غزة بين غزوتين وعَرَبينالرصاص المصهور 2008 ليس رصاصاً هذا الذي ينهمر على قطاع غزة. إنه أطنان من القذائف والصواريخ. ترسانة كاملة من الديناميت والحديد المصهور والنار. اسم العملية الاسرائيلية مضلل، مثل أهدافها المضللة، مثل واضعي خطَّتها الدموية، مثل فكرتهم الخطأ عن نهاية القصة. المسمّيات هناك لا تتخذ أسماءها الفعلية عندما يتعلق الأمر ب االغوييمب (الآخرين). فلتسمَّ بأيِّ اسم، قريباً كان أو بعيداً، فليس الاسم مهماً ما دام يتعلق بدمٍ آخر غير االدم اليهوديب الذي يحقُّ له وحده أن ينعم بالاسم الصحيح. مقذوفات الفلسطينيين، في المقابل، تسمى اصواريخب. اطلاقها على المستوطنات يسمى اارهاباً'. وقعها على المستوطنين يدعى ارعباب. التلفزة الغربية، المنحازة حتى العظم لأخبار القلعة الأمامية، ترينا اجلاء المستوطنين. ترينا ملاجىء. ترينا أناساً يتحدثون الانكليزية مثل الانكليز. ترينا الحفر البائسة التي أحدثتها مقذوفات فلسطينيي غزة، ولكنها تتلكأ كثيراً في أن ترينا الدم والأشلاء والهياكل العظمية النخرة للبنايات والأسواق والجوامع والسجون والمقار الحكومية التي تسويها الطائرات الاسرائيلية بالأرض، أو تتركها شاهداً على االافراط في القوةب. تلك الصور نادراً ما نراها. تتركها التلفزات الغربية للبث العربي الذي ايعظب المؤمنين. إن حدث ورأينا صوراً كهذه، لا بدَّ أن تكون مقرونة بصور مقنعين وشبان يلوحون ببنادقهم في غضب وناطقين يتحدثون انكليزية ركيكة. فالصور، هي أيضاً، تحاربُ. الصورُ تقول شيئاً وتصمت، بلؤمٍ وانحيازٍ، عن شيء آخر. كلامهم الفصيح، وكلامنا المتلعثم مقصودان كذلك. الأول يوحي بالألفة والامتداد والثاني بالغرابة والقطيعة.اسرائيل تقول إنها تريد الاستيلاء على منصات الصواريخ الفلسطينية التي تُطلق على مستوطناتها من القطاع. كذلك قالت عندما اجتاحت لبنان عام 82 تحت شعار اسلامة الجليلب. أهداف كاذبة ومراوغة. فهي لم تغادر لبنان رغم مغادرة منظمة التحرير. لم تتراجع وراء الحدود إلا بعد أن أجبرتها المقاومة اللبنانية على ذلك. والآن تعيد الأكذوبة ذاتها. دورة الدم والدمار نفسها. مثل مصاصي الدماء في السينما لا تكتب لهم حياة من دون دمٍ حيّ. هذه هي اسرائيل: افامبايرب. بالدم لا بالخبز تعيش، بالحرب لا بالسلام تبقى على قيد الحياة. ليست هناك ادولةب في العالم يقتلها السلام كما هي حال اسرائيل. إنها تعرف تلك الكأس ولن تتجرعها قط. أي انجاز اسرائيلي، بعد هذه التجريدة الدموية، أقل من احتلال قطاع غزة بالكامل وفرض الاستسلام على اجرحه المكابرب لن يكون نصراً. فالنصر الذي لا يحقق تغيير اقواعد اللعبةب (على حد تعبير المجرمة الشقراء ليفني) بعد كل هذا الدمار والدم والفضيحة السياسية والاخلاقية لن يكون نصراً. نصر القوي غير نصر الضعيف. نصر المدجج بكل أسباب القوة وبالقدرة، المطلقة السراح، على استخدامها، غير نصر المحاصر. هل هذا هدف سهل المنال؟ لا يبدو الأمر كذلك. لأن القصة لا تنتهي هكذا. كل القصص التي تشبهها لم تنته هذه النهاية. ينسى الاسرائيليون أنهم لا يغيرون على جيش. لا يضربون خطوطا ثابتة تتلقى أوامر من جنرالات مثقلة أكتافهم بأوسمة مزيفة. إنهم يواجهون شعباً لم يعد لديه ما يخسره، شعباً جوعوه وأذلوه وحاصروه في أضيق رقعة في العالم، ولكنه لم يرفع الراية البيضاء. ينسى الاسرائيليون، كذلك، أن القصة لا تنتهي برفع الراية البيضاء، وأن الرواة، الذين لم يستمعوا إليهم جيداً، لم يتوقفوا عن الكلام بعد اسلامة الجليلب ولا اعناقيد الغضبب ولا االسور الواقيب ولا اأمطار الصيف'، ولا االرصاص المنهمرب أو االمصهور'.إن كان الاسرائيليون لا يعرفون أن الشعوب لا تُكْسر بسهولة ولا تموت بكسة زر، فالفلسطينيون يعرفون أن للقصة نهاية أخرى غير تلك الخرائط التي يفردها اجيش الدفاعب على الأرض المحروقة. قد لا يكون فصل الختام قريبا في القصة القديمة المتجددة ولكنه لا ينتهي على هذا النحو. عمود السحاب 2012 التكرارُ ممكنٌ في الأدب ولكنه مستحيل في الواقع. الكتابة الأدبية (البلاغة العربية تحديداً) تستخدم تقنية التكرار للتأكيد على الموضوع الذي تعالجه أو لمضاعفة التأثير في المتلقي، كما هو الأمر في مستهل هذه الوقفة غير الطللية. لكن التكرار في الواقع (الزمن، الأحداث، ظواهر الطبيعة) غير ممكنٍ عملاً بمقولة هيروقليطس الشهيرة: إننا لا ننزل الى النَّهر مرتين. لا نستحم بمياهه مرتين. فمن دأب مياه النهر التغير والجريان. وهذا ما يحدث في غزة اليوم مع 'عمود السحاب'. القصة القديمة تبدو كأنها تتكرَّر. كأنَّ الحكاية تعود لتروي نفسها مجدداً على نظارة ضجرين يعرفونها من الألف الى الياء: الطائرات التي تغير وتقصف، أعمدة الدخان التي تتعالى من رأس المدينة المنكوبة، الدمار الهائل الذي تحدثه صواريخ الإف 15 والإف 16، الضحايا، مدنيون في الغالب، تغصُّ بهم المستشفيات، العرب الذين يشجبون ويندِّدون، الضفة الغربية التي ترى وتسمع ولكنها لا تنتفض في قفص السلطة الحديدي.. كلُّ هذا صحيح، وكله متوقع، كأنَّ لا شيء يفاجئنا مع هذا الكيان السرطاني ولا نحن قادرون على مفاجأة أنفسنا.. ولكن مهلاً، يبدو أن الأمر مختلف هذه المرة. نعم، هو كذلك. فلم تدفع 'مقذوفات' المقاومة في غزة الإسرائيليين، من قبل، الى إطلاق صفارات الانذار في القدس وتل أبيب. هذا لم يحصل سابقاً. فالمقذوفات شبه البدائية التي ألقتها فصائل المقاومة الفلسطينية على المستوطنات والبلدات الاسرائيلية القريبة من القطاع في المواجهات السابقة صارت صواريخ بعيدة المدى. الهلع المصطنع والتباكي خوفاً والكاميرات التي تتلكأ بالقرب من الملاجىء لاستدرار العطف أصبحت حقيقة، فهناك أكثر من مليون اسرائيلي هرعوا الى الملاجىء أو أقاموا فيها. العالم الذي يكاد أن يبوس ذقون قادة كيان الحرب والعدوان كي يكفوا طائراتهم المسعورة عن سماء غزة لم يفعل هذه المرة، بل لعلهم هم الذين يوسِّطون العالم لوقف اطلاق النار وتوقيع اتفاق تهدئة طويلة المدى مع المقاومة. النزهة الجوية المريحة على مدينة تشهد أكبر اكتظاظ سكاني في العالم، وربما أكبر بؤس وحرمان وشوق الى حياة عادية، لم تكن مريحة هذه المرة. ولا على أي صعيد. فهناك مياه أخرى جرت تحت جسر الزمن والواقع مذ صبَّت إسرائيل رصاصها المصهور على غزة عام 2008. المفاجأة في القصة القديمة، التي تعود لتُرْوى، أن هناك غزة مختلفة اليوم وواقعاً عربياً لا يشبه أيام 'الرصاص المصهور' كما تشير إليها، بوضوح، الفقرة السابقة من هذا المقال. 'عمود السحاب' لم يرتفع فوق غزة وحدها بل ارتفع فوق عاصمة اسرائيل ومدن عاشت في عصمة أمنية عقوداً طويلة. فإن كان لا بدَّ من دخان يتصاعد من رأس غزة فليتصاعد الدخان، إذن، من رؤوس مدنهم ومستوطناتهم. هم أصحاب قانون العين بالعين والسن بالسن ولا يفهمون غير هذا القانون. متغيرات كثيرة حصلت منذ آخر غزوة اسرائيلية كبيرة على غزة، منها أن المقاومة لم تنم على 'حرير' التهدئة فعملت على تهيئة نفسها لجولة تعرف أنها قادمة، فمع اسرائيل، ما لم تهزم نهائياً، هناك دائما جولة قادمة، ومنها أيضا أن حسني مبارك، كنز اسرائيل الاستراتيجي، يقبع سجينا في سجن 'طرة' ولم تعد قواه الأمنية والاستخبارية تعمل كقصَّاص أثر في صحراء سيناء لمصلحة اسرائيل.. والأهم من كل ذلك أن هناك ثورات حصلت في مصر، تونس، اليمن، سورية. العالم العربي الذي تجسُّ نبضَه طائرات نتينياهو تغير كثيراً في العامين الماضيين وهو في سبيله الى مزيد من التغير . هذا هو الفارق الجوهري، في رأيي، بين عدوان اسرائيلي على غزة في ظل الاستبداد وعدوان في ظل انتفاضات عربية تختلط مقاصدها واستهدافاتها بين ما هو وطني وقومي، داخلي وخارجي. لا نجادل بقدرة اسرائيل على التدمير. فهذا ما تجيده وتبدع فيه ولكن السؤال يظل، رغم كل هذا الدمار الذي الحقته بالمدينة الاكثر اكتظاظا في العالم، قائماً: هل غير هذا الدمار 'قواعد اللعبة' وأرسى واقعاً جديداً (لصالحها) في غزة؟ الجواب: كلا. لأن القصة القديمة المتجددة لا تنتهي هكذا. لتلك القصة نهاية مختلفة لن تكتب أسطرها الأخيرة ال إف 15 و ال إف 16.