الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السماء/ البرّ / البحرُ / انطباعاتٌ عن مالطا -
نشر في الجنوب ميديا يوم 23 - 11 - 2012


مواضيع ذات صلة
السماءُ
ذي هي السماءُ التي أحببتُ، حوالي غيومٌ متراكمة كالجبال، جبل فوق جبل.
حيناً هي كتلٌ عملاقة، قطنيّة أو صوفيّة أو ضبابية. ضبابٌ عاتم من ذرات ضوئية أو مائيّة.
لكنّ السماء / بغيومها / مثل الأرض لها أودية ٌ وقممٌ وسفوح وممرّات.
قبل أن تُقلع بنا الطائرة ُ كانت الغيومُ تُحلقُ فوقنا، عالية وبعيدة. والآنَ نحنُ فوقها. وتبدو لنا على ارتفاع 39 ألف قدم مثلما تبدو ونحن على الأرض. تلك نائية تُحلق فوقنا، وهي، هنا، غائرة تحتنا. أرى تموجاتها الجغرافية ودروبها وشعابها وقممها وسفوحها والتواءاتها ومنحنياتها أشكالاً أشكالاً. فلو فسّرناها وفق خيالنا لبدتْ مثلَ كائنات خرافية. لكنّي سألتزم برؤياي التي تقول إنّها ارضٌ اخرى في أعالي السماء ونحنُ غيماتٌ نطوف فوقها. ولو قُدّرَ لي أن انزل فوقها وأجولُ بين وهادها كنتُ كمَنْ يقطع طريقه في أصقاع المُخيّلة. اذاً، سأبقى فوق مقعدي واطلُّ من النافذة الصغيرة على عوالمها الغرائبية. السفرُ هناك يكلفني أزمنة لا أياماً لقطع المسافات.
تلجُ بنا الطائرة ُ تارة ً في أدغال ضبابية قطنية، وتارة نكون فوق قمم وأودية لا أولَ لها ولا آخرَ. السماءُ / هنا / كالأرض، والصورُ قد تكون هي ذاتها، لكنّها عارية قفراء، مجرّد تعرجات بيض وقباب والتواءات عشوائية نازلة وصاعدة. بل كائنات هُلام جيء بها من سدم الخيال والحلم، تُحلق تحتنا وتنساب وتتشابه وتختلف. بيدَ انها عاقر بلا اهل.
عالمُ السماء / مرأى الغيمات تحتنا / محضُ أخيلة من بخار مختلف، مُعتمة بيضاء مُتشظية. ميزة ُ العالم التحتاني / الأرض / إنّه ينبض ويتكلم ويتحرّك ويشعُّ ألواناً تُعانق اخرى. حياة ٌ تجوب وتتجوّلُ عبر كائناتها من بشر وحيوان وجماد ونبات ورياح. سأتذكرُ أنّ فوقنا / احيانا / دنيا اخرى من هباب وذرات ماء لها قببٌ وابراج ٌ وفجوات عميقة ومسارات تتلوى باتجاهات مُتضادة. ومن ميزة السماء انّ جسدَ الطائرة يخترم القمم والهضاب من دون أذى. بعض الركاب يخافون النظر الى الخارج، لكنّي كلفٌ بالتحديق فيه اوانَ التحليق والهبوط. وفي كلتا الحالتين يزدحمُ سمعي بالطنين بل ينغلق كما لو وُضِعت في كلّ اذن سدادة فلين. وعندما نكونُ على الأرض ننظر دوماً الى الأمام، واحيانا في كلّ الاتجاهات. لكننا في السماء يتّجهُ نظرنا الى الأسفل وما ينطوي عليه من مدائن وأفضية خضراء وانهارملتوية لا تُرى بداياتُها ولا مصباتها، وبحيرات واسطح مبان تلمع تحت ضوء النهار.أحياناً أتساءل: لمَ تكونُ المسافاتُ بعيدة على الأرض وهنا كلها تحت النظر وأرى ابعدَ ابعدها ؛؛ ومع مرور الوقت تُحلقُ بنا طائرتُنا ونحنُ الأعلون والأرض والغيوم تحتنا. مَنْ يُصدّقُ أنّ السماء دنيا اخرى تعلو دنيانا نتنقل فيها من صقع الى آخر. وحين تُحسّ بثقل كائناتها تتخلص من بعضها لتكون خيراً لحيوات الأرض وسيولاً وعواصف مدمّرة احياناً.
ويمضي بنا الوقتُ / امدُه اربعُ ساعات / حتى نصل الى مالطا، اخترمنا خلاله السماء غيماً وصحواً. وقبل نزول الطائرة بربع ساعة اختفت ِ الغيوم وتمرأى لنا البحرُ المتوسطُ ُازرق صافياً ترتعشُ فوق زرقته خطوطُ أمواج رفيعة، تمخرُ فيه سفائن وقوارب بأشرعة ومن دونها. السفنُ صغيرة كما لو انها علب سيجاير مرمية على بساط ازرق. وحين تهبط بنا الطائرة تقترب الأرضُ أو نقتربُ نحن منها. وذي عجلاتُها تلامس مدرج المطار بل تدكّه دكّاً. وثمة حولي ركابٌ يخافون لحظة صعودها ونزولها، لكنّي كلفٌ بكليهما. ولا شيء أجمل عندي من لحظات الصعود والنزول. وما بينهما كسلٌ طويل ومملٌّ.
..................
البرُّ
هنا في مالطا التي لا تُشبهُ دول اوربا في شيء، كلّ شيء فيها مشرقيٌ / مع اختلاف طفيف /. اللغة نصفها عربيٍ مغاربي، ونصفها الآخر خليط ُ لغات. بيدَ ان سائق التاكسي بدأ يشكو من تسرب الآنجليزية التى تعمل على الغاء هويتها. وضرب امثلة نسيتها. مالطا اوربية / كونها ضمن الاتحاد الأوربي / لذلك جرت معاملة الخروج من المطار سهلة كاحتساء جرعة ماء. بخلاف المطارات العربية التي تُسألُ فيها عن سابع سابع جدودك. ناهيك عن التأخير والرشوة احياناً.
المساء حلّ ضيفاً سريعاً على الجزيرة، لكن عاصمتها / فالّيتّا / مثلُ مثيلاتها في عالمنا العربي. كنتُ أظنّ انني في شوارع البصرة أو الموصل. الشارع يضيقُ لدرجة الاختناق ويتسع. وحوالينا محلات مغلقة، استغربتُ ذلك، لكن السائق اوضح: انّ هذه المنطقة صناعية تُغلق بعد الخامسة عصراً. وكأنّ الشرفات والنوافذ والشناشيل الملوّنة استقدمت من مدائننا المشرقية. كان فرحي بالمشاهد الأتية والرائحة مبعث غبطة ادمعَت مآقيَ. لكنّي لم ابك، فللفرح دمعٌ مثلما للبكاء. بعد اربعين دقيقة توقفتْ سيارة التاكسي جوار المرفأ. ستحملنا عبّارة ضخمة الى الجزيرة الثانية ، الى / GOZO/... وكنّا وراء صف طويل من المركبات،على ميمنتنا وميسرتنا صفان آخران. اخبرنا السائق انّها تستوعب اكثر من 140 سيارة، لم اصدّقه. لكننا خلال دقائق ولجناها، وصعدنا نحن الى الطبقة الرابعة، وظلّ السائق في سيارته. كان الليل من حولنا محض ظلام ورائحة ماء وهدير محركات، ونجومُ السماء تُحلّق فوق الفضاء الأعتم. بعد ربع ساعة استقررّنا على الشاطيء ومن حولنا اضواء كابية ليست كالتي في المدائن الأوروبية. تسلقت بنا السيارة خلل دروب ضيّقة نحو فندق /...../ وجرى كلّ شيء سريعاً من دون تلكؤ. سحبنا حقائبنا الى غرفتنا في الطبقة الرابعة / انيقة ونظيفة وهادئة تشع بالأمن / والنافذة الوسيعة تُرينا البحر والميناء وعبارتنا الراسية. على ميمنة البحر هضاب تعلو وتكتظ بالبيوت والمباني الحديثة والتراثية، ثم كاتدرائية ذات ابراج شامخة تغمرها الأضواء، وخللَ كلّ ربع ساعة يُسمعُ قرع اجراسها. الفندقُ وسيع فيه عدة مطاعم، دلّنا النادلً الأنيق على مائدة. كان المكانُ عاجّاً بلغات عدة، ووجوه جاءت من اقاصي اوربا ودول القارات. لكن لم ارَ عربيّاً. صوتُ الموسيقى رخيّ نديّ، وحواراتُ الجالسين هاديْ اشبه بالهمس / ما عدا اصوات الأطفال /.. الطعامُ فاخر. كان ينبغي علينا انْ نتحرّك بعد تناوله وخرجنا نكتشف ما حولنا. امام فندقنا شارع من ممرّين لكنّه ضيّق، ينحدرُ عن يميننا ليدخلَ في احشاء المنطقة وصولاً الى المرفأ، ويصعد من يسارنا ليلج منعطفاً. ومضينا يساراً بجوار الجدار خشية من السيارات الآتية من خلفنا. السياقة هنا على الطريقة الإنجليزية، ذهاباً من اليسار، اياباً من اليمين. وامامنا درجٌ حجري ضيّق يأخذنا الى الأعلى. القمرُ/ في الثلث الأول من السماء / منيرٌ، الّاقٌ، كبيرٌ تكاد تقرأ تفاصيله وتلامسُ أحشاءه.الليلُ بليلٌ دافيء قياساً بليل ستوكهولم. وثمة حوالينا بيوت ذات ابواب صغيرة كأنّ ابعاضها جيئت بها من مدائننا العربية. وحوالينا دروبٌ ضيّقة، لكنْ بين آن ٍ وآن ٍ تمرق الى جوارنا سيارة توشك ان تلامس ارديتنا. جلسنا على مصطبة تشرئب على ثلاثة دروب ضيّقة قرب باب خشبي انيق. وحجب عنا جدارُ البيت قرص القمر الذهبي. لكنّ ضياءه غمرُ ماحولنا وامامنا. بعدئذ تجولنا قليلاً وعدنا الى غرفة الفندق من دون ان نرى احداً ما عدا قطتين بيضاء وطحلبية اقتربتا منا وداعبناهما وحكّتا رأسيهما بسراويلنا.
كان الفطور الصباحي مهرجاناً في اصناف الطعام والبشر واللغات. غبئذ ٍ حملتنا حافلة من طبقتين لتدور بنا / خلل جولة عشوائية / في ارجاء الجزيرة. النهار مشمسٌ دافيء فتوغلنا في الدروب التي تضيق تارة ً وتتسعُ اخرى. وقلما نرى اناساً. وعلى جانبي الطريق الذي يدور ويلتف بيوتٌ مشرقية ذات واجهات وطرز عربية. ابوابٌ انيقة وغريبة ذات مقابض برونز. النوافذ صغيرة وكبيرة ومختلفة شكلاً، وكذا الشرفات والشناشيل الملوّنة. لا ادري اهي شناشيلنا ام انّنا اخذناها منهم. لكن الاحياء السكنية التي نمرّ بها هي احياؤنا، وكأني بي اجري في دروب شاطرلو وصاري كهية وعرفة في كركوك، او اني ما زلتُ الوب في شوارع الكاظمية والأعظمية والعشار والبصرة القديمة. تترك حافلتنا تلك الدروب لتلج فضاء خالياً يكتظ بالصُبيرالشوكي والقصب والأشواك الخضراء. هضابٌ وراء تلال، واثار حجر مندرسة تعوم في الأفضية. حيناً يطلّ البحر ليختفي وراء منعطف. كنا نخترق فراغاً من الجدران الخربة والأحجار، وتلك كاتدرائية ضخمة تلوح على ميسرتنا ذات ابراج شامخة تنغرس في السماء. تقتربُ منها الحافلة وتتوقفُ في ساحة مكتظة بالسوّاح وسياراتهم، والجين فوهة الكاترائية الكبيرة وخارجين منها.
وقفنا هنيهة نزل منها عدة اشخاص وصعد اليها آخرون. ومضينا نتوغل في افق جديد. وتتكرر المشاهدُ والرؤى، ثمّ تحتوينا دروب اخرى لتحطّ مركبتنا رحلتها في ساحة تزحم باناس واكشاك الفاكهة ومقاه. نزلنا بعشوائية فسيعود الباص بعد اربعين دقيقة. لا بل يجيء كل نصف ساعة غيرُه، وبوسعنا ان نصعد ايّا من الباصات. لا جديد هنا، الأسواقُ العادية والدكاكين وسرادق لبيع الألبسة والحقائب والأحذية. تسوّقنا وشربنا القهوة وعدنا عبر ذات الدروب الى الفندق. وتكرّر المشهدُ نفسه في اليوم الثاني لكن السوق تغيّر.
غوزو تزدحم بالخلجان والشواطيء والآثار والمعالم الغرائبية وعشرات الكاتدرائيات المبثوثة في احشائها. انا لم اتمتع بمرأى المباني الآفلة، بل يروقني الزحام والسوق والناس والمقاهي والبحر انظره عن قرب او بُعد، لكني اختنق داخل المباني الأثرية. وخرجتُ بذكريات جميلة ذات صور لن انساها. اجمل ما في غوزو احياؤها ذات البيوت والمباني المشرقية. بعضها ذكّرني ببيوت الباشوات والأثرياء العراقيين. تذكرتُ منطقة العيواضية وكورنيشها حيثُ بيوت مولود مخلص وجعفر العسكري واغنياء بغداد، البيتُ ذو واجهة عريضة يمكن الصعود الى الباب الكبيرعبر بضع درجات. وعلى جانبي الدرج بضع شجرات برتقال أو ليمون وربّما معها نخلتان، والنخلُ هنا / وما أكثرها / ذات عذوق كثيرة صفراء حباتُ تمرها صغيرة، بل خاوية. يبدو أنْ لا أحدَ يُعنى بها ويقوم بتلقيحها، أمّا الجذعُ فمشوّهٌ ووسطه منتفخٌ ومتشابك، ولا تشبهُ نخلة ُ مالطا سواها مما يزهو ويعلو في بلادنا العربية الّا في سعفاتها الكثيفة. عادت بي ذاكرتي الى بغداد الخمسينيات من حيث لا ادري....قبل ان تتسع مساحاتها اضعافاً أضعافاً. حيثُ كان للبيت البغدادي / أوالعراقي / طرازٌ خاص لا شبيه َله في ايّ مكان. ما زالت بقاياه البالية والمُتداعية ماثلة في الفضل والحيدرخانة وجديد حسن باشا والعاقولية والعباخانة والبتاوين.هنا بغدادُ اخرى تتنفس، لكنْ نظيفة ٌانيقة وآمنة لا خوفَ من موت كامن في زاوية ولا عدوان من احد على احد. مرّة ثانية بكت عيناي حزناً على ما آلت اليه مدائنُنا العراقية بعد الانقلابات الدموية والغزو الامبريالي الذي مسح من الذاكرة الجمعية ماكان يُسمّى / العراق /.............................
ونُغادر غوزو عائدين الى العاصمة / فالّيتّا / ويُضيّفنا فندق على البحرفي منطقة / سليمة /. والبحرُ على شكل لسان كبير حيثُ يربضُ قبالة نافذتنا /في الطبقة السادسة / ساحلٌ آخر طويل مكتظ ٌ بالقلاع والأبراج والأسوار التراثية العالية توشك أن تلامس الغيوم البيضاء. بين اللسان البحري وبين المباني رصيف عريض يزدحم بمصاطب عليها اناس جاءوا يتنسمون رائحة الماء ويُجيلون نواظرهم في المرأى البانورامي العريض، وثمة اكشاك تبيع بطاقات لركوب القوارب المائية التي ترسوعلى الرصيف وتغادرُه ثانية ًلتدور خلل اللسان البحري وتمتّعَ الركّاب بمشاهدة معالم المدينة الأثرية. وبين الرصيف والبحر شارعان عريضان مكتظان بالسيارات الصغيرة والحافلات التي تنطلقُ من هنا الى احشاء الجزيرة واقاصيها البعيدة. في يومنا الأول جلنا في الكورنيش/ وثمة مقاه وحانات شرب ومكاتب سياحة ودكاكين تبيع كلّ لوازم الحياة اليومية / ثمّ توغلنا في الأفرع الصاعدة من جهة والنازلة من جهة اخرى. وهي ايضاً زاخرة بالمحلات والناس اغلبهم من السواح. هنا المدينة مزدحمة، تُصرَفُ خلالها اموالٌ ووقت. ونعود مُتعبين الى مثوانا. في اليوم التالي حملنا الباص الى الجهة الثانية ننتقل من حيّ الى آخر، وكأني بها هي نفسُها ممّا راينا في غوزو مع فارق أن ليس هنا فراغات وافضية قاحلة. بل بيوت ودروب متداخلة، حتى وصلنا الى / مدينة / هكذا اسمها باللغة الانجليزية. حط ّ بنا الباص في ساحة وعبرنا مشيّاً على الأقدام مجتازين حديقة تنطوي على نخل واشجارغريبة ثمّ دخلنا ممرّاً اشبه بجسر افضى بنا الى بوّابة كبيرة ادخلتنا الى ساحة مربعة. وثمة هنا وهناك ازقة ضيّقة تلجها سيارات. هنا لاشيء سوى ابواب تراثية مغلقة وجدران عالية وتماثيل. كنتُ ضجراً بالمكان فلا شيء يُغريني، وجرى بنا الوقتُ في أزقة ودروب تنطوي على دكاكين صغيرة لبيع التحف والصور، ومقاه قميئة تعششُ فيها العتمة. بعد لأي ٍ خرجنا وكدتُ اختنق , وارخينا اتعابنا في مقهى تحت سماء الظهيرة. لكن ما استوقفني كان غريباً لا يليق بدولة في الإتحاد الأوروبي. فقد رأيتُ طالبات صف من صفوف مدارس البنات وحدهن من دون بنين. بعد ذلك صفٌّ آخر من البنين وحدهم. تُرى لم يُمنع الاختلاط بين طلبة المدارس الإبتدائية هنا ؟ بينما دخلتُ المدرسة الشرقية الابتدائية المختلطة في كركوك في عام 1944. نعم، في كركوك كان طلابُ بعض الإبتدائيات من بنات وبنين. عدنا في الثانية بخفي حنين. أمضينا جُلّ رحلتنا الدرامية في الحافلة. لكن فضيلتها انّها ارتنا الدروب والأحياء الشعبية. وأن انسّ لا أنسى مرأى ذلك الحمار الصغير بصحبة صاحبه، / لونه الغريب وشكله الأشبه بحيوان اللامة / التقطنا له صورة.
ليالي فالّيتّا مفعمة بالسهر حتى بعد منتصفها. شارعُ الكورنيش عاجٌّ بضجيج السيارات والموتورسايكلات العشوائية وصياح السكاري. فيما البحر الى الجوار ساكن ساج تستقر على صفحته السفائن والقواربُ. بعض السفن شراعية طويت اشرعتها وظلت الصواري تنطحُ السماء.
البحرُ
رحلة ُ البحر ماتعة ٌ في نظر البعض ومُملة في نظري. هي دورة ٌ أمدُها تسعون دقيقة تجري بنا مركبتنا على حواشي الماء نتملّى خلالها مرأى شواخص المدينة المطلة على الخليج. هي ايضاً قلاع وكاتدرائيات وابراج واسوار وسفائن راسية / منها يخوتٌ كبيرة اشبه ببجعات عملاقة / واخرى تقطع طريقها الى مكان ما. كاميراتُ السياح تومض تلتقطُ المشاهد الغريبة. عدنا متعبين لا من المشي وانما من الدوخة التي عرتنا. وكنا بصعوبة نقف على ارجلنا. متعة ُ البحر محبطة بالنسبة اليّ وحسب.
محصلة ُالرحلة الى مالطا أنّي تمتعتُ بالدفء الذي افتقدناه في السويد، وبمشاهد حلمية عن الحارات والدروب المشرقية. وربّتما ولج بي خيالي الي بيت من البيوت. ارتقيتُ درجاته الحجرية نحو الباب، وطرقتُ عليه بالمطرقة البرونزيية على شكل كف. وانفتح / ولا يهمني مَن ِ الذي فتحه / بل ولجتُ الصالة وانسللتُ الى غرفتي نازعاً ثيابي ولابساً بجامتي، كانوا ينتظرونني في غرفة الطعام، وما ان فرغنا من تناوله حتى صعدتُ الى غرفتي لأتصفح الصحف والمجلات التي جئتُ بها، ولأنامَ حتى الرابعة عصراً. حين ولجتُ فراشي انقطع شريط الحلم ووجدتني على مقعد الطائرة عائدين الى ستوكهولم: مثوى الأمل والأمان.
كانت النافذة على يميني مغمضة العينين / بل عمياء / ففي الليل المكتظ بالغيوم لا يمكن ان ترى شيئاً. لكني فجأة رأيت خلل لحظات صحو عاجلة الهلالَ الممتليء، هلالاً لم ار مثله من هذا العلو.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.