في كل الحقائق والوقائع التي يواجهونها في مهامهم الرسمية وفي حياتهم العادية على حد سواء. وتعلموا أيضاً، خلال مراحل تدريبهم الطويلة والمرهقة، أنه يتعذّر عليهم أن يتقبلوا الأحداث ببساطة كما تحصل على أرض الواقع. ولو حدث أن تغاضوا عن ذلك، بشكل أو بآخر، أو لسبب من الأسباب، فإنهم لن يكونوا جديرين بشرف الانتماء إلى "جنة" المخابرات. لذلك، لا مفرّ لهم من تجنيد طاقاتهم الفكرية ومواهبهم ومهاراتهم لاستباق الحدث قبل ان يسبقهم. صراع شرس، على الأرجح، يخوضه هؤلاء للسيطرة على الواقع في تحولاته بغية حرفه عن مساره واستدراجه بأي وسيلة كانت إلى المسار الذي يريدونه هم. وينطبق هذا، في نظر المؤلفة، على كل المستجدات من دون استثناء: انتخابات برلمانية، أسواق ناشئة، أو مستقرة، مفاهيم جاهزة أو متغيرة، برامج تلفزيونية، مناهج تعليمية، علاقات ديبلوماسية وسواها الكثير مما يعتبرها بوتين وزملاؤه مجالاً رحباً لإعادة تغيير وجه العالم. والأهم من هذه "القواعد" جميعاً، وفقاً لمباحث الكتاب، أن هذه الزمرة في صفوف النخبة السرية، تضع في طليعة أولوياتها، أن كل من تسوّل له نفسه ان يتخذ مواقف انتقادية للنظام، يصبح هدفاً مباشراً للتشكيك به والطعن في صدقيته. من هنا، تربط المؤلفة بين اغتيال غالينا واحتمال ان تكون شرعت النوافذ، بتساؤلاتها وجرأتها على تسمية الأشياء بأسمائها، أمام إزالتها من الوجود ببساطة لا مثيل لها.
صحيح أنها لا تتهم أحداً بعينه لانها تفتقر إلى الدليل الموضوعي. وهي تشير، في غير موضع، إلى ان استهدافات من هذا النوع القاتل، تجري في الصمت الثقيل بعيداً عن الأضواء والضجيج. ولعلها تتم بمعزل عن الزمان والمكان والأشخاص والوقائع. وكأنها تُنفذ في زمن آخر ومكان لا علاقة له بالجغرافيا. شبح يخرج من الفراغ، يرى ولا يُرى، يطلق النار على من يقع عليهم حكم الاعدام من دون أن يخلّف وراءه أثراً واحداً على الاطلاق. تخلص المؤلفة إلى الاستنتاج بأن بوتين يتوجس شراً من أخصامه المحتملين ناهيك بمناوئيه الحقيقيين. يخيّل إليه، على الفور، أنهم يتطلعون إلى إزاحته من مواقع السلطة. لا يملك إلاّ أن يعيد صوغهم على هذا الأساس من الارتياب القهري. والأرجح أنه يفعل ذلك على إيقاع أن أهدافه تندرج جميعاً في خانة الأولويات التي لا تحتمل التأجيل. زعيم يمضي به طموحه وعقله البارد وإرادته الصلبة إلى الايمان العميق بأن لا شيء مستحيلاً في العالم طالما أنه يمتلك الرؤية التي تصنع العالم.
نقلاً عن المستقبل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.