كانت آنا، بائعة في السوق، تقف وسط أكوام جوارب الصوف المستوردة من أرمينيا والقبعات من تركيا، فخفّضت صوتها فجأةً. في بداية الشتاء، لم تتوافر خدمة التدفئة طوال أسابيع في شقق المدينة ويقع الذنب في ذلك بحسب قولها على {هذا الرجل النافذ الذي هبط علينا وكأنه نيزك من السماء}. تكنّ آنا الكره لميخائيل خودوركوفسكي. قبل اعتقاله، كان يُعتبر أغنى رجل في روسيا وكانت هي لا تزال فقيرة لدرجة أنها تضطر إلى تدعيم راتبها الشهري الضئيل الذي يقل عن 100 يورو (130 دولاراً) عبر بيع الملابس الرخيصة. تقع محطتها داخل السوق في ضواحي بلدة سيغيزا الكئيبة التي تشمل 30 ألف نسمة في جزء مقفر من البلد. تقع موسكو على بُعد 900 كلم (600 ميل) من البلدة وتقع الحدود الفنلندية في الجوار. خلال حقبة الثلاثينيات، أرسل ستالين المجرمين والأعداء السياسيين إلى هذه الزاوية النائية من البلد حيث مات أكثر من 100 ألف منهم. تؤدي طريق صخرية تصطف على جوانبها أشجار التنوب إلى {مخيم الإصلاحية السابع}. تغرق الحافلات التابعة لخط المواصلات رقم 4 بالطين والوحل كما يحصل في كل فصل ربيع. في آخر محطة للحافلات، ترتفع الجدران المحاطة بالأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة ولافتة تحذر الزوار: {لا يُسمَح بالتقاط الصور}. يقبع ما مجموعه 1300 سجين في هذا المكان، بما في ذلك أشهر معتقل، خودوركوفسكي، الذي احتُجز في المخيم منذ سنتين تقريباً. لكنه قد لا يبقى واحداً من المعتقلين قريباً. انتشرت في الفترة الأخيرة موجة من التوقعات حول احتمال أن تصدر موسكو قراراً بإطلاق سراح خودوركوفسكي. طلبت المحكمة العليا الروسية مراجعة ملفات أول محاكمتين ضد رجل الأعمال. ونظراً إلى وجود أخطاء إجرائية مؤكدة، يمكن تخفيض مدة الحكم التي بلغت 11 سنة ويمكن أن يستعيد ذلك الرجل النافذ حريته قريباً. تهديد على بنية السلطة على صعيد آخر، كتبت الصحيفة الوسطية {نيزافيسيمايا غازيتا} أن الكرملين يستعد راهناً لرفع دعوى جنائية ثالثة ضد خودوركوفسكي، على أن تكون تلك الدعوى كفيلة بإبقائه وراء القضبان طوال عقدين ولكن بتهمة التخطيط للقتل هذه المرة. إذا تحرر خودوركوفسكي فعلاً، لا شك في أنه سيطرح تهديداً جديداً على بنية السلطة التي يستفيد منها الرئيس فلاديمير بوتين. قد يطالب باستعادة إمبراطوريته النفطية التي تفككت على يد أصدقاء بوتين وقد يصبح ممثل المعارضة المتخاذلة. فقد بدأت محاكمة أشهر زعيم لتلك المعارضة، صاحب المدونة ألكسي نافالني، في الأسبوع الماضي بعدما اتّهمه الادعاء العام بالاختلاس. يدعي نافالني أن الكرملين هو الذي وجّه له تلك التهمة، وذلك بهدف إخفائه وراء القضبان طوال سنوات مثل خودوركوفسكي. مرّت تسع سنوات ونصف منذ أن اعتقل بوتين الملياردير بتهمة التهرب من دفع الضرائب قبل أن يأمر بتفكيك شركته النفطية {يوكوس} وبيعها. اليوم، أصبح خودوركوفسكي أشهر مما كان عليه في ذروة نفوذه، حين موّل أحزاب المعارضة واتهم أقرب أصدقاء بوتين بالفساد وفكر ببيع حصة من شركته لشركات نفطية أميركية. بالنسبة إلى الغرب، كانت قضية خودوركوفسكي مؤشراً إلى الاتجاه الذي تسلكه روسيا: هل سيتم إطلاق سراحه وفق صفقة معينة لتلميع صورة البلد الملطخة قبل الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 ولمواجهة التباطؤ الاقتصادي المتزايد؟ يبدو خودوركوفسكي بمثابة شاشة عرض تعكس صورة الروس الذين لم يجدوا موقعهم المناسب بعد الانهيار الصادم للاتحاد السوفياتي قبل 20 سنة. يكرهه البعض ويعبّر البعض الآخر عن إعجابهم به. من بين الأفراد القلائل الذين يتعاطفون معه في سيغيزا، تبرز مديرة {المدرسة رقم 6} في البلدة. منذ سنوات، حضرت ندوة عن الحواسيب من تمويل {مؤسسة روسيا المفتوحة} التي يملكها خودوركوفسكي. حين أرادت مناقشة مسألة {العدالة الاجتماعية ورجال الأعمال النافذين من أمثال خودوركوفسكي} مع طلابها في المرحلة الثانوية، منعها مجلس المدرسة من فعل ذلك. شبح يطارد الكرملين يحوم شبح رجل الأعمال فوق سيغيزا بشكل دائم وتكثر الإشاعات عنه نظراً إلى ندرة المعلومات المتعلقة به. يعتبر البعض أنه أطلق وباء حمى الخنازير للانتقام من المدينة بينما يصر آخرون على أنه يعيش كملك وراء الأسلاك الشائكة. لكنّ شبح خودوركوفسكي يطارد الكرملين أيضاً. يبدو الصراع القائم بين بوتين وخودوركوفسكي أشبه بمعركة العمالقة. يمكن أن يستهدف بوتين رجل الأعمال المكروه بقوة جهاز دولته. في المقابل، تضمن آلية العلاقات العامة التي يشغّلها ذلك الإمبراطور النفطي نشر الكتب التي تتعاطف معه وقد جذبت سيمفونية تألفت تكريماً له الانتباه عالمياً. خلال التظاهرات الحاشدة في موسكو، كانت الدعوات لإطلاق سراح خودوركوفسكي أحد أبرز المطالب التي أطلقتها المعارضة. بدأت شعبية بوتين تتلاشى في البلد، حتى في سيغيزا. لا علاقة لذلك بشخص خودوركوفسكي بل بغياب الفرص. خلال السنوات الخمس الماضية، هرب سِبع السكان من المدينة. فحمّل السكان المحليون الرئيس الروسي ونظامه مسؤولية أزمتهم الاقتصادية، وقد انتخبوا رئيس بلدية كان مدعوماً من الشيوعيين والقوميين. خلال انتخابات مارس 2012، جمع بوتين أصواتاً أقل بنسبة 16% من نتيجته في عام 2004: فحصد 56% فقط من الأصوات، وهي نتيجة ضعيفة وفق المعايير الروسية. حتى السياسية الأكثر جاذبية في سيغيزا لم تستطع تجنب هذا الإخفاق الانتخابي. دعمت ليانا فاغوزينكوفا المعروفة بشعرها الأشقر المنسدل حملة بوتين. هذه المرأة التي تبلغ 31 عاماً تمثل المقاطعة حيث يقع مخيم الاعتقال الذي يقبع فيه خودوركوفسكي. نجحت في تركيب أنابيب المياه الساخنة ضمن دائرتها الانتخابية الفقيرة ومنعت وقف خدمات خط الحافلات الوحيد. تدير هذه الأم العازبة دار السينما التابعة للبلدية، وهي الوحيدة في البلدة. حرصت على تعليق شبكة تحت السقف مباشرةً كي لا يتأذى المتفرجون من الجص المتساقط. لكنها تقول: «بوتين يضمن استقرار بلدنا». لم يُسمَح لها بعرض فيلم وثائقي بعنوان {خودوركوفسكي} للمخرج الألماني سيريل توشي، لذا شاهدته على شبكة الإنترنت. أكدت أنها أحبت الفيلم لأنّ توشي {يُظهر خودوركوفسكي كرجل شجاع وليس مجرد مجرم كما يتم تصويره على شاشات التلفزة هنا}. {جعل حياتي مملة!} يكنّ الصحافي الروسي ألكسي ياكوفليف الكره لبوتين وقناته الترويجية: {أعادنا بوتين إلى زمن القيود التي تخلصنا منها في عهد غورباتشوف}. يعمل ياكوفليف في شركة بث خاصة اسمها {نيكا بلاس}. يشعر بالفخر لأنه فاز بقضيتين ضد عمدة البلدة. يمكن اعتباره حارس المدينة. يجلس وراء مكتبه ويرتدي معطفاً أزرق ووشاحاً لدرء الطقس البارد في مكتبه. يقول ياكوفليف: {بوتين جعل حياتي مملة. كان الوضع أكثر إثارة للاهتمام في عهد غورباتشوف}. حين نفذ المتشددون الشيوعيون انقلاباً ضد غورباتشوف في أغسطس 1991، علّق ياكوفليف ملصقات كُتب عليها {الانقلاب لن ينجح} في محطات الحافلات في سيغيزا. يستطلع ياكوفليف آراء الناس في الشوارع مرة أسبوعياً ويمنح أبناء وطنه فرصة التذمر من تراجع نوعية الخدمات في المستشفيات ومن البحيرات الملوثة. إنها طريقته لمحاولة إعادة إحياء المزاج المفرح الذي ساد في تلك السنوات الانتقالية الصاخبة. لكن لم يطرح ياكوفليف أي أسئلة عن خودوركوفسكي. يقول: {إعجابي به لا يتجاوز إعجابي بالأغنياء الجدد الآخرين}. كذلك، لا يبدي إعجاباً كبيراً بمعظم رجال الأعمال النافذين في سيغيزا مع أنه يعتبر أن أندريه ماركوف هو الأكثر احتراماً بينهم. لكنه يعود ويضيف أن ماركوف لم ينجح في جمع ملايينه إلا بفضل معارفه الجيدة مع حاكم المقاطعة في تلك الفترة. {لن يتغير شيء!} في ردهة الفيلا التي يملكها ماركوف في ضواحي البلدة، يقف ذئبان محنّطان ودب بنيّ اللون يكشّر عن أسنانه لاستقبال الزوار. كان ماركوف قد اصطاد تلك الحيوانات بنفسه. خلال التسعينيات، تحول من سائق سيارة إسعاف إلى أغنى رجل في المدينة. يملك 17 متجراً كبيراً وأربعة مخابز ومحطة وقود. كان أشبه بنسخة مصغرة من خودوركوفسكي في سيغيزا. نجا ماركوف من محاولة اغتيال ومحاولة الاستيلاء على شركته من مافيا من سانت بيترسبورغ. قُتل اثنان من موظفيه بعد إطلاق النار عليهما. كان رجل الأعمال قد عاد لتوه من البحيرة المجاورة: {حين أقوم برحلات مماثلة، أتذكر دوماً الوحش الذي كان عليه ستالين. لقد سبّب فياضانات في عشرات القرى، بما في ذلك القرية التي عاش فيها جدّاي}. أما اليوم، بعد سنوات مضطربة عدة شهدت التعامل مع الموظفين السكّيرين والبيروقراطيين الفاسدين، يظن أن {روسيا تحتاج على الأرجح إلى نسخة جديدة ومصغرة من ستالين لمنع الناس من السرقة كما يفعلون الآن في عهد بوتين}. لقد باع جزءاً من شركته ويريد إرسال حفيده الذي يبلغ 10 سنوات إلى لندن: {لن يتغير شيء في روسيا. وما دام بوتين في السلطة، لن يتحرر خودوركوفسكي}. وقفت امرأة كبيرة في السن أمام {مخيم الإصلاحية السابع} وقد اتضح من قبعتها الأنيقة أنها ليست من سكان البلدة. أمضت المرأة رحلة دامت 14 ساعة في القطار من سانت بيترسبورغ. تحمل دوماً صورة خودوركوفسكي في حقيبتها وتقول بكل ثقة: {سينقذ روسيا}. كان زوجها ينتظر في موقف الحافلات ولكنه يقول: {لطالما كانت زوجتي امرأة حالمة!}.