النقد وأدب المقاومة عبدالجواد خفاجي منذ ما قبل إعلان قيام إسرائيل في 15 مايو 1948 والعالم يشهد أبشع وأشنع أنواع المجازر والإبادات الجماعية تُرتكب بحق المدنيين والعُزَّل من أبناء الشعب الفلسطيني المناضل الصابر .. إبادات ومجازر شنيعة تهدف إلى حرق الأرض وما عليها من نسل وحرث، والأمثلة كثيرة لا تزال ماثلة في الذاكرة العربية بداية من مذبحة دير ياسين (19/4/1948)، تم البُعنة ودير الأسد (31/10/1948) ثم مجزرة عرب السمنَّية (30/10/1948) ثم كفر قاسم (29/10/1948) ثم صبرا وشاتيلا ( 18/8/1982) ثم بآخرة مجزرة غزة التي شهدها العالم على مدي ثلاثة أسابيع ابتداء من 27/12 /2009 .. كلها مجازر ومذابح تؤكد شناعة هذا الاحتلال البغيض، غير أن أعمال القتل والإبادات الإسرائيلية لم تتوقف يوماً بحق الفلسطينيين، بأساليب وسبل متعددة يتفنن اليهود في اختراعها، والهدف المعلن وغير المعلن هو تصفية هذا الشعب جسدياً، ومصادرة أرضه وما فوقها، وتهجير البقية المتفلتة من الموت إلى الشتات، أو اعتقالهم والزج بهم في المعتقلات، أو على أحسن الاحتمالات تقييد حريتهم وتنقلاتهم فوق أرضهم المغتصبة، وتركهم نهباً للفاقة والمصير المجهول تحت طغيان جنود لم يعرف التاريخ مثيلاً لرذالتهم. تاريخ مدمٍ يدفع فيه الفلسطينيون والعرب حصة وافرة من دماء طاهرة، فوق أرضهم الملوثة بأنفاس اليهود، وأساليبهم الإرهابية العنيفة، المتوالية كسيل من سعير. من الطبيعي أن يكون الأدب معبِّراً عن موقف الوجدان العربي من هذه المجازر، وتلك الشناعات التي لم يشهد التاريخ الإنساني مثيلاً لها، ومن الطبيعي أن يكون الأدب لسان حال الشهداء, والثكالى, والمشردين والجياع، ومن الطبيعي أن يعبر عن تمجيده للبطولات و الانتصارات التي تحققها المقاومة ومن الطبيعي أن يخلد ذكرى الشهداء, وهو يحث على المقاومة والكفاح. وبطبيعة الحال لن يكون الأدب محدوداً بحدود آنية الأحداث وتاريخيتها، ومحدداتها الطوبوغرافية، بل سيتسع باتساع الرؤي، ليشمل القضية التي تسيل الدماء حولها. وبطبيعة الحال أيضا أن كل مجزرة إسرائيلية بحق أبناء شعبنا الفلسطيني تكون مفجراً شعرياً يستنهض من جديد وجدان هذه الأمة وضمائرها نحو الفعل المقاوم، ويفضح العدوان وأساليبه الوحشية أمام التاريخ. هو الشعر سجل إذن، ديوان هذا الوجدان العربي المترع بالأنين، وثيقة حاشدة بالتضحيات والبطولات، ذكريات وتاريخ و رؤى تنداح في محيط الدماء، وصيحة لا تكف عن إعلان الرغبة في الخلاص. ولعلنا لاحظنا بعد الهجمة الاسرائيلية على غزة كيف استنفر الشعراء العرب قرائحهم ، وقرأنا ومازلنا نقرأ قصائد صاغها شعراء ينتمون إلى الخارطة العربية من المحيط إلى الخليج، جاءت جميعها مواكبة آخر المجازر التي نفذها العدو في أبناء شعبنا الفلسطيني في غزة . وفي رأيي أن جمع هذه القصائد في دواوين تحت عنوان (ديوان المقاومة) عمل بالغة الأهمية، وله أبعادها القومية السياسية، أو النضالية الوطنية، أو الأدبية الجمالية، أو التأريخية التوثيقية ، إلا أن قيمته الحقيقية ستظل فيما سحدثه من توسيع لحدود مصطلح "أدب المقاومة" الذي ظل مرتبطاً بشعراء الأرض الفلسطينيةالمحتلة منذ بزوغ هذا المصطلح، وشيوعه في الحياة الثقافية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديدًا بعد نكبة 1967 وإن كان البعض قد يرجع به إلى الأجيال الأولي لبزوغ المقاومة بعد ثورة 1936 في الأراضي الفلسطينية. لقد ظل هذا المصطلح مرتبطاً بالأدباء الفلسطينيين أنفسهم باعتبارهم الطرف المباشر في الصراع، والأكثر تضرراً ومعايشة لجرائم الاحتلال، والأكثر شهادة على جرائمه، والأكثر انخراطاً في الفعل المقاوم. وفى رأيي أن هذا الربط جاء في إطار ما تسعى إليه سياسات العدو وأحلافه الذين يعملون على عزل القضية الفلسطينية عن محيطها العربي والإسلامي. لاشك أن مثل ذلك الديوان الجامع سيأتي راسماً سياسة مغايرة نحو توسيع حدود المصطلح ليشمل كل الشعراء العرب الذين يعيشون تجاربهم الروحية مؤرقين بما يرون من أفعال اليهود في فلسطين، أو المقاومين على نحو من الأنحاء، أو المهمومين بفعل المقاومة، وبالقضية الفلسطينية لبِّ الصراع، هؤلاء الذين يحزنهم أن يستمر الصراع فوق أجساد أبنائنا في فلسطينالمحتلة، ويؤرق وجدانهم أن يستمر الفلسطينيون ما بين مُهَّجر أو قتيل. ولا شك أن توسيع حدود المصطلح الآن يأتي في إطار الواجب العربي، وفي خطوة أحسبها تأكيدية على عروبة القضية الفلسطينية، كما يأتي في إطار جمع كل الطاقات الروحية لهذه الأمة باتجاه توحيد الهدف والجهد من أجل استمرار النضال والمقاومة حتى تَطْهُر الأرض من أدران اليهود. ********** ثمة إشكالية نقدية ، يجب أن نشير إليها ما دمنا بصدد الحديث عن أدب المقاومة، وقد لاحظت انطلاق بعض الدراسات المعنية بأدب المقاومة من منطلقات رؤيوية خاطئة، ثم لتؤسس من خلال خطئها هذا منهجاً تحليلياً باتجاه الشعر. ولعل مشكلة كثير من المناهج النقدية التي تزعم علميتها ودقتها وصرامتها وصدقها في نفس الوقت، ليس في قيام أسسها أو أركانها الثلاثة (النظري الاصطلاحي الإجرائي ) بل أحيانا في المرجعية النظرية التي تتحكم في تلك المناهج. فأحياناً ما يكون الخطاب النقدي المعني بتقييم الخطاب الأدبي واستخلاص جمالياته، و تأويل إشارات النص و كشف مضمرات الخطاب .. أحيانا ما يكون هو في حد ذاته بحاجة إلى مراجعة مناهجه، أو منطلقاته الفلسفية التي يبدأ منها باتجاه أدب المقاومة على الأقل. فمن المعروف أن أدب الحرب والمقاومة هو ذلك الأدب الذي يرتبط أو يواكب قضية أو قضايا مصيرية ترتبط بالذات الجمعية الواعية بهويتها والمتطلعة إلى الحرية، في مواجهة الآخر المعتدي. ولعل القضية الفلسطينية كانت عبر القرن الماضي ولا تزال من أكبر القضايا التي شغلت الضمير العربي وأرقته، ورهنت سياساته القطرية بها، لكنما السؤال الذي قد يتفلت جزافاً من ربقة التحديد الاصطلاحي هذا إلى فضاء السياسة، أو تهويمات الفلسفة، أو رهانات الأيديولوجيا هو: " ما جدوى أن يرتبط الشعر بالقضية؟ أو: " .. ماذا فعل الشعر للقضية؟ قد يكون أوقد نار الحماسة في النفوس، وقد يكون أيقظ الإحساس بالانتماء القومي والديني، وقد .... ولكن الشعر وحده لا يحرّر أرضاً، ولا يرد عدواناً عنصرياً آثماً . إن قضية فلسطين في حاجة على مقاتلين سياسيين يؤازرهم من ورائهم عمق عربي وإسلامي مؤازرة صادقة أكثر من حاجتها إلى شعراء وتجار سياسة " (1) . ولعل نوعية هذه الخطابات المتسائلة، المرتكزة على"قد" التشكيكية، والتي ربطت بجرة قلم بين الشعراء وتجار السياسة، من دون تمييز نوعي على الأقل بين الخطاب السياسي والخطاب الشعري، تتجاهل مبدئياً أن إيقاد نار الحماسة في النفوس، وإيقاظ الإحساس بالانتماء القومي والديني هو من أهم ما تتطلبه المرحلة الراهنة قبل الشروع في أي مسار استراتيجي يتعلق بالصراع الدائر بين العرب وعدوهم سلماً كان أم حرباً.. هذا من ناحية، من ناحية أخرى إن هذه الرؤية انتهت من حيث لا تدري إلى ما بدأت التشكيك فيه، أو بالمعنى: إن أي عمق عربي أو إسلامي مؤازر تتوقف درجة صدقه على قيام ما بدأت هذه الرؤية التشكيك فيه. والإشكالية ليست في ما تحتمله هذه الرؤية من صدق أو كذب، أو في درجة وعيها أو لا وعيها، الإشكالية أنها تحمل دون أن تدري أيضاً توجها سياسياً تحاول أن تفرضه على الشعر، والأمر غير ذلك، فالخطاب الشعري له من الاستقلالية حظ يؤهله لأن يَقُومَ كخطابٍ مستقل موازٍ للخطابات الأخرى في هذا المجتمع أو ذاك، هذه واحدة .. الثانية: أن هذه الخطابات المتسائلة تؤسس من خلال أسئلتها الجزافية تلك منهجاً تراه صالحاً لدراسة أدب المقاومة، وتلك هي المفارقة. ولعل السياق يستدعي أن نؤكد على أن نوعية هذه الخطابات المتسائلة انتقلت من الشك على اليقين فجأة، من دون أن تمحص وجاهة أسألتها، ومن دون أن تؤكد يقينها، ومن ثم فهي في حد ذاتها تستدعي ضرورة قيام أدب المقاومة واستمراره، لا لشيء إلا لأنها تأتي في إطار أزمة الوعي بطبيعة الصراع العربي مع عدوه الصهيوني، وبإشكاليات الراهن العربي وأزمته، كما أتت في إطار أزمة وعيها بطبيعة أدب المقاومة وأهميته ودوره المأمول. نعم تستدعي قيام أدب المقاومة واستمراره لسببين ، أولهما : إن معنى هذه الرؤية أن يتخلى الأدب عن كل ما يتصل بالاستقلال والحرية والهوية والقومية والعقيدة الدينية.. عن الخصوصية وتفاصيلها، وعن كل ما يتصل بفلسطين وبالصراع العربي الصهيوني، وعن مجد المقاومة وأهميتها وضرورتها ومسوغاتها، وعما أنجزته وما يمكن أن تنجزه تلك المقاومة في تاريخ الشعوب، وهذا بدوره يستوجب ضمنيا العودة إلى الوراء ، لنلغي من ديوان الشعر العربي كل ما كان غرضه الحماسة، أو الحث على المقاومة أو الجهاد. أما السبب الآخر يتعلق بضرورة تصويب توجهات تلك الرؤية وهذا في حد ذاته يقع في مجال عمل الأدب المقاوم ، فالأدب المقاوم كخطاب فني ليس فقط معني بإيقاد نار الحماسة في النفوس، وإيقاظ الإحساس بالانتماء القومي والديني، ليس هذا فحسب، بل هو معني كذلك بتقديم الرؤي الممكنة حول الأزمة وأبعاد الصراع، شأنه في ذلك شأن أي خطاب أدبي آخر، معنيّ بضرورة المراجعة الدائمة لأسئلة الواقع ومعطياته في ضوء ما يفرضه الصراع العربي الإسرائيلي، وفي ضوء مستجدات الخطاب السياسي ومسئولياته المفترضة، ولا أظن أن ذلك يتنافى مع دور هذا الخطاب في أي مجتمع، قديماً كان أو حديثاً، فثمة خطابات كثيرة في أي مجتمع، سياسية ودينية واجتماعية ... إلخ من بينها خطاب الفن، مهمتها إنتاج الرؤي، وإطلاق أسئلة المراجعات، وربطها أحياناً بالمرجعيات الكبرى في الحياة الإنسانية. على أن قضية الصراع العربي الإسرائيلي تستوجب ألا ننظر في اتجاه واحد، خاصة في اللحظة الراهنة بمتغيراتها وانهياراتها السريعة المتلاحقة التي تحاصر الأمة العربية ثقافيا وعسكريا واقتصاديا، إن مفهوم المقاومة قد يتسع حول القضية بطبيعة الحال، كما أن مفهوم كلمة العدو اتسع أيضاَ حول القضية التي طال أمده الصراع حولها وشمل أعوانه وأحلافه، وفوق ذلك "أعداء الداخل" ومن الممكن أن يكون من نفس الأمة، وليس شرطًا أن يكون عدوًّا خارجيًّا، بل إن كثيراً ما يكون المرء عدو نفسه بغبائه وعناده وعدم وعيه، الأمر الذي يستوجب أن نعيد إليه وعيه أولا ، إن إعادة الوعي لهذه الأمة هو نوع من مقاومة الذات لعوامل محوها واندثارها. من الطبيعي إذن أن تتغير أشكال المقاومة ومفهوماتها من زمن إلى زمن؛ لذلك ليس غريبا في عصر العولمة كذلك أن يتسع مفهوم المقاومة ليشمل الدفاع عن الذات العربية ضد عوامل محوها . وربما لهذا شهد مصطلح أدب المقاومة في الفترة الأخيرة توسيعًا مفاهيمياً امتد إلى مقاومة العولمة والتغريب والبحث عن الذات والهوية، واعتُبرت كلُّ الكتابات الأدبية التي تعنى بهذه الأغراض أدباً مقاوماً؟! ولعلنا لا ننكر أن الأدب مقاوم بامتياز، خاصة في هذه المرحلة القائمة على الهيمنة الثقافية. قد تكون معاتبة الذات ولومها ونقد أفعالها وإظهار عيوبها وفضح أسباب نكوصها وتخاذلها هو نوع من المقاومة أيضاً، قد يحلوا للبعض أن يطلق عليه مسميات غابنة، من عينة "جلد الذات" .. وأياً كانت المسميات متجهة نحو النقد أو الجلد فالحالة واحدة، هي نوع من المقاومة، ولا تبعد عن كون أدب المقاومة كلمة متأملة ناقدة تبحث عن الأسباب ولا تبرر الخطأ . فنقد الذات أحد محاور أدب المقاومة بجانب محاور أخرى كثيرة مثل التعبير عن الذات الجمعية والهوية أو الدعوة إلى الانتماء والتمسك بالهوية، أو التعبير عن التجربة الحربية وإذكاء الثقة بالنفس في حالة الحرب أو الاستعداد لها أو الافتخار بأيام الانتصارات الكبرى أو الإعلاء من شأن القوة وغيرها . يجدر بنا أن نتأمل أدب المقاومة في فترات سابقة من حياة هذه الأمة لنتوقف قليلاً أمام تلك النماذج التي كُتبت في أدب المقاومة أثناء هجمة المغول الشرسة ، أو حملات الصليبيين . لنر أن القصائد التي كانت معنية بالحماسة والقتال قد تطرقت إلى مناقشة جوانب فكرية تبحث في طبيعة الصراع بين المسلمين والمغول أو بين المسلمين والصليبيين، وكانت أيضاً تتجه نحو نقد الذات، وهي ترجع قوة الغدر القادمة من الشرق إلى ضعف ألمّ بخلافة المسلمين، أو استشراء الترف والملذات التي أدّت إلى غفلة الناس، أو الفرقة التي أصابت المسلمين، أو انهماك الحكام في الصراع البغيض على الحكم، ولعلنا في حلًّ في هذا المقام من سوق الشواهد الكثيرة على ذلك . وقد نجد في أدب المقاومة المعاصر نفس النبرة الناقدة، قد ترتفع إلى حد السخرية أو التهكم، من موقف الحكَّام العرب والمسلمين؛ لتخاذلهم تجاه القضية الفلسطينية، وتقديم التنازلات وإبداء التبعية لأمريكا التي أصبحت تلعب بأوراق هؤلاء الحكَّام. وقد نعاين فضحاً لمواقف متخاذلة لفئات من بني جلدتنا تأكل خبزتنا لتسير في ركاب الآخر وتنفذ فينا سياساته، وقد نلمس تصويبات لأوضاع كثرة خاطئة.. إذا كان ذلك جلداً للذات في نظر البعض فلا أقل من أن يستمر الشعر في الجلد. بهذه المفهومات فإن أدب المقاومة لا يتبرأ من جماهيريته، وهي مقولة تعطي مدلولها في اتجاهين، أولهما: أن المقاومة بأدبياتها جماهيرية في الأساس وقد أقلعت الأنظمة العربية الرسمية بجيوشها عن القتال، وهو أدب نابع من شعراء أصحاب خطاب لا يتبنى المواقف الرسمية ولا يعبر عنها، غير أنهم يحسون بنبض الجماهير التي لابد أن تقول كلمتها بعيداً عن المواقف الرسمية للحكومات، متفلت عن استراتيجيات الثقافة الرسمية غير المعنية بصون الهوية، أو خوض صراع الحرب أو الدفاع، بل على العكس من ذلك أضحت معنية بالتطبيع مع العدو، وتمهيد الرأي الجماهيري لقبول الأمر الواقع. الاتجاه الثاني: أن أدب المقاومة يراعي جماهيرية الخطاب الأدبي، ومن ثم فهو يراعي لذلك معايير حِرَفِيَّة خاصة عند صياغة الخطاب، ومن ثم فإن أية دراسة لهذا الأدب يجب أن تتوقف عند السمات الخاصة لهذا الأدب.