أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    العميد باعوم: قوات دفاع شبوة تواصل مهامها العسكرية في الجبهات حماية للمحافظة    وكالة دولية: الزنداني رفض إدانة كل عمل إجرامي قام به تنظيم القاعدة    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    في اليوم 202 لحرب الإبادة على غزة.. 34305 شهيدا 77293 جريحا واستشهاد 141 صحفيا    "صفقة سرية" تُهدّد مستقبل اليمن: هل تُشعل حربًا جديدة في المنطقة؟..صحيفة مصرية تكشف مايجري    مغالطات غريبة في تصريحات اللواء الركن فرج البحسني بشأن تحرير ساحل حضرموت! (شاهد المفاجأة)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    الإنتقالي يرسل قوة امنية كبيرة الى يافع    "قديس شبح" يهدد سلام اليمن: الحوثيون يرفضون الحوار ويسعون للسيطرة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    إلا الزنداني!!    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    "جودو الإمارات" يحقق 4 ميداليات في بطولة آسيا    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف سقينا الفولاذ بقلم:رائد الحواري
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 12 - 2012


كيف سقينا الفولاذ
تعد هذه الرواية من أهم الأعمال الأدبية التي روجت لفكرة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وقد استطاع نيقولاي اوستروفسكي أن يعطي دفعة كبيرة للأدب الاشتراكي من خلال هذه الرواية، جعلته ينافس المدارس الأدبية الأخرى، فكان ملتزما تماما بالفكر الاشتراكي وبالمدرسة الواقعية الاشتراكية، ويمكننا القول عن الرواية بأنها الأنموذج للمدرسة الواقعية الاشتراكية، فهي عمليا تتفوق على وراية "الأم" لمكسيم غوركي إن كان في الشكل أم المضمون، ففي "كيف سقينا الفولاذ" كانت الأحداث تسير على أكثر من جبهة، من النضال العمالي النقابي، إلى الحرب والقتال، إلى النضال الفكري، كما نجد صور لرجال الدين والمتدينين، كما نجد الجماعات التي عملت على ضرب الدولة الاشتراكية في مهدها مدعومة من الدول المعادية مثل ألمانيا وبولندا تحديدا، وقد اعتمد الكاتب في روايته إلى التكثيف والاختزال قدر الإمكان، فكانت الأفكار التي يطرحها أكثر وضوحا ونضوجا وثورية من رواية "الأم" كما أن اوستروفسكي أعطى المسألة الفكرية اهتماما خاصة، مما جعل الرواية تطرح أفكار فلسفية في العديد من القضايا التي تهم الإنسان بشكل عام والاشتراكي بشكل خاص، فهي رواية فكرية بالإضافة إلى أنها تحمل الصورة الحقيقية للأحداث التي شهدتها الدولة الاشتراكية السوفيتية، من هنا تحمل هذه الرواية مكانة خاصة عند الاشتراكيين لما فيها من تطابق بين الشكل والمضمون، ولأسلوبها الذي يطرح العديد من القضايا والأحداث والأفكار التي تهم الاشتراكية.
تبدأ الرواية بالحديث عن الطفل "بافل" الذي يذهب للعمل من اجل أن يساعد عائلته (الأم والأخ) في تدبير أمور الحياة الشاقة في عهد القيصر والإقطاع في روسيا، الطفل الذي لم يتجاوز اثني عشر عاما يصبح كادح ويقوم بأعمال شاقة تتماثل مع الأعمال التي يقوم بها الكبار، فيعرف معنى الاستغلال والشقاء الذي يمثله النظام القيصري الإقطاعي.
من خلال السرد لحياة (بافل كورتشاغين) تتمحور أحداث الرواية، فيتم التطرق إلى التدخلات من قبل ألمانيا وبولندا اللتان عملتا على ضرب البلاشفة، للهيمنة على التركة التي خلفها النظام القيصري، ويتم الحديث عن القوى الوطنية الروسية التي عملت ضد الثورة إن كانت متحالفة مع الغرب أم لا.
في هكذا ظروف إلى بد أن ينضج الطفل ويصبح رجلا حقيقيا رغم صغر سنه، فمن يعمل ضمن هذه الأوضاع لا بد له من يسرع في التكيف معها، والنباهة تصبح ملازمة لشخصه، فشدة النار تعمل على إنضاج الطعام سرع من النار الهادئة.
تبدأ عملية التغير في حياة الطفل العامل إلى الطفل المقاتل، وأي قتال! القتال في حرب أهلية، فهي أكثر شراسة وخطورة من الحرب بين الجيوش النظامية، من هنا يتم تشكيل شخصية البطل (بافل) فهو مقدام في أكثر من جبهة ومنتصر في كافة الحروب التي خاضها.
يصور لنا الكاتب بشاعة الحرب وقسوتها، فرغم عدم نضوج فكرة حقوق الطفل في ذلك الزمن، لا أن هناك كلمات كانت تطرح هذا المفهوم لتأكيد على هول الحرب "أنا لا افهم كيف من الممكن أن يقبلوا مثل هؤلاء الأطفال في الجيش، انه عيب" ج1 ص322، كلمات تبين لنا الظروف القاسية التي دفعت بالأطفال إلى هكذا عمل القتل
العمل الجماعي
العمل الجماعي يمثل أهم عنصر في الفكر الاشتراكي، فلا مجال للعمل الفردي، فالجماعية الحزب هي التي تقود النضال إلى غايته بطريقة سليمة واقرب إلى السلامة، لتحقيق آمال الكادحين "فان الناس الذين لم يكونوا قادرين على النضال في سبيل قضية عامة، كانوا غير قادرين على بناء حياتهم الخاصة" ج1 ص33و34، هذه الكلمات التي قالها اوستورفسكي خارج النص الروائي قال مثلها وأكثر في الرواية، وقد ارتأينا أن نوردها وذلك لطبيعة الأدب الاشتراكي الذي يهتم بالوضوح ويبتعد عن التورية، الانخراط في العمل الجماعي واجب لكل إنسان، حيث انه يمثل مدرسة للأفراد لكي يستطيعوا أن ينجحوا في حياتهم، من خلال التعامل السليم مع الأحداث والفهم السليم للكافة القضايا، ومن ثم يترك ذلك تراكما معرفيا وعمليا يسهم في تشكل شخصيات الأفراد بشكل جيد ليعطيهم المقدرة لتعامل مع كافة القضايا أن كانت شخصية أم اجتماعية، وهذا الربط بين العام والخاص يمثل احد أهم القضايا التي يطرحها الأدب الاشتراكي، فالهم الشخصي غير ذات قيمة إذا ما قورن بالهم العام، " فان النضال المنفرد لا يقلب الحياة" ج1 ص167، هذا تأكيد من الكاتب على ضرورة العمل ضمن الجماعة الحزب لكي يكون هناك تغير حقيقي على ارض الواقع.
العقيدة
لا يمكن أن يخلص الإنسان في عمله ويبدع إذا لم يحمل عقيدة مؤمن بها، فلإيمان شرط لكل عمل متقن وناجح، وقد طرح الكاتب هذا المسألة كما يلي "إن الإنسان لا يرهب الموت إذا كانت له قضية يفنى من اجلها. فإنها تخلق في نفسه القوة. وسيموت مطمئن الضمير حتما إذا كان يحس بان الحقيقة إلى جانبه. ومن هنا تأتي البطولة" ج1 ص291، فكرة عامة تتعلق بكل من يتبنى فكرة إيمانية، فستخلق في نفسه القوة التي تجعله خارق للعادة وللطبيعة البشرية، كما أنها ستمنحه القوة على مواجهة الموت دون رهبة أو جزع، فالإيمان يمثل رافد غير قابل للنضب أبدا، وهو العنصر الأهم في عملية البناء.
الأخلاق كعامل محفز للعمل
استخدمت الواقعية الاشتراكية الأخلاق كعامل أساسي في عملية التحريض على العمل، فالعمل يمثل العنصر الأهم في حياة الفرد والمجتمع، وطبقا لمفهوم العمل في الرواية فلم يقتصر على العمل الإنتاجي وحسب بل تناول العمل النضالي والتحرري (الحرب) وها هو اوستروفسكي يقول قولا بليغا في مفهوم الوطنية " لا يمكننا توصيل القطار. أتفهم؟ هناك تجري معركة، والثوار نسفوا الخط. فإذا نقلنا هؤلاء الكلاب قضوا عليهم في لحظة. اعلم، يا بني، إنني في عهد القيصر لم اسق قطارا أثناء الإضرابات. ولن افعل الآن. فسنجلل بالعار إلى آخر العمر إذا جلبنا الدمار لقومنا" ج1 ص109، هذا الكلام يحفز ويدفع المتلقي على المشاركة وبسرعة للتصدي للأعداء وعدم العمل بما يطلبونه حتى لو كانت نتيجة الرفض الموت أو الاعتقال، فعبارة "فسنجلل بالعار إلى آخر العمر إذا جلبنا الدمار لقومنا" عامل أخلاقي صرف، يتعلق بالمصلحة العامة وليس الخاصة، فالعام يعني الموت أو الاعتقال، والخاص يعني النجاة والمكافأة، ومع هذه المفارقة إلا أن الأخلاق تدفع بصاحبها نحو الخطر الشخصي في سبيل تحقيق السلامة والأمان للجماعة.
وقد أعطانا اوستروفسكي صورة أخرى لمحفزات الأخلاقية في مجال العمل الإنتاجي، الطفل بافل الذي يقوم بعمل اكبر منه وفي ظروف قاسية وصعبة، تجبره الحياة على مزيدا من العمل لكي يستطيع أن يلبي احتياجات العائلة المتزايدة، فرغم أن البطولة هنا تبدو فردية إلا أنها تخدم المجموع الأسرة وتشكل النضال المشترك في سبيل غاية نبيلة " لا، يا ماما، سأجد لي عمليا آخر إضافيا، في معمل النشارة، يحتاجون إلى راصفين للألواح، سأعمل هناك نصف يوم، وهذا يكفينا أنا وأنت، فلا تذهبي إلى العمل، وإلا سيغضب أرتيم علي، ويقول: لم يستطع تدبير البيت بدوني، دون أن برسل أمنا إلى العمل" ج1 ص133، الكلمات السابقة توضح لنا الحافز الذي دفع بالطفل إلى أن يعمل عملا آخر إضافة إلى عمله السابق، فقط لكي لا يقال عنه بأنه "لم يستطع تدبير البيت" فهذا الكلام يشكل رافد للتقدم أكثر في العمل، وأيضا للتخلي عن فترة الراحة الممنوحة .
رغم حداثة سن بافل وصعوبة العمل إلا انه يقبل بصدر رحب وقناعة بهذا الوضع الجديد الأكثر مشقة، فالعمل في مكانين مختلفين وبعدد ساعات يتجاوز الثلاث عشرة ساعة يمثل عملا بطوليا حقيقيا للكبار فما بالنا إن كان من يقوم بهذا العمل طفل!.
وهنا نجد نكران الذات بشكل جلي في سبيل الأسرة، وهذا تأكيد على أن الاشتراكيين يهتمون بالجانب الأخلاقي حيث انه يشكل عامل أساسي في فكرهم، فبدونه يفقد الإنسان الطاقة التي تشحذ النفس، وهنا دعوة صريحة إلى الاهتمام بهذا الجانب لما له من فاعلية في عملية التغير الاجتماعي، ولما تمثل الأخلاق من حالة الانسجام بين النظرية والتطبيق، فبدون الأخلاق تمسي النظرية مجردة ليس لها قيمة فعلية على ارض الواقع.
الصراع مع الذات
كان اوستروفسكي يعطي الجانب النظري أهمة تتوازى مع الجانب الفعلي والعملي في الرواية، فقد طرح مجموعة من الأفكار حول العديد من القضايا التي تواجه عملية بناء الاشتراكية، فكان صراع الذات مع الذات، والذي لا بد أن يكون فيها الفرد منتصرا لكي يستطيع الانتصار على الآخرين، إن كانوا بشرا أم ظرفا، "لأي شيء يعيش إذا كان قد فقد اعز شيء القدرة على الكفاح؟ بم يسوغ حياته الآن وفي الغد الكالح؟ بم يملؤها؟ مجرد أن يأكل ويشرب ويتنفس؟ هل يبقى متفرجا لا حول له يراقب رفاقه يشقون في ارض المعركة طرقهم إلى الأمام؟ يصبح عبئا على الفصيلة؟ هل يدمر جسمه الذي غدر به؟
رصاصة في القلب، ينتهي كل شيء! استطاع أن يعيش حياة جيدة، فليستطع أن يموت في اللحظة المناسبة. ومن سيدين محاربا تخلص من سكرات الموت؟
تلمست يده مسدس براونينغ الأملس الموضوع في جيبه، وأمسكت أصابعه المقبض بحركة الفتها. واخرج المسدس ببطء.
من كان بوسعه أن يفكر بأنك ستصل إلى هذا اليوم في حياتك؟
تفرست في فتحة المسدس بازدراء. وضع بافل المسدس على ركبته، ولعن نفسه حنقا
كل هذه بطولة فارغة، يا أخ، يستطيع أي غبي أن يطلق الرصاص على نفسه دائما، ومتى شاء، فذلك اجبن وأسهل مخرج من الوضع، إذا صعبت عليك الحياة تستطيع أن تقتل نفسك. ولكن هل حاولت أنت إن تنتصر على هذه الحياة؟ هل جربت كل شيء للخروج من الطوق الحديدي؟ هل نسيت كيف هاجمتم عند نوفوغراد فوليسكي سبع عشرة مرة في يوم واحد حتى انتصرتم في آخر الأمر رغم كل شيء؟ خبئ المسدس، ولا تتحدث بذلك أبدا ! واعرف كيف تعيش حين تصبح الحياة لا تطاق، وجعلها نافعة" ج2 ص 322 و 323، عندما يفقد الإنسان القدرة على العمل ويصبح عاجزا غير قادر على الإنتاج والفعل، لا بد أن يتأثر، خاصة إذا كان حديث السن، فبعد العديد من الانجازات التي حققها بافل، إن كان على صعيد فردي أم على الصعيد الجماعة ها هو عاجز غير قادر على القيام بأي عمل أو شيء مفيد، حتى لنفسه غير نافع، من هنا كان اليأس والقنوط بهذا الحجم وهذه الكيفية.
ونعتقد بان المشهد السابق تحديدا لا بد من قرأته أكثر من مرة والتوقف عنده طويلا لكل منا، حتى نتعلم ماهية الحياة، وما معنى الانتصار على الذات، فالإنسان يمكن أن يغدو في فترة من الفترات غير ذي نفع من وجهة نظر الآخرين ومن وجهة نظره شخصيا، لكنه في حقيقة الأمر قادر على انجاز عمل عظيم جدا لا يقدر على انجازه حتى الأصحاء، ففي الرواية يستطيع هذا المصاب الذي فقد القدرة على العمل ثم فقد بصره، ولم يعد يستخدم من حواسه سوى السمع والنطق، أن يشكل حاجزا فولاذيا أمام القنوط واليأس من الحياة، فها هو يصف لنا حالته المزرية وأيضا بشكل موازي حالة الإيمان التي يتمتع بها فيقول "لم اعد أغادر البيت، ولا أرى من النافذة غير قطعة من البحر. امن الممكن أن يوجد مأساة أقسى من مأساة إنسان اجتمع فيه جسد خائن يرفض إطاعته، وقلب بلشفي، ولهفته المتأججة في صدره، لهفته إلى العمل، إليكم، إلى الجيش العامل الزاحف في جميع الجبهات في خضم الاندفاع الحديدي؟
ما أزال على إيماني باني سأعود إلى الصفوف، وبان حربتي ستظهر بين حراب الصفوف المهاجمة. ولا يجوز أن أتخلى عن هذا الإيمان، ولا يحق لي أن أتخلى عنه، علمني الحزب والكومسومول خلال عشر سنين فن المقاومة، وكلمات قائدنا موجهة إلي أيضا : " لا توجد قلاع لا يستطيع البلاشفة الاستيلاء عليها" ج2 ص332، ليس هناك أنجع من الإيمان لتحقيق النصر وتجاوز المحنة، إن كانت شخصية أم جماعية، فالاستعانة بكل الإرث النضالي لشحذ الهمة، والصبر والإصرار على التحدي مهما كان حجمه وشكله يمكن الانتصار عليه إذا توفر الإيمان والصبر والإصرار إضافة إلى غاية أو هدف ما لم يكتمل تحقيقه، فالشعور بعدم الرضا عن الحالة الراهنة التي يمر بها بافل كانت الثقافة الأخلاقية والفكرية تدفع به لكي يصبر ويصمد لان النصر لا محال قادم، وما عليه الاستمرار في إيمانه بهذه الأفكار.
اوستروفسكي لم يفعل هذا الصمود وهذا الجلد للنفس وحسب بل قام بعمل إبداعي يوازي تماما ما قام به سابقا، وقد مهد له عندما قال "الآن فقط أدرك بافل أن الثبات يسهل كثيرا ويبسط على الإنسان يملك شبابا وجسدا قويا، ولكن التزامه الآن، حين تعتصره الحياة بقبضتها الحديدية إنما هو مسألة شرف" ج2 ص348، التدقيق في العبارة السابقة تبين حجم الشدة التي يعاني منها بطل الرواية (بافل) وتبين أهمية الإيمان والصبر في حياة الإنسان، فليس هناك مكان للتسليم للأمر الواقع بشكل مطلق، فالإيمان كأنه قوة خارج الكون، تمنح صاحبه طاقة جديدة بالإضافة إلى أفكار نيرة إبداعية تجعله يتألق أكثر في الصمود والإبداع معا.
ابتكر بافل أشكال وأنواع جديدة لتحقيق الذات ولخدمة معتقده (الاشتراكية) " لا تقلقي، يا فتاتي، ليس من السهل جدا إزهاق روحي. وسأعيش وأهرج على الأقل نكاية بتقديرات الأطباء العلماء، إنهم صائبون في كل ما قالوه عن صحتي، ولكنهم سيخطئون خطأ كبيرا إذا كتبوا باني عاجز كليا عن العمل. سنرى كيف ذلك" ج2 ص349، من هنا يبدأ الإنسان في إيجاد مساحة له، فليس هناك مكان يعجز عنه الإنسان، يبدأ بافل العمل والإنتاج بطريقة جديدة ليس بالقدرات الجسدية بل بالقدرات العقلية والفكرية التي امتاز بها في حروبه السابقة، وهنا تبدأ عملية خلق مجال جديد للعمل، وهذا ليس بالأمر البسيط، فهو يحتاج إلى خصوصية دقيقة، وكذلك إلى الإتقان الذي لا بد أن ينتج عن تجارب سابقة، ولكن بفكر بافل النير الذي جعله النضال والصراع صخرة منيعة وفي ذات الوقت شجرة مثمرة، اخذ يفكر بتجاربه الشخصية واستنتج منها أن الإنسان أعظم كائن على وجه الأرض، ويظهر حقيقة الإنسان المؤمن بفكره، الصابر على الشدائد، المفكر بخدمة قضيته "تمت كتابة الفصل الأخير، وقضت غاليا بضعة أيام تقرأ القصة على كورتشاغين.
غدا سترسل المخطوطة إلى قسم الثقافة والدعاية التابع للجنة الحزبية لمقاطعة لينينغراد. فإذا حظي الكتاب هناك "بتأشيرة الدخول إلى الحياة" فسيحول إلى دار النشر، وعندئذ...
ودق قلبه رهبة. عندئذ... ستبدأ حياة جديدة كسبت بسنوات من العمل المجهد العنيد" ج2 ص355، يقول الشاعر محمد حلمي الريشة "إن شهوة الجنس والنشر متشابهتان" وهذا ما شعر به بافل، إضافة إلى مسألة أخرى تتعلق به، وهي أن نشر الكتاب يمثل له الانتصار على الذات والواقع معا، وفي حالة عدم النشر تكون الهزيمة الساحقة التي لا تقوم بعدها قائمة، من هنا كانت "ودق قلبه رهبة عندئذ" فالإنسان في الأدب الاشتراكي يبقى إنسان من لحم ودم ولا يتم التعاطي معه كسوبرمان، من هنا كان الاهتمام بهواجسه الداخلة وبأحاسيسه، حتى يكون انموذج حي للآخرين ويعطي صورة واقعية حية لهؤلاء الأبطال والشخصيات، وهذا ما حدث لبافل الذي استطاع أن يثبت ذاته مرتين، مرة في الجهاد العضلي والحربي، ومرة في الجهاد الفكري والأدبي. "هل فعلت كل شيء للتخلص من الطوق الحديدي، وتعود إلى الصفوف، وتجعل حياتك نافعة؟
وكان يحب:
نعم، يبدو إني فعلت كل شيء
بعد أيام كثيرة، حين أصبح الانتظار لا يطاق، صاحت أمه، التي كانت لا تقل قلقا عن ابنها، صاحت وهي تدخل الغرفة
خبر من لينينغراد!!!
كان ذلك برقية من لجنة المقاطعة. بضع كلمات متقطعة على ورقة: "القصة قبلت بترحيب. سنحولها إلى النشر. نهنئوك بالانتصار" تلاحقت خفقات قلبه. هذا هو الحلم المنشود قد تحقق! والطوق الحديدي قد تحطم.ها هو قد عاد ثانية بسلاح جديد إلى الصفوف، إلى الحياة" ج2 ص356 و357
لا شيء يضاهي فرحة الانتصار وتحقيق الذات، اوستروفسكي وهو يتحدث عن بافل كان يتحدث عن نفسه، حيث انه استوحى اسم بافل تورية عن أسمة الحقيقي، ليسرد الأحداث التاريخية التي مرت بها روسيا إبان تشكيل الدولة السوفيتية، وهنا يكون الكاتب أبدع مرتين مرة عندما كتب تاريخ مرحلة حيوية من مراحل التاريخ الإنساني مرحلة بناء الدولة الاشتراكية ومرة عندما صاغ ذلك بصورة أدبية رائعة، فكان له في هذه الرواية "كيف سقينا الفولاذ" أن يكون في مصاف الأدباء الذين تركوا أعمالا خالدة لا يمكن أن يتناسها احد.
وهنا لا بد من التذكير أن الرواية تمثل أهم الأعمال الروائية التي تناولت الفكر الاشتراكي، كما أنها تمثل انموذج تم الاقتداء به من قبل كتاب الواقعية الاشتراكية، وهي من أفضل واهم الأعمال الأدبية التي نشرها السوفيت ولاقت هذا الحجم من الاهتمام والاستحسان من القراء بصرف النظر عن قوميتهم.
فلسفة العمل
الرواية تركز على أهمية العمل في تشكيل الفرد أولا ثم المجتمع ثانيا، حيث أن الفكر الاشتراكي يعطي العمل القيمة الأهم، فهو العنصر الذي يشكل الوعي بضرورة التغير والبحث عن الجديد، فالإنسان العامل يحتل المرتبة الأولى في الاشتراكية، فهو أداة الصراع وغايته معا، من هنا تم تناول العامل والعمل بأكثر من موضع " إنا مستعد لتحمل كل شيء فقط لو يعيدوني ذلك إلى العمل.
ليس في حياتي شيء ارهب من فقداني القدرة على العمل، وحتى التفكير بذلك لا أستطيعه، ولهذا السبب اقبل بكل شيء يعرضونه على"ج2 ص292، إذن قيمة العمل ملازمة لقيمة للإنسان في الفكر الاشتراكي، ففي العمل يجد بافل نفسه ويحقق ذاته.
هناك مقولة لقسطنطين سيمونوف في رواية رحى الحرب يقول فيها " الانتصار السهل إلى يشبع الروسي" وقد تناول اوستروفسكي عين الفكرة عندما قال على لسان بافل "انتم ملزمون على أعطائي عملا مناسبا لحالتي. بوسعي أن اعمل في البيت، أو أعيش في مؤسسة... على شرط أن لا أكون كاتب أوراق يسجل أرقام الأوراق الصادرة والواردة... يجب أن يعطيني العمل ما يرضيني حتى لا اشعر بأنني في عزلة" ج2 ص314 و315، الثقافة التي شكلتها الماركسية في المجتمع الروسي جعلته يتجاوز الحالة الإنسانية العادية ويتعداها إلى حالة مثالية في كافة مناحي الحياة، فرفض العمل البسيط العادي رغم المرض والضعف الجسدي والإصرار على القيام بعمل حقيقي صعب وفيه من المشقة ما يلبي رغبات بافل، يمثل التأثير الذي تركه الفكر الماركسي على معتنقيه، حيث استطاع أن يقنع مثل هؤلاء ( المرضى والعجزة ) بهكذا فكرة ، تحقيق الذات والتفاني في خدمة الآخرين.
قيمة العمل لا تكمن في ماهيته وحسب بل فيما يتركه من أثار ايجابية في نفسية من يقوم به.
فلسفة الحرب
أثناء الحرب يسقط الجنود قتلى أو جرحى ومع هذا تستمر الحرب، لكن ما تأثير ذلك على بقية الجنود؟
"لم يخرج من الصفوف إلا حين استنزفت قواه. والآن وقد أثخنه الجراح، لا يستطيع أن يتمسك في موضعه في خط الجبهة، وليس أمامه إلا مستشفيات المؤخرة. وتذكر كيف أصابت رصاصة محاربا أيام انصبابهم على فرصوفيا. فوقع هذا المحارب تحت حوافر الحصان، بسرعة ضمد الرفاق الجريح، وسلموه إلى رجال الإسعاف، ومضوا في طريقهم يلاحقون العدو. لم توقف الفصيلة زحفها لفقدانها محاربا. لقد كان الأمر كذلك في النضال من اجل غاية جلى" ج2 ص322، الإيمان بضرورة إكمال المسير حتى النهاية، رغم وقوع العديد من الجنود بين القتلى أو الإصابة، فهذا لن يعيق التقدم رغم تأثير ذلك نفسيا ومعنويا وماديا على الجنود، فسقوط هذا الجندي جريحا أم قتيلا يجب أن لا يحول دون إكمال المعركة وتحقيق النصر، ورغم العلاقة الوثيقة التي يرتبط بها الجنود، إلا أن فقدان احدهم لن يكون عائقا أمام الاستمرار في العمل الحربي. فهم يشدون على الجرح ويتحملون هذا الألم في سبيل تحقيق الهدف والانتصار.
فلسفة القيمة
الهم الجماعي هو الطاغي في الفكر الاشتراكي، فليس هناك مكان للهم الشخصي أبدا، إلا ضمن المجموع الذي يعمل لتحقيق الهدف قيام الاشتراكية فكل عمل لا يخدم الاشتراكية هو عديم الأهمية " ... بذلك الطراز من الإنسان القادر على تحمل العذابات، دون أن يظهرها لكل إنسان. إنا أؤيد هذا الطراز من الثوريين، الطراز الذي يعتبر ما هو شخصي عديم الأهمية إذا قيس بما هو عام" ج2 ص263، الاشتراكي لا يكتفي بجعل ذاته في خدمة الفكرة وحسب بل يجعل من علاقته الزوجية أيضا في خدمة الفكرة والحزب، "سأكون زوجا سيئا إذا تظنين أني يجب أن أكون لك أولا ثم بعد ذلك للحزب. سأكون للحزب أولا، ثم لك ولذوي قرباي الآخرين" ج1 ص328،هذه الفكرة التي يتبناها الاشتراكيون، فهم وجدوا لخدمة الحزب أولا وآخرين ولا مجال حتى للزوجة والعائلة أن تأخذ مكانها الطبيعي عندهم، هل نجد مثل هذا الفكر الآن؟.
من المؤكد تم التخلي عن مثل هذه الفكرة، ولم يعد لها ممارسين على ارض الواقع، حتى عند المتشددين من هذا الاتجاه أو ذاك، فنكران الذات بهذه الكيفية وهذا الشكل يعد معدوما في زماننا.
وها هو بافل يتحدث عن علاقته الزوجية قائلا "إذا كان للبلشفي زوجة، رفيقة في الحزب فإنهما لا يلتقيان إلا قليلا... وفي ذلك فائدتان: لا يضجر احدهما من الآخر، ولا وقت للمشاجرة!"ج2 ص346، فرغم تواضع التعليل الذي قدمه اوستروفسكي إلا انه يشير إلى الطريقة التي يفكر بها الاشتراكي، وكيف انه جعل من ذاته ومن زوجته أداة في خدمة الحزب.
إذن قيمة الفرد وقيمة العمل تكمن في جعلهما في خدمة الحزب الذي يمثل الفكرة النبيلة، والتي ستحقق العدالة والسعادة للبشرية.
فلسفة الحب
الحب حالة إنسانية حيوية، ولا يوجد إنسان مهما كانت حياته صعبة لا يمارس هذا الفعل الإنساني، فالحب احد العناصر التي تؤثر في سلوك الفرد، لكن الفكر الاشتراكي جعل الفرد يتجه طواعية بطريق موازي للحب، حب على الطريقة الاشتراكية الجماعية، يخدم أولا وأخيرا الاشتراكية، وها هو بافل يقول لامه " قطعت على نفسي يا ماما بان لا أغازل الفتيات حتى نقضي على البرجوازيين في العالم كله."ج2 ص105، رغم خيال الفكرة وعدم واقعيتها، إلا أنها تشير لا رسوخ فكرة الاشتراكية التي ستسود العالم اجمع عند مؤسسي الاشتراكية، فكانوا يشكون ظاهرة فريدة وفي ذلك الزمن، فقد حولوا الحب من الأنثى إلى الفكرة أو تم تأجيل الحب إلى حين الانتهاء من الصراع وتحقيق الهدف بناء ونشر الاشتراكية في العالم اجمع.
فلسفة الإنسان
الاشتراكية تعتبر سعادة الإنسان غايتها الأولى، وهي تعمل لتحقيق هذه الغاية، كما أنها تعتبر الإنسان قادر على القيام بكل ما يبدو مستحيلا إذا امتلك الإرادة والإيمان بعمله، وقد طرحت الرواية هذه الفكرة الإرادة بشكل خاص حيث تتحدث عن إرادة بافل الذي استطاع أن يكون إنسانا فريدا من خلال عمله وإيمانه بفكرة الاشتراكية، فقد قام بالعديد من الأعمال شبه المستحيلة كل ذلك لأنه امن بفكرة نبيلة، "إن الإنسان الذي لا يستطيع التخلي عن عادة سيئة لا يساوي شيئا" ج2 ص178 و179، فالإنسان يجب أن يقوم فقط بالأعمال الجيدة وان يحجم عن الرديئة، كما نجد هنا دعوة صريحة للتحكم بالسلوك الفردي وعدم الانسياق وراء الانفعالات الشخصية.
فلسفة الحياة والموت
الفلسفة المادية تركز على الحياة الأرضية التي يعيشها البشر، ولا تلقي بالا للحياة الثانية القيامة فهي غير موجودة في معتقدهم، وان وجدت فالأهمية للحياة الدنيا، فالاشتراكيون غير معنيين أبدا في الحياة بعد الموت، من هنا كان الاهتمام والتركيز على تحقيق كافة الرغبات و الانجازات في الحياة الأولى، كما أنها كانت تدعو إلى الحفاظ عليها والحرص على استغلالها بطريقة ناجعة، يقول اوستروفسكي على لسان بافل "إن الحياة أعز شيء لدى الإنسان. وهي تتاح له مرة واحدة، ويجب أن يحياها دون أسف على أعوام تقضت بالألم والعذاب، دون لذع العار من ماضي وضيع تافه، حتى إذا جاءت ساعة احتضاره استطاع أن يقول: كل حياتي، وكل قواي كانت موهوبة لأروع شيء في العالم النضال من اجل تحرير الإنسانية. يجب أن يعيش الإنسان كل لحظات حياته." ج2 ص104، الدعوة إلى العمل من اجل القضية الإنسانية الاشتراكية يعد الاستثمار الأمثل للحياة، فالحياة بدون هدف أو غاية تفقد بريقها وتمسي رتيبة لا معنى لها.
وقد أعطانا الكاتب كلمات أخرى تمثل الحياة المثلى التي يعيشها الاشتراكيون "لم يكن بافل قادرا على العيش بهدوء ويستقبل الصباح بتثائب كسول وينام في العاشرة تماما. كان يسابق الحياة، ويحث الآخرين على السباق" ص270، الكسل والخمول هما مرض الإنسانية، ولا مجال للتعايش معهما أو القبول بوجودهما، فالعمل والحيوية هما ركيزة أساسية في الحياة الاشتراكية.
أما الفرح والسعادة فيأتيان بعد تحقيق الأهداف والغايات ومن ثم يمكن التمتع بالشعور الجميل بهذا الانجاز لذي سيتيح التأمل بمشاهدة الطبيعة الجميلة أو الاهتمام بالأنثى، فبعد أن تم تحقيق العديد من الأهداف التي رسمها بافل، وبعد أن أصبح غير قادر جسديا على القيام بالعمال التي اعتاد على انجازها، كان لا بد له أن يأخذ الحياة الجديدة ضمن واقعه الجسدي الجديد، وهذا ما قالته ريتا " لا يجوز أن تكون قاسيا على نفسك هكذا يا بافل. في حياتنا لا يوجد الكفاح فقط، بل وفرحة الشعور الجميل أيضا" ج2 ص267.
رجال الدين والمتدينون
الأدب الاشتراكي أعطا الصورة السلبية للدين ولرجال الدين، فلم يعطيهم إلا صور تمثل الانتهازية والتخاذل اتجاه الثورة والثوار، ففي هذه الرواية التي تمثل أدب الواقعية الاشتراكية بامتياز، تم التعاطي مع موضوع الدين بطريقة منحازة تماما للفكر الاشتراكي المعارض والمتناقض مع الدين "وكان يقود المنظمة فاسيلي الكاهن، والملازم الثاني قينيك، والضابط البيتليوري كوزمينكوز بينما كان فينيك وأبوه، وابنتا الكاهن وساموتيا الذي أنسل إلى الأعمال المكتبية للجنة التنفيذية يقومون بأعمال التجسس" ج2 ص29، تم جمع رجل الدين وعائلته ورجال النظام القيصري معا في العمل ضد الثورة، من هنا يجب التعامل معهم كأعداء للثورة والثوار "في تلك الليلة أعتقل في بلدة شيبيتوفكا الكاهن فاسيلي مع ابنتيه، وجميع مناصريه" ج2 ص39، من هنا كان الدين ورجال الدين يتم التعاطي معهما بعداوة في الفكر والأدب الاشتراكي، فلم يكن هناك هامش لخلق هدنة ولو مؤقتة بين الدين و الفكر الاشتراكي.
المتدينون أيضا اخذوا نصيبهم السلبي في الرواية، فهناك الصور المشوهة التي كتبها اوستروفسكي عنهم، فهم وان كانوا لا يبدون العداء للثورة إلا أنهم غير منسجمين مع ما يبدون من ورع وتقوى، وهم أيضا يبغضون العمل المقدس من قبل الاشتراكية، " الله فوق، والعمل الملعون يبتلع كل الوقت، ولا يترك فرصة للصلاة ونزعت المنديل من رقبتها، وسارت، وهي تنظر إلى الضيف بطرف عينها، إلى الركن الذي وضعت فيه صور القديسين الكئيبة المسودة من طول العهد. ورسمت ثلاث أصابع عظمية، ورسمت علامة الصليب، وهمست بشفتين ذابلتين:
"أبانا الذي في السماء مبارك اسمك"
في الفناء قفز الطفل على خنوص اسود مسترخي الأذن، وصرح على هذا الحيوان الدائر القابع هامزا إياه بقدميه الحافيتين، ممسكا شعر رقبته بيديه الصغيرتين :
- هيا، تحرك! هيا لا تتدلل!
ركض الخنزير بالطفل في الفناء، محاولا أن يلقيه عن نفسه ، إلا أن العفريت الأحول احكم قبضته عليه .
قطعت العجوز الصلاة، وأخرجت رأسها من النافذة:
سأقطع رقبتك، يا ابن الكلبة! انزل عن الخنزير يا طاعون!
استطاع الخنزير أخيرا أن يلقي الطفل عنه، وعادت العجوز راضية إلى الإيقونات. واكتسى وجهها نقاب المتعبد، وتابعت صلاتها: ليأت ملكوتك...
ظهر الطفل عند الباب باكيا. وقال وهو يمسح أنفه المخدوش بكمه، وينشج متوجعا:
أعطني كعكة يا ماما!
التفتت العجوز مغتاظة:
دعني أصلي، أيها الشيطان الأحول. سأطعمك حالا يا ابن الكلبة! ... واختطفت من المصطبة سوطا. وإختفى الطفل في الحال. وضحكت الفتاتان على الموقد ضحكا خافتا.
وعادت إلى الصلاة للمرة الثالثة" ج2 ص100و101
المشهد السابق يظهر سفاهة الموقف امرأة عجوز من المفترض أن تكون خاشعة في صلاتها، طفل يحاول امتطاء خنزير، العجوز تتخلى عن صلاتها، تتلفظ بكلمات قذرة، تنم عن سفاهة المتدينين، الطفل ابن العجوز وهو جائع، يعني أن المتدينين لا يهتمون بأطفالهم، وصلاتهم ليس أكثر من شكليات لا تسمن ولا تغني من جوع، من هنا كانت تراقب طفلها وهو يمتطي الخنزير، العجوز تمتعض من العمل، المكان والمشهد بمجمله يوحي بالقذارة والسفاهة، فالمكان والشخصيات والحيوان خنزير والألفاظ كلها تعطي الصورة السلبية، من هنا نقول بان هناك عدم تفهم من قبل الاشتراكية للدين والرجال الدين وهي تقف موقف النقيض منهم.
الكاتب يقف موقف متعاطف جدا مع اليهود، ففي الجزء الأول من الرواية نجده يركز كثيرا على أوضاع اليهود، فيتم إعطائهم صور إيجابية في عملية الكفاح ضد أعداء الثورة، ومع هذا لم يسلم رجال الدين اليهود من النقض والتجريح، "قصبة بريزدوفا الصغيرة نائية في الأقاليم كانت من قبل مستوطنا مخصصا لليهود. ما بين مائتين أو ثلاثمائة بيت صغير بنيت أينما اتفق، وساحة سوق كبيرة في وسطها عشرون دكانا. والساحة قذرة يتناثر فيها الروث. وحول القصبة بيوت الفلاحين. وفي الحي اليهودي المركزي على الطرق إلى المجزرة كنيس قديم هو عبارة عن مبنى واهن موحش. حقا إن الكنيس لم يكن يشكو في أيام السبوت من فراغ جنباته، ولكن ذلك لم يكن كالزمن القديم، لم تكن حياة الحاخام كما كان يهوى. يبدو أن شيئا طالحا جدا حصل في عام 1917، لا ينظرون إلى الحاخام نظرة الاحترام الواجب. حقا أن الشيوخ ما يزالون لا يأكلون سجق لحم الخنزير الذي ذمه الرب! تفو، مجرد التفكير قي ذلك كريه! ويرفس الحاخام باروخ في سورة الغضب خنزيرا يبحث بهمة في كومة روث بحثا عن شيء يؤكل. نعم، أن الحاخام غير راض كليا عن تحول بريزدوف إلى حاضرة المنطقة. الشيطان يعرف من أين انهال هؤلاء الشيوعيون، وجميع في دوران مستمرون وكل يوم يأتي بتنغيص جديد. أمس رأى الحاخام على بيت الكاهن لافتة جديد:
لجنة منطقة بريزدوف
لاتحاد الشبيبة الشيوعي لأوكرانيا
. نزع الحاخام الورقة من الباب بحدة" ج2 ص174و175، إذن الأدب الاشتراكي يتناقض مع الدين أي دين فليس هناك دين جيد وأخر سيئ، كل الأديان ورجال الدين والمتعاطين مع الفكر الديني هم نقيض للاشتراكية ويجب الوقوف ضدهم، وهنا مرة أخرى يستخدم الكاتب كلمات الروث والخنزير في الحديث عن الدين، وكأنه يريد من القارئ أن يشعر بقذارة هذا الموضوع من خلال هذه الصور التي يتناولها.
صورة الملاكين
أيضا تم تناول الشخصيات التي تختلف وتتباين مواقفها مع الاشتراكية بطريقة مزرية تماما كما هو الحال مع رجال الدين، فكل ما هو اشتراكي هو بالضرورة جيد، وكل من هو غير اشتراكي أيضا سيئ ويجب محاربته، فلم يكن هناك تهادن أو تهاون مع كل مخالف للفكر الاشتراكي، ويجب أن ينزل إلى أسفل السافلين
" ماذا كنت ستفعل بي لو كان قد وفقتم في احتلال فرصوفيا؟ تفرم لحمي أم تتخذني محظية؟ كانت واقفة عند الباب منحنية انحناءة رشيقة، وقد ارتعش منخراها المتعودان على الكاكاين. وأشعل الضوء فوق الاركية. وانتصب بافل.
ومن يحتاج إليك؟ ستموتين من الكوكايين دون الحاجة إلى سيوفنا. وأنا لا اقبل بك حتى كامرأة.
بلشفي لعين!" ج2 ص150، رغم الأناقة والشكل الجميل لهذه المرأة إلا إن الكاتب أصر على تشويه صورتها لأنها لا تتفق مع الفكر الاشتراكي، وتناول مسألة الأخلاق في أهانتها وذلك عندما قال " وأنا لا اقبل بك كامرأة" فهنا كان إزالة صفة الأنثى عنها مما جعلها تثار وتنطق بكلمات تجعل المتعاطي للفكر الاشتراكي يقف مع الكاتب وذلك عندما قالت "بلشفي لعين"
من هنا لم تترك الاشتراكية احد لم يتفق معها فكريا إلا وجعلته ضدها، وهنا كانت تتجه نحو الانفراد والعزلة عن الآخرين الذين تنظر إليهم نظرة دونية.
صورة اليهودي
الأدب الاشتراكي لم يكن يهتم بالعرق أو الدين أو القومية، فهو فكر أممي مشاع لكل المجتمعات والأفراد دون تميز حتى للجنس، ذكر أم أنثى، من هنا تم التعاطي مع اليهود في هذا العمل بطريقة واقعية، دون رتوش أو تشويه، فقد كان الكاتب يعطي حقيقة الأحداث الجارية في روسيا القيصرية كما هي، ولا نريد أن نقول عن المغالاة زيادة أم نقصان فيما كتب، فما وصلنا من خلال الرواية سنتناوله بالتحليل والحيادية.
صور اليهودي كثيرة في الجزء الأول من الرواية، حتى أن أحداثها تدور في بلدة (بافليوك) التي يقطنها اليهود مع السكان الأوكران، وقد صورهم الكاتب كجزء حيوي من المجتمع الذي يعاني الأمرين على يد الجماعات المسلحة، من هنا كانت مشاركتهم واضحة في الأحداث.
اوستروفسكي أعطاهم صورة المضطهدين من قبل الجماعات المناهضة للثورة، فقد تعرضوا للنهب والسب والقتل كغيرهم في الحرب الأهلية، وكأن الكاتب يبدي تعاطفا أو انحيازا في ذكر الأعمال التي تعرضوا لها، حتى أن القارئ يشعر بهذا التعاطف والانحياز بشكل واضح، لكن حقيقة الأمر غير ذلك كما سنرى.
تم التطرق لهم في اغلب فصول الرواية، فقد أظهر اضطهادهم بصور عديدة وأشكال متنوعة، فكانوا ككبش فداء، حيث أن كل جماعة مسلحة معارضة للثورة كانت تقوم بسلب ونهب وضرب وقتل اليهود، "... في الليل دخل ناس فلننظر : فإذا نهبوا اليهود فمعنى ذلك أنهم من جماعة بيتليورا، وإذا كانوا "رفاقا" فسنعرفهم من كلامهم" ج1 ص138، هذه إشارة إلى أن اليهود كانوا عرضة للاضطهاد والقمع أكثر من غيرهم، وهذا يدفع بالقارئ إلى التعاطف معهم. ولم يقتصر الأمر على النهب والسلب بل تعدا ذلك إلى القتل "في معمعان معركة مع فصيلة حمراء، رضضت جماعة غولوب أكثر من مرة اقتحام بافليوك البلدة، بدلا من أن تهاجم البلاشفة من المؤخرة، وتغلب على نقاط الحراسة الخفيفة للحمر، ووضع القوة للتمويه والحماية، وأطلق العنان في البلدة لنهب لا مثيل له، وبالطبع، حرص، باعتباره بتليوريا أصيلا، على أن تصيب المجزرة اليهود بشكل خاص" ص145، لقد تم فهم المسألة بشكل اقرب إلى الصواب، هناك جماعات مسلحة تعمل ضد اليهود بشكل خاص، وذلك لهدف كان خافيا على كاتب الرواية اوستروفسكي لكي تبحث عن مخرج آمن ونهائي، طبعا كان المقصود دفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين تحديدا، وهنا إشارة إلى دور جهات كانت تعمل على هذا الأمر بشكل ممنهج، فحالة الاضطهاد التي تعرض لها اليهود كانت اكبر من تلك التي تعرض لها بقية المجتمع الروسي، من هنا جاء اهتمام الكاتب بهذه المسألة تحديدا، فهو ككاتب اشتراكي لم يكن ينحاز لهذا الطرف أو ذاك، وكتب بشكل واقعي ومنسجم مع طبيعية الحدث وحقيقته، فنحن هنا نشير إلى المخطط الذي رسم من قبل الحركة الصهيونية والذي كان يعمل بكافة السبل والوسائل على دفع اليهود للهجرة إلى فلسطين.
فحالة الاضطهاد الكبيرة والمتعددة التي تعرضوا لها جعلتنا نتجه نحو هذا الاستنتاج، ونحيد الكاتب فيما كتب.
مرة أخرى يصف لنا الكاتب حالة السكن التي يعيش فيه اليهود فيقول : "ترامت في البلدة اشاعات عن استباحة تدبر، ووصلت إلى بيوت اليهود الصغيرة الواطئة ذات النوافذ المائلة، القابعة، بطريقة ما، فوق منحدر قذر موصل إلى النهر. في هذه العلب المسماة بيوتا كان فقراء اليهود يعيشون في اكتظاظ غير معقول.
كان المصففون والعمال في المطبعة التي كان سيرغي بروزجاك يعمل فيها منذ سنتين، من اليهود. وقد اندمج معهم سيرغي، وكأنهم ذوو قرباه. والتحم الجميع في عائلة متآلفة ضد صاحب المطبعة اليد بليومشتين المرفه المغتر بنفسه" ج1 ص148 و189، في أماكن اقرب إلى الزريبة منها إلى البيوت، واطئة، نوافذها غير مستقيمة إشارة عن بناءها بطريقة سريعة لقلة الإمكانيات المادية، أو لأسباب الملاحقة والطرد المتكررة التي يتعرضون لها، فأجبروا على البناء بهذا الشكل، لكن سكان هذه البيوت هم كادحون من العمال وفقراء حتى النخاع، من هنا تم اندماجهم وتوحدهم مع الآخرين ضد صاحب المطبعة، وهنا نجد مشاركتهم الفاعلة والحيوية في النضال ضد الاستغلال، فهم جزء من الفقراء الذين يعملون لحصول على حقوقهم.
ردا على هذا الجميل كان لا بد من التعامل مع اليهود كجزء أساسي وحيوي من المجتمع، " ستستباح البلدة، وتلك حقيقة. وسيفتكون باليهود. وأنا أسألك : هل تريد أن تساعد رفاقك في هذه النكبة؟
بالطبع، أريد إذا كان بمقدوري." ج1 ص150، إذن ضمن هذه الأحداث والظروف لم يكن اليهود يعاملون من قبل المجتمع الذي هم فيه إلا معاملة خاصة واستثنائية، كرد على أعمال الاضطهاد والسلب والنهب والقتل التي تعرضوا لها من قبل الجماعات المسلحة.
وها هو الكاتب يذكر لنا كيف أنهم كانوا أكثر من غيرهم عرضة للقمع والقتل " ... انتهز اليهود السكون المؤقت فدفنوا قتلاهم، ودبت الحياة في البيوت الصغيرة في الأحياء اليهودية" ج1 ص162، رسم الحقيقة كما هي والحيادية عامل مهم في تحليل أي عمل، إن كان أدبيا أم تاريخيا أم سياسيا، من هنا ما كان لنا أن نستنتج ما قلناه الجهات التي تدفع باليهود للهجرة من وطنها روسيا إلى فلسطين .
يعود اوستروفسكي إلى الحديث عن حالة الانسجام والفاعلية في المجتمع الروسي فيقول " ... ونسى بافل خصامه مع تونيا في خضم أعمال الاستباحة، حين أخفى بافل والكهربائي عوائل يهودية في محطة الكهربا" ج1 ص174، هنا كان حماية المواطنين اليهود عمل استثنائي أرد بافل والكهربائي من وراءه حماية المواطنين من القتل، وهذا الفعل يدل على الاهتمام باليهود وأيضا على أنهم جزء أساسي من المجتمع الروسي الذي يتواجدون فيه.
وقد عمل المجتمع الروسي على الاهتمام بهم، كعزاء لهم عما نالهم من اعمل غير إنسانية " ...أنت نسيت ماذا فعلون. ألا تعرف كم يهوديا يتيما في المدرسة" ج1 ص183هذه المشاهد تعطينا الكيفية التي عاشها اليهود إبان الثورة البلشفية، فرغم ما تعرضوا له من اضطهاد وقمع كانوا يجدوا الإحسان والرحمة والعطف من قبل المجتمع الذي هم فيه، وإذا أخذنا حالة المجتمع الروسي وما عانى في تلك الفترة الحرب الأهلية من جوع وتشريد وقتل ودمار علمنا حالة الانسجام والتكافل الكامل بين كافة أطياف المجتمع في روسيا.
صورة الأم
الأم دائما كانت تحمل العبء الأثقل والاهم في العائلة، فما بالنا إذا كانت الظروف ظروف حرب، لقد أبدى كتاب الواقعية الاشتراكية اهتمام خاصة بامرأة وخاصة الأم، فقد كتب مكسيم غوركي رواية الأم وأيضا كتب قصة قصير باسم الأم أيضا، وهناك رواية باسم الأم الثانية لأحد الكتاب السوفيت، كتبت بطريقة مباشرة وبحبكة ضعيفة مما افقدها الأهمية الأدبية والفكرية معان وها هو اوسنروفسكي اكتب أيضا عن الأم وما تعاني " هلا بقيت، يا عزيزي بافل؟ يحز في قلبي أن أعيش وحيدة وأنا في شيخوختي، ما أكثر الأبناء، ولكنهم حين يكبرون يتفرقون كل مفرق. ما الذي يجذبك إلى المدينة؟ يمكنك أن تعيش هنا أيضا، أم أنت أيضا وجدت لنفسك سمانة مقصوصة الشعر؟ لا احد يخبرني بشيء، أنا العجوز. تزوج أرتيم دون يخبرني وأنا لا انتظر منك شيئا أهون. أنا لا أراكما إلا عندما تصابان بالعجز" ج2 ص104 و105، يطرح الكاتب مشاعر الأم، وهي هنا تمثل كل الأمهات اللواتي يفتقدن الأبناء في كل زمان ومكان، وليس أم بافل وحسب، فهناك مشاعر جياشة عند الأمهات نحن لا نعرفها، من هنا جاء تذكير الكاتب بهذا الكائن الأهم في حياة الإنسان. فطرح همومها ومشاعرها وفكرها وما تعاني من ضيق وما تحمل من آمل في الحياة بجانب من أعطت، تمثل دعوة لكل الأبناء كي يعودوا إلى أمهاتهم.
وإذا عدنا إلى نهاية الرواية نجد بان الأم كانت تشارك ابنها بافل في تشوقه للموافقة على طباعة قصته " بعد أيام كثيرة حين أصبح الانتظار لا يطاق، صاحت أمه، التي كانت لا تقل قلقا عن ابنها، صاحت وهي تدخل الغرفة: خبر من لينينغرادّ!!!" ج2 ص356، هي حاملة الهم والعبء والمتوحدة مع أولادها في الفرح والحزن في المرض والشفاء في الاعتقال والإفراج،
رائد الحواري
كيف سقينا الفولاذ
تعد هذه الرواية من أهم الأعمال الأدبية التي روجت لفكرة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وقد استطاع نيقولاي اوستروفسكي أن يعطي دفعة كبيرة للأدب الاشتراكي من خلال هذه الرواية، جعلته ينافس المدارس الأدبية الأخرى، فكان ملتزما تماما بالفكر الاشتراكي وبالمدرسة الواقعية الاشتراكية، ويمكننا القول عن الرواية بأنها الأنموذج للمدرسة الواقعية الاشتراكية، فهي عمليا تتفوق على وراية "الأم" لمكسيم غوركي إن كان في الشكل أم المضمون، ففي "كيف سقينا الفولاذ" كانت الأحداث تسير على أكثر من جبهة، من النضال العمالي النقابي، إلى الحرب والقتال، إلى النضال الفكري، كما نجد صور لرجال الدين والمتدينين، كما نجد الجماعات التي عملت على ضرب الدولة الاشتراكية في مهدها مدعومة من الدول المعادية مثل ألمانيا وبولندا تحديدا، وقد اعتمد الكاتب في روايته إلى التكثيف والاختزال قدر الإمكان، فكانت الأفكار التي يطرحها أكثر وضوحا ونضوجا وثورية من رواية "الأم" كما أن اوستروفسكي أعطى المسألة الفكرية اهتماما خاصة، مما جعل الرواية تطرح أفكار فلسفية في العديد من القضايا التي تهم الإنسان بشكل عام والاشتراكي بشكل خاص، فهي رواية فكرية بالإضافة إلى أنها تحمل الصورة الحقيقية للأحداث التي شهدتها الدولة الاشتراكية السوفيتية، من هنا تحمل هذه الرواية مكانة خاصة عند الاشتراكيين لما فيها من تطابق بين الشكل والمضمون، ولأسلوبها الذي يطرح العديد من القضايا والأحداث والأفكار التي تهم الاشتراكية.
تبدأ الرواية بالحديث عن الطفل "بافل" الذي يذهب للعمل من اجل أن يساعد عائلته (الأم والأخ) في تدبير أمور الحياة الشاقة في عهد القيصر والإقطاع في روسيا، الطفل الذي لم يتجاوز اثني عشر عاما يصبح كادح ويقوم بأعمال شاقة تتماثل مع الأعمال التي يقوم بها الكبار، فيعرف معنى الاستغلال والشقاء الذي يمثله النظام القيصري الإقطاعي.
من خلال السرد لحياة (بافل كورتشاغين) تتمحور أحداث الرواية، فيتم التطرق إلى التدخلات من قبل ألمانيا وبولندا اللتان عملتا على ضرب البلاشفة، للهيمنة على التركة التي خلفها النظام القيصري، ويتم الحديث عن القوى الوطنية الروسية التي عملت ضد الثورة إن كانت متحالفة مع الغرب أم لا.
في هكذا ظروف إلى بد أن ينضج الطفل ويصبح رجلا حقيقيا رغم صغر سنه، فمن يعمل ضمن هذه الأوضاع لا بد له من يسرع في التكيف معها، والنباهة تصبح ملازمة لشخصه، فشدة النار تعمل على إنضاج الطعام سرع من النار الهادئة.
تبدأ عملية التغير في حياة الطفل العامل إلى الطفل المقاتل، وأي قتال! القتال في حرب أهلية، فهي أكثر شراسة وخطورة من الحرب بين الجيوش النظامية، من هنا يتم تشكيل شخصية البطل (بافل) فهو مقدام في أكثر من جبهة ومنتصر في كافة الحروب التي خاضها.
يصور لنا الكاتب بشاعة الحرب وقسوتها، فرغم عدم نضوج فكرة حقوق الطفل في ذلك الزمن، لا أن هناك كلمات كانت تطرح هذا المفهوم لتأكيد على هول الحرب "أنا لا افهم كيف من الممكن أن يقبلوا مثل هؤلاء الأطفال في الجيش، انه عيب" ج1 ص322، كلمات تبين لنا الظروف القاسية التي دفعت بالأطفال إلى هكذا عمل القتل
العمل الجماعي
العمل الجماعي يمثل أهم عنصر في الفكر الاشتراكي، فلا مجال للعمل الفردي، فالجماعية الحزب هي التي تقود النضال إلى غايته بطريقة سليمة واقرب إلى السلامة، لتحقيق آمال الكادحين "فان الناس الذين لم يكونوا قادرين على النضال في سبيل قضية عامة، كانوا غير قادرين على بناء حياتهم الخاصة" ج1 ص33و34، هذه الكلمات التي قالها اوستورفسكي خارج النص الروائي قال مثلها وأكثر في الرواية، وقد ارتأينا أن نوردها وذلك لطبيعة الأدب الاشتراكي الذي يهتم بالوضوح ويبتعد عن التورية، الانخراط في العمل الجماعي واجب لكل إنسان، حيث انه يمثل مدرسة للأفراد لكي يستطيعوا أن ينجحوا في حياتهم، من خلال التعامل السليم مع الأحداث والفهم السليم للكافة القضايا، ومن ثم يترك ذلك تراكما معرفيا وعمليا يسهم في تشكل شخصيات الأفراد بشكل جيد ليعطيهم المقدرة لتعامل مع كافة القضايا أن كانت شخصية أم اجتماعية، وهذا الربط بين العام والخاص يمثل احد أهم القضايا التي يطرحها الأدب الاشتراكي، فالهم الشخصي غير ذات قيمة إذا ما قورن بالهم العام، " فان النضال المنفرد لا يقلب الحياة" ج1 ص167، هذا تأكيد من الكاتب على ضرورة العمل ضمن الجماعة الحزب لكي يكون هناك تغير حقيقي على ارض الواقع.
العقيدة
لا يمكن أن يخلص الإنسان في عمله ويبدع إذا لم يحمل عقيدة مؤمن بها، فلإيمان شرط لكل عمل متقن وناجح، وقد طرح الكاتب هذا المسألة كما يلي "إن الإنسان لا يرهب الموت إذا كانت له قضية يفنى من اجلها. فإنها تخلق في نفسه القوة. وسيموت مطمئن الضمير حتما إذا كان يحس بان الحقيقة إلى جانبه. ومن هنا تأتي البطولة" ج1 ص291، فكرة عامة تتعلق بكل من يتبنى فكرة إيمانية، فستخلق في نفسه القوة التي تجعله خارق للعادة وللطبيعة البشرية، كما أنها ستمنحه القوة على مواجهة الموت دون رهبة أو جزع، فالإيمان يمثل رافد غير قابل للنضب أبدا، وهو العنصر الأهم في عملية البناء.
الأخلاق كعامل محفز للعمل
استخدمت الواقعية الاشتراكية الأخلاق كعامل أساسي في عملية التحريض على العمل، فالعمل يمثل العنصر الأهم في حياة الفرد والمجتمع، وطبقا لمفهوم العمل في الرواية فلم يقتصر على العمل الإنتاجي وحسب بل تناول العمل النضالي والتحرري (الحرب) وها هو اوستروفسكي يقول قولا بليغا في مفهوم الوطنية " لا يمكننا توصيل القطار. أتفهم؟ هناك تجري معركة، والثوار نسفوا الخط. فإذا نقلنا هؤلاء الكلاب قضوا عليهم في لحظة. اعلم، يا بني، إنني في عهد القيصر لم اسق قطارا أثناء الإضرابات. ولن افعل الآن. فسنجلل بالعار إلى آخر العمر إذا جلبنا الدمار لقومنا" ج1 ص109، هذا الكلام يحفز ويدفع المتلقي على المشاركة وبسرعة للتصدي للأعداء وعدم العمل بما يطلبونه حتى لو كانت نتيجة الرفض الموت أو الاعتقال، فعبارة "فسنجلل بالعار إلى آخر العمر إذا جلبنا الدمار لقومنا" عامل أخلاقي صرف، يتعلق بالمصلحة العامة وليس الخاصة، فالعام يعني الموت أو الاعتقال، والخاص يعني النجاة والمكافأة، ومع هذه المفارقة إلا أن الأخلاق تدفع بصاحبها نحو الخطر الشخصي في سبيل تحقيق السلامة والأمان للجماعة.
وقد أعطانا اوستروفسكي صورة أخرى لمحفزات الأخلاقية في مجال العمل الإنتاجي، الطفل بافل الذي يقوم بعمل اكبر منه وفي ظروف قاسية وصعبة، تجبره الحياة على مزيدا من العمل لكي يستطيع أن يلبي احتياجات العائلة المتزايدة، فرغم أن البطولة هنا تبدو فردية إلا أنها تخدم المجموع الأسرة وتشكل النضال المشترك في سبيل غاية نبيلة " لا، يا ماما، سأجد لي عمليا آخر إضافيا، في معمل النشارة، يحتاجون إلى راصفين للألواح، سأعمل هناك نصف يوم، وهذا يكفينا أنا وأنت، فلا تذهبي إلى العمل، وإلا سيغضب أرتيم علي، ويقول: لم يستطع تدبير البيت بدوني، دون أن برسل أمنا إلى العمل" ج1 ص133، الكلمات السابقة توضح لنا الحافز الذي دفع بالطفل إلى أن يعمل عملا آخر إضافة إلى عمله السابق، فقط لكي لا يقال عنه بأنه "لم يستطع تدبير البيت" فهذا الكلام يشكل رافد للتقدم أكثر في العمل، وأيضا للتخلي عن فترة الراحة الممنوحة .
رغم حداثة سن بافل وصعوبة العمل إلا انه يقبل بصدر رحب وقناعة بهذا الوضع الجديد الأكثر مشقة، فالعمل في مكانين مختلفين وبعدد ساعات يتجاوز الثلاث عشرة ساعة يمثل عملا بطوليا حقيقيا للكبار فما بالنا إن كان من يقوم بهذا العمل طفل!.
وهنا نجد نكران الذات بشكل جلي في سبيل الأسرة، وهذا تأكيد على أن الاشتراكيين يهتمون بالجانب الأخلاقي حيث انه يشكل عامل أساسي في فكرهم، فبدونه يفقد الإنسان الطاقة التي تشحذ النفس، وهنا دعوة صريحة إلى الاهتمام بهذا الجانب لما له من فاعلية في عملية التغير الاجتماعي، ولما تمثل الأخلاق من حالة الانسجام بين النظرية والتطبيق، فبدون الأخلاق تمسي النظرية مجردة ليس لها قيمة فعلية على ارض الواقع.
الصراع مع الذات
كان اوستروفسكي يعطي الجانب النظري أهمة تتوازى مع الجانب الفعلي والعملي في الرواية، فقد طرح مجموعة من الأفكار حول العديد من القضايا التي تواجه عملية بناء الاشتراكية، فكان صراع الذات مع الذات، والذي لا بد أن يكون فيها الفرد منتصرا لكي يستطيع الانتصار على الآخرين، إن كانوا بشرا أم ظرفا، "لأي شيء يعيش إذا كان قد فقد اعز شيء القدرة على الكفاح؟ بم يسوغ حياته الآن وفي الغد الكالح؟ بم يملؤها؟ مجرد أن يأكل ويشرب ويتنفس؟ هل يبقى متفرجا لا حول له يراقب رفاقه يشقون في ارض المعركة طرقهم إلى الأمام؟ يصبح عبئا على الفصيلة؟ هل يدمر جسمه الذي غدر به؟
رصاصة في القلب، ينتهي كل شيء! استطاع أن يعيش حياة جيدة، فليستطع أن يموت في اللحظة المناسبة. ومن سيدين محاربا تخلص من سكرات الموت؟
تلمست يده مسدس براونينغ الأملس الموضوع في جيبه، وأمسكت أصابعه المقبض بحركة الفتها. واخرج المسدس ببطء.
من كان بوسعه أن يفكر بأنك ستصل إلى هذا اليوم في حياتك؟
تفرست في فتحة المسدس بازدراء. وضع بافل المسدس على ركبته، ولعن نفسه حنقا
كل هذه بطولة فارغة، يا أخ، يستطيع أي غبي أن يطلق الرصاص على نفسه دائما، ومتى شاء، فذلك اجبن وأسهل مخرج من الوضع، إذا صعبت عليك الحياة تستطيع أن تقتل نفسك. ولكن هل حاولت أنت إن تنتصر على هذه الحياة؟ هل جربت كل شيء للخروج من الطوق الحديدي؟ هل نسيت كيف هاجمتم عند نوفوغراد فوليسكي سبع عشرة مرة في يوم واحد حتى انتصرتم في آخر الأمر رغم كل شيء؟ خبئ المسدس، ولا تتحدث بذلك أبدا ! واعرف كيف تعيش حين تصبح الحياة لا تطاق، وجعلها نافعة" ج2 ص 322 و 323، عندما يفقد الإنسان القدرة على العمل ويصبح عاجزا غير قادر على الإنتاج والفعل، لا بد أن يتأثر، خاصة إذا كان حديث السن، فبعد العديد من الانجازات التي حققها بافل، إن كان على صعيد فردي أم على الصعيد الجماعة ها هو عاجز غير قادر على القيام بأي عمل أو شيء مفيد، حتى لنفسه غير نافع، من هنا كان اليأس والقنوط بهذا الحجم وهذه الكيفية.
ونعتقد بان المشهد السابق تحديدا لا بد من قرأته أكثر من مرة والتوقف عنده طويلا لكل منا، حتى نتعلم ماهية الحياة، وما معنى الانتصار على الذات، فالإنسان يمكن أن يغدو في فترة من الفترات غير ذي نفع من وجهة نظر الآخرين ومن وجهة نظره شخصيا، لكنه في حقيقة الأمر قادر على انجاز عمل عظيم جدا لا يقدر على انجازه حتى الأصحاء، ففي الرواية يستطيع هذا المصاب الذي فقد القدرة على العمل ثم فقد بصره، ولم يعد يستخدم من حواسه سوى السمع والنطق، أن يشكل حاجزا فولاذيا أمام القنوط واليأس من الحياة، فها هو يصف لنا حالته المزرية وأيضا بشكل موازي حالة الإيمان التي يتمتع بها فيقول "لم اعد أغادر البيت، ولا أرى من النافذة غير قطعة من البحر. امن الممكن أن يوجد مأساة أقسى من مأساة إنسان اجتمع فيه جسد خائن يرفض إطاعته، وقلب بلشفي، ولهفته المتأججة في صدره، لهفته إلى العمل، إليكم، إلى الجيش العامل الزاحف في جميع الجبهات في خضم الاندفاع الحديدي؟
ما أزال على إيماني باني سأعود إلى الصفوف، وبان حربتي ستظهر بين حراب الصفوف المهاجمة. ولا يجوز أن أتخلى عن هذا الإيمان، ولا يحق لي أن أتخلى عنه، علمني الحزب والكومسومول خلال عشر سنين فن المقاومة، وكلمات قائدنا موجهة إلي أيضا : " لا توجد قلاع لا يستطيع البلاشفة الاستيلاء عليها" ج2 ص332، ليس هناك أنجع من الإيمان لتحقيق النصر وتجاوز المحنة، إن كانت شخصية أم جماعية، فالاستعانة بكل الإرث النضالي لشحذ الهمة، والصبر والإصرار على التحدي مهما كان حجمه وشكله يمكن الانتصار عليه إذا توفر الإيمان والصبر والإصرار إضافة إلى غاية أو هدف ما لم يكتمل تحقيقه، فالشعور بعدم الرضا عن الحالة الراهنة التي يمر بها بافل كانت الثقافة الأخلاقية والفكرية تدفع به لكي يصبر ويصمد لان النصر لا محال قادم، وما عليه الاستمرار في إيمانه بهذه الأفكار.
اوستروفسكي لم يفعل هذا الصمود وهذا الجلد للنفس وحسب بل قام بعمل إبداعي يوازي تماما ما قام به سابقا، وقد مهد له عندما قال "الآن فقط أدرك بافل أن الثبات يسهل كثيرا ويبسط على الإنسان يملك شبابا وجسدا قويا، ولكن التزامه الآن، حين تعتصره الحياة بقبضتها الحديدية إنما هو مسألة شرف" ج2 ص348، التدقيق في العبارة السابقة تبين حجم الشدة التي يعاني منها بطل الرواية (بافل) وتبين أهمية الإيمان والصبر في حياة الإنسان، فليس هناك مكان للتسليم للأمر الواقع بشكل مطلق، فالإيمان كأنه قوة خارج الكون، تمنح صاحبه طاقة جديدة بالإضافة إلى أفكار نيرة إبداعية تجعله يتألق أكثر في الصمود والإبداع معا.
ابتكر بافل أشكال وأنواع جديدة لتحقيق الذات ولخدمة معتقده (الاشتراكية) " لا تقلقي، يا فتاتي، ليس من السهل جدا إزهاق روحي. وسأعيش وأهرج على الأقل نكاية بتقديرات الأطباء العلماء، إنهم صائبون في كل ما قالوه عن صحتي، ولكنهم سيخطئون خطأ كبيرا إذا كتبوا باني عاجز كليا عن العمل. سنرى كيف ذلك" ج2 ص349، من هنا يبدأ الإنسان في إيجاد مساحة له، فليس هناك مكان يعجز عنه الإنسان، يبدأ بافل العمل والإنتاج بطريقة جديدة ليس بالقدرات الجسدية بل بالقدرات العقلية والفكرية التي امتاز بها في حروبه السابقة، وهنا تبدأ عملية خلق مجال جديد للعمل، وهذا ليس بالأمر البسيط، فهو يحتاج إلى خصوصية دقيقة، وكذلك إلى الإتقان الذي لا بد أن ينتج عن تجارب سابقة، ولكن بفكر بافل النير الذي جعله النضال والصراع صخرة منيعة وفي ذات الوقت شجرة مثمرة، اخذ يفكر بتجاربه الشخصية واستنتج منها أن الإنسان أعظم كائن على وجه الأرض، ويظهر حقيقة الإنسان المؤمن بفكره، الصابر على الشدائد، المفكر بخدمة قضيته "تمت كتابة الفصل الأخير، وقضت غاليا بضعة أيام تقرأ القصة على كورتشاغين.
غدا سترسل المخطوطة إلى قسم الثقافة والدعاية التابع للجنة الحزبية لمقاطعة لينينغراد. فإذا حظي الكتاب هناك "بتأشيرة الدخول إلى الحياة" فسيحول إلى دار النشر، وعندئذ...
ودق قلبه رهبة. عندئذ... ستبدأ حياة جديدة كسبت بسنوات من العمل المجهد العنيد" ج2 ص355، يقول الشاعر محمد حلمي الريشة "إن شهوة الجنس والنشر متشابهتان" وهذا ما شعر به بافل، إضافة إلى مسألة أخرى تتعلق به، وهي أن نشر الكتاب يمثل له الانتصار على الذات والواقع معا، وفي حالة عدم النشر تكون الهزيمة الساحقة التي لا تقوم بعدها قائمة، من هنا كانت "ودق قلبه رهبة عندئذ" فالإنسان في الأدب الاشتراكي يبقى إنسان من لحم ودم ولا يتم التعاطي معه كسوبرمان، من هنا كان الاهتمام بهواجسه الداخلة وبأحاسيسه، حتى يكون انموذج حي للآخرين ويعطي صورة واقعية حية لهؤلاء الأبطال والشخصيات، وهذا ما حدث لبافل الذي استطاع أن يثبت ذاته مرتين، مرة في الجهاد العضلي والحربي، ومرة في الجهاد الفكري والأدبي. "هل فعلت كل شيء للتخلص من الطوق الحديدي، وتعود إلى الصفوف، وتجعل حياتك نافعة؟
وكان يحب:
نعم، يبدو إني فعلت كل شيء
بعد أيام كثيرة، حين أصبح الانتظار لا يطاق، صاحت أمه، التي كانت لا تقل قلقا عن ابنها، صاحت وهي تدخل الغرفة
خبر من لينينغراد!!!
كان ذلك برقية من لجنة المقاطعة. بضع كلمات متقطعة على ورقة: "القصة قبلت بترحيب. سنحولها إلى النشر. نهنئوك بالانتصار" تلاحقت خفقات قلبه. هذا هو الحلم المنشود قد تحقق! والطوق الحديدي قد تحطم.ها هو قد عاد ثانية بسلاح جديد إلى الصفوف، إلى الحياة" ج2 ص356 و357
لا شيء يضاهي فرحة الانتصار وتحقيق الذات، اوستروفسكي وهو يتحدث عن بافل كان يتحدث عن نفسه، حيث انه استوحى اسم بافل تورية عن أسمة الحقيقي، ليسرد الأحداث التاريخية التي مرت بها روسيا إبان تشكيل الدولة السوفيتية، وهنا يكون الكاتب أبدع مرتين مرة عندما كتب تاريخ مرحلة حيوية من مراحل التاريخ الإنساني مرحلة بناء الدولة الاشتراكية ومرة عندما صاغ ذلك بصورة أدبية رائعة، فكان له في هذه الرواية "كيف سقينا الفولاذ" أن يكون في مصاف الأدباء الذين تركوا أعمالا خالدة لا يمكن أن يتناسها احد.
وهنا لا بد من التذكير أن الرواية تمثل أهم الأعمال الروائية التي تناولت الفكر الاشتراكي، كما أنها تمثل انموذج تم الاقتداء به من قبل كتاب الواقعية الاشتراكية، وهي من أفضل واهم الأعمال الأدبية التي نشرها السوفيت ولاقت هذا الحجم من الاهتمام والاستحسان من القراء بصرف النظر عن قوميتهم.
فلسفة العمل
الرواية تركز على أهمية العمل في تشكيل الفرد أولا ثم المجتمع ثانيا، حيث أن الفكر الاشتراكي يعطي العمل القيمة الأهم، فهو العنصر الذي يشكل الوعي بضرورة التغير والبحث عن الجديد، فالإنسان العامل يحتل المرتبة الأولى في الاشتراكية، فهو أداة الصراع وغايته معا، من هنا تم تناول العامل والعمل بأكثر من موضع " إنا مستعد لتحمل كل شيء فقط لو يعيدوني ذلك إلى العمل.
ليس في حياتي شيء ارهب من فقداني القدرة على العمل، وحتى التفكير بذلك لا أستطيعه، ولهذا السبب اقبل بكل شيء يعرضونه على"ج2 ص292، إذن قيمة العمل ملازمة لقيمة للإنسان في الفكر الاشتراكي، ففي العمل يجد بافل نفسه ويحقق ذاته.
هناك مقولة لقسطنطين سيمونوف في رواية رحى الحرب يقول فيها " الانتصار السهل إلى يشبع الروسي" وقد تناول اوستروفسكي عين الفكرة عندما قال على لسان بافل "انتم ملزمون على أعطائي عملا مناسبا لحالتي. بوسعي أن اعمل في البيت، أو أعيش في مؤسسة... على شرط أن لا أكون كاتب أوراق يسجل أرقام الأوراق الصادرة والواردة... يجب أن يعطيني العمل ما يرضيني حتى لا اشعر بأنني في عزلة" ج2 ص314 و315، الثقافة التي شكلتها الماركسية في المجتمع الروسي جعلته يتجاوز الحالة الإنسانية العادية ويتعداها إلى حالة مثالية في كافة مناحي الحياة، فرفض العمل البسيط العادي رغم المرض والضعف الجسدي والإصرار على القيام بعمل حقيقي صعب وفيه من المشقة ما يلبي رغبات بافل، يمثل التأثير الذي تركه الفكر الماركسي على معتنقيه، حيث استطاع أن يقنع مثل هؤلاء ( المرضى والعجزة ) بهكذا فكرة ، تحقيق الذات والتفاني في خدمة الآخرين.
قيمة العمل لا تكمن في ماهيته وحسب بل فيما يتركه من أثار ايجابية في نفسية من يقوم به.
فلسفة الحرب
أثناء الحرب يسقط الجنود قتلى أو جرحى ومع هذا تستمر الحرب، لكن ما تأثير ذلك على بقية الجنود؟
"لم يخرج من الصفوف إلا حين استنزفت قواه. والآن وقد أثخنه الجراح، لا يستطيع أن يتمسك في موضعه في خط الجبهة، وليس أمامه إلا مستشفيات المؤخرة. وتذكر كيف أصابت رصاصة محاربا أيام انصبابهم على فرصوفيا. فوقع هذا المحارب تحت حوافر الحصان، بسرعة ضمد الرفاق الجريح، وسلموه إلى رجال الإسعاف، ومضوا في طريقهم يلاحقون العدو. لم توقف الفصيلة زحفها لفقدانها محاربا. لقد كان الأمر كذلك في النضال من اجل غاية جلى" ج2 ص322، الإيمان بضرورة إكمال المسير حتى النهاية، رغم وقوع العديد من الجنود بين القتلى أو الإصابة، فهذا لن يعيق التقدم رغم تأثير ذلك نفسيا ومعنويا وماديا على الجنود، فسقوط هذا الجندي جريحا أم قتيلا يجب أن لا يحول دون إكمال المعركة وتحقيق النصر، ورغم العلاقة الوثيقة التي يرتبط بها الجنود، إلا أن فقدان احدهم لن يكون عائقا أمام الاستمرار في العمل الحربي. فهم يشدون على الجرح ويتحملون هذا الألم في سبيل تحقيق الهدف والانتصار.
فلسفة القيمة
الهم الجماعي هو الطاغي في الفكر الاشتراكي، فليس هناك مكان للهم الشخصي أبدا، إلا ضمن المجموع الذي يعمل لتحقيق الهدف قيام الاشتراكية فكل عمل لا يخدم الاشتراكية هو عديم الأهمية " ... بذلك الطراز من الإنسان القادر على تحمل العذابات، دون أن يظهرها لكل إنسان. إنا أؤيد هذا الطراز من الثوريين، الطراز الذي يعتبر ما هو شخصي عديم الأهمية إذا قيس بما هو عام" ج2 ص263، الاشتراكي لا يكتفي بجعل ذاته في خدمة الفكرة وحسب بل يجعل من علاقته الزوجية أيضا في خدمة الفكرة والحزب، "سأكون زوجا سيئا إذا تظنين أني يجب أن أكون لك أولا ثم بعد ذلك للحزب. سأكون للحزب أولا، ثم لك ولذوي قرباي الآخرين" ج1 ص328،هذه الفكرة التي يتبناها الاشتراكيون، فهم وجدوا لخدمة الحزب أولا وآخرين ولا مجال حتى للزوجة والعائلة أن تأخذ مكانها الطبيعي عندهم، هل نجد مثل هذا الفكر الآن؟.
من المؤكد تم التخلي عن مثل هذه الفكرة، ولم يعد لها ممارسين على ارض الواقع، حتى عند المتشددين من هذا الاتجاه أو ذاك، فنكران الذات بهذه الكيفية وهذا الشكل يعد معدوما في زماننا.
وها هو بافل يتحدث عن علاقته الزوجية قائلا "إذا كان للبلشفي زوجة، رفيقة في الحزب فإنهما لا يلتقيان إلا قليلا... وفي ذلك فائدتان: لا يضجر احدهما من الآخر، ولا وقت للمشاجرة!"ج2 ص346، فرغم تواضع التعليل الذي قدمه اوستروفسكي إلا انه يشير إلى الطريقة التي يفكر بها الاشتراكي، وكيف انه جعل من ذاته ومن زوجته أداة في خدمة الحزب.
إذن قيمة الفرد وقيمة العمل تكمن في جعلهما في خدمة الحزب الذي يمثل الفكرة النبيلة، والتي ستحقق العدالة والسعادة للبشرية.
فلسفة الحب
الحب حالة إنسانية حيوية، ولا يوجد إنسان مهما كانت حياته صعبة لا يمارس هذا الفعل الإنساني، فالحب احد العناصر التي تؤثر في سلوك الفرد، لكن الفكر الاشتراكي جعل الفرد يتجه طواعية بطريق موازي للحب، حب على الطريقة الاشتراكية الجماعية، يخدم أولا وأخيرا الاشتراكية، وها هو بافل يقول لامه " قطعت على نفسي يا ماما بان لا أغازل الفتيات حتى نقضي على البرجوازيين في العالم كله."ج2 ص105، رغم خيال الفكرة وعدم واقعيتها، إلا أنها تشير لا رسوخ فكرة الاشتراكية التي ستسود العالم اجمع عند مؤسسي الاشتراكية، فكانوا يشكون ظاهرة فريدة وفي ذلك الزمن، فقد حولوا الحب من الأنثى إلى الفكرة أو تم تأجيل الحب إلى حين الانتهاء من الصراع وتحقيق الهدف بناء ونشر الاشتراكية في العالم اجمع.
فلسفة الإنسان
الاشتراكية تعتبر سعادة الإنسان غايتها الأولى، وهي تعمل لتحقيق هذه الغاية، كما أنها تعتبر الإنسان قادر على القيام بكل ما يبدو مستحيلا إذا امتلك الإرادة والإيمان بعمله، وقد طرحت الرواية هذه الفكرة الإرادة بشكل خاص حيث تتحدث عن إرادة بافل الذي استطاع أن يكون إنسانا فريدا من خلال عمله وإيمانه بفكرة الاشتراكية، فقد قام بالعديد من الأعمال شبه المستحيلة كل ذلك لأنه امن بفكرة نبيلة، "إن الإنسان الذي لا يستطيع التخلي عن عادة سيئة لا يساوي شيئا" ج2 ص178 و179، فالإنسان يجب أن يقوم فقط بالأعمال الجيدة وان يحجم عن الرديئة، كما نجد هنا دعوة صريحة للتحكم بالسلوك الفردي وعدم الانسياق وراء الانفعالات الشخصية.
فلسفة الحياة والموت
الفلسفة المادية تركز على الحياة الأرضية التي يعيشها البشر، ولا تلقي بالا للحياة الثانية القيامة فهي غير موجودة في معتقدهم، وان وجدت فالأهمية للحياة الدنيا، فالاشتراكيون غير معنيين أبدا في الحياة بعد الموت، من هنا كان الاهتمام والتركيز على تحقيق كافة الرغبات و الانجازات في الحياة الأولى، كما أنها كانت تدعو إلى الحفاظ عليها والحرص على استغلالها بطريقة ناجعة، يقول اوستروفسكي على لسان بافل "إن الحياة أعز شيء لدى الإنسان. وهي تتاح له مرة واحدة، ويجب أن يحياها دون أسف على أعوام تقضت بالألم والعذاب، دون لذع العار من ماضي وضيع تافه، حتى إذا جاءت ساعة احتضاره استطاع أن يقول: كل حياتي، وكل قواي كانت موهوبة لأروع شيء في العالم النضال من اجل تحرير الإنسانية. يجب أن يعيش الإنسان كل لحظات حياته." ج2 ص104، الدعوة إلى العمل من اجل القضية الإنسانية الاشتراكية يعد الاستثمار الأمثل للحياة، فالحياة بدون هدف أو غاية تفقد بريقها وتمسي رتيبة لا معنى لها.
وقد أعطانا الكاتب كلمات أخرى تمثل الحياة المثلى التي يعيشها الاشتراكيون "لم يكن بافل قادرا على العيش بهدوء ويستقبل الصباح بتثائب كسول وينام في العاشرة تماما. كان يسابق الحياة، ويحث الآخرين على السباق" ص270، الكسل والخمول هما مرض الإنسانية، ولا مجال للتعايش معهما أو القبول بوجودهما، فالعمل والحيوية هما ركيزة أساسية في الحياة الاشتراكية.
أما الفرح والسعادة فيأتيان بعد تحقيق الأهداف والغايات ومن ثم يمكن التمتع بالشعور الجميل بهذا الانجاز لذي سيتيح التأمل بمشاهدة الطبيعة الجميلة أو الاهتمام بالأنثى، فبعد أن تم تحقيق العديد من الأهداف التي رسمها بافل، وبعد أن أصبح غير قادر جسديا على القيام بالعمال التي اعتاد على انجازها، كان لا بد له أن يأخذ الحياة الجديدة ضمن واقعه الجسدي الجديد، وهذا ما قالته ريتا " لا يجوز أن تكون قاسيا على نفسك هكذا يا بافل. في حياتنا لا يوجد الكفاح فقط، بل وفرحة الشعور الجميل أيضا" ج2 ص267.
رجال الدين والمتدينون
الأدب الاشتراكي أعطا الصورة السلبية للدين ولرجال الدين، فلم يعطيهم إلا صور تمثل الانتهازية والتخاذل اتجاه الثورة والثوار، ففي هذه الرواية التي تمثل أدب الواقعية الاشتراكية بامتياز، تم التعاطي مع موضوع الدين بطريقة منحازة تماما للفكر الاشتراكي المعارض والمتناقض مع الدين "وكان يقود المنظمة فاسيلي الكاهن، والملازم الثاني قينيك، والضابط البيتليوري كوزمينكوز بينما كان فينيك وأبوه، وابنتا الكاهن وساموتيا الذي أنسل إلى الأعمال المكتبية للجنة التنفيذية يقومون بأعمال التجسس" ج2 ص29، تم جمع رجل الدين وعائلته ورجال النظام القيصري معا في العمل ضد الثورة، من هنا يجب التعامل معهم كأعداء للثورة والثوار "في تلك الليلة أعتقل في بلدة شيبيتوفكا الكاهن فاسيلي مع ابنتيه، وجميع مناصريه" ج2 ص39، من هنا كان الدين ورجال الدين يتم التعاطي معهما بعداوة في الفكر والأدب الاشتراكي، فلم يكن هناك هامش لخلق هدنة ولو مؤقتة بين الدين و الفكر الاشتراكي.
المتدينون أيضا اخذوا نصيبهم السلبي في الرواية، فهناك الصور المشوهة التي كتبها اوستروفسكي عنهم، فهم وان كانوا لا يبدون العداء للثورة إلا أنهم غير منسجمين مع ما يبدون من ورع وتقوى، وهم أيضا يبغضون العمل المقدس من قبل الاشتراكية، " الله فوق، والعمل الملعون يبتلع كل الوقت، ولا يترك فرصة للصلاة ونزعت المنديل من رقبتها، وسارت، وهي تنظر إلى الضيف بطرف عينها، إلى الركن الذي وضعت فيه صور القديسين الكئيبة المسودة من طول العهد. ورسمت ثلاث أصابع عظمية، ورسمت علامة الصليب، وهمست بشفتين ذابلتين:
"أبانا الذي في السماء مبارك اسمك"
في الفناء قفز الطفل على خنوص اسود مسترخي الأذن، وصرح على هذا الحيوان الدائر القابع هامزا إياه بقدميه الحافيتين، ممسكا شعر رقبته بيديه الصغيرتين :
- هيا، تحرك! هيا لا تتدلل!
ركض الخنزير بالطفل في الفناء، محاولا أن يلقيه عن نفسه ، إلا أن العفريت الأحول احكم قبضته عليه .
قطعت العجوز الصلاة، وأخرجت رأسها من النافذة:
سأقطع رقبتك، يا ابن الكلبة! انزل عن الخنزير يا طاعون!
استطاع الخنزير أخيرا أن يلقي الطفل عنه، وعادت العجوز راضية إلى الإيقونات. واكتسى وجهها نقاب المتعبد، وتابعت صلاتها: ليأت ملكوتك...
ظهر الطفل عند الباب باكيا. وقال وهو يمسح أنفه المخدوش بكمه، وينشج متوجعا:
أعطني كعكة يا ماما!
التفتت العجوز مغتاظة:
دعني أصلي، أيها الشيطان الأحول. سأطعمك حالا يا ابن الكلبة! ... واختطفت من المصطبة سوطا. وإختفى الطفل في الحال. وضحكت الفتاتان على الموقد ضحكا خافتا.
وعادت إلى الصلاة للمرة الثالثة" ج2 ص100و101
المشهد السابق يظهر سفاهة الموقف امرأة عجوز من المفترض أن تكون خاشعة في صلاتها، طفل يحاول امتطاء خنزير، العجوز تتخلى عن صلاتها، تتلفظ بكلمات قذرة، تنم عن سفاهة المتدينين، الطفل ابن العجوز وهو جائع، يعني أن المتدينين لا يهتمون بأطفالهم، وصلاتهم ليس أكثر من شكليات لا تسمن ولا تغني من جوع، من هنا كانت تراقب طفلها وهو يمتطي الخنزير، العجوز تمتعض من العمل، المكان والمشهد بمجمله يوحي بالقذارة والسفاهة، فالمكان والشخصيات والحيوان خنزير والألفاظ كلها تعطي الصورة السلبية، من هنا نقول بان هناك عدم تفهم من قبل الاشتراكية للدين والرجال الدين وهي تقف موقف النقيض منهم.
الكاتب يقف موقف متعاطف جدا مع اليهود، ففي الجزء الأول من الرواية نجده يركز كثيرا على أوضاع اليهود، فيتم إعطائهم صور إيجابية في عملية الكفاح ضد أعداء الثورة، ومع هذا لم يسلم رجال الدين اليهود من النقض والتجريح، "قصبة بريزدوفا الصغيرة نائية في الأقاليم كانت من قبل مستوطنا مخصصا لليهود. ما بين مائتين أو ثلاثمائة بيت صغير بنيت أينما اتفق، وساحة سوق كبيرة في وسطها عشرون دكانا. والساحة قذرة يتناثر فيها الروث. وحول القصبة بيوت الفلاحين. وفي الحي اليهودي المركزي على الطرق إلى المجزرة كنيس قديم هو عبارة عن مبنى واهن موحش. حقا إن الكنيس لم يكن يشكو في أيام السبوت من فراغ جنباته، ولكن ذلك لم يكن كالزمن القديم، لم تكن حياة الحاخام كما كان يهوى. يبدو أن شيئا طالحا جدا حصل في عام 1917، لا ينظرون إلى الحاخام نظرة الاحترام الواجب. حقا أن الشيوخ ما يزالون لا يأكلون سجق لحم الخنزير الذي ذمه الرب! تفو، مجرد التفكير قي ذلك كريه! ويرفس الحاخام باروخ في سورة الغضب خنزيرا يبحث بهمة في كومة روث بحثا عن شيء يؤكل. نعم، أن الحاخام غير راض كليا عن تحول بريزدوف إلى حاضرة المنطقة. الشيطان يعرف من أين انهال هؤلاء الشيوعيون، وجميع في دوران مستمرون وكل يوم يأتي بتنغيص جديد. أمس رأى الحاخام على بيت الكاهن لافتة جديد:
لجنة منطقة بريزدوف
لاتحاد الشبيبة الشيوعي لأوكرانيا
. نزع الحاخام الورقة من الباب بحدة" ج2 ص174و175، إذن الأدب الاشتراكي يتناقض مع الدين أي دين فليس هناك دين جيد وأخر سيئ، كل الأديان ورجال الدين والمتعاطين مع الفكر الديني هم نقيض للاشتراكية ويجب الوقوف ضدهم، وهنا مرة أخرى يستخدم الكاتب كلمات الروث والخنزير في الحديث عن الدين، وكأنه يريد من القارئ أن يشعر بقذارة هذا الموضوع من خلال هذه الصور التي يتناولها.
صورة الملاكين
أيضا تم تناول الشخصيات التي تختلف وتتباين مواقفها مع الاشتراكية بطريقة مزرية تماما كما هو الحال مع رجال الدين، فكل ما هو اشتراكي هو بالضرورة جيد، وكل من هو غير اشتراكي أيضا سيئ ويجب محاربته، فلم يكن هناك تهادن أو تهاون مع كل مخالف للفكر الاشتراكي، ويجب أن ينزل إلى أسفل السافلين
" ماذا كنت ستفعل بي لو كان قد وفقتم في احتلال فرصوفيا؟ تفرم لحمي أم تتخذني محظية؟ كانت واقفة عند الباب منحنية انحناءة رشيقة، وقد ارتعش منخراها المتعودان على الكاكاين. وأشعل الضوء فوق الاركية. وانتصب بافل.
ومن يحتاج إليك؟ ستموتين من الكوكايين دون الحاجة إلى سيوفنا. وأنا لا اقبل بك حتى كامرأة.
بلشفي لعين!" ج2 ص150، رغم الأناقة والشكل الجميل لهذه المرأة إلا إن الكاتب أصر على تشويه صورتها لأنها لا تتفق مع الفكر الاشتراكي، وتناول مسألة الأخلاق في أهانتها وذلك عندما قال " وأنا لا اقبل بك كامرأة" فهنا كان إزالة صفة الأنثى عنها مما جعلها تثار وتنطق بكلمات تجعل المتعاطي للفكر الاشتراكي يقف مع الكاتب وذلك عندما قالت "بلشفي لعين"
من هنا لم تترك الاشتراكية احد لم يتفق معها فكريا إلا وجعلته ضدها، وهنا كانت تتجه نحو الانفراد والعزلة عن الآخرين الذين تنظر إليهم نظرة دونية.
صورة اليهودي
الأدب الاشتراكي لم يكن يهتم بالعرق أو الدين أو القومية، فهو فكر أممي مشاع لكل المجتمعات والأفراد دون تميز حتى للجنس، ذكر أم أنثى، من هنا تم التعاطي مع اليهود في هذا العمل بطريقة واقعية، دون رتوش أو تشويه، فقد كان الكاتب يعطي حقيقة الأحداث الجارية في روسيا القيصرية كما هي، ولا نريد أن نقول عن المغالاة زيادة أم نقصان فيما كتب، فما وصلنا من خلال الرواية سنتناوله بالتحليل والحيادية.
صور اليهودي كثيرة في الجزء الأول من الرواية، حتى أن أحداثها تدور في بلدة (بافليوك) التي يقطنها اليهود مع السكان الأوكران، وقد صورهم الكاتب كجزء حيوي من المجتمع الذي يعاني الأمرين على يد الجماعات المسلحة، من هنا كانت مشاركتهم واضحة في الأحداث.
اوستروفسكي أعطاهم صورة المضطهدين من قبل الجماعات المناهضة للثورة، فقد تعرضوا للنهب والسب والقتل كغيرهم في الحرب الأهلية، وكأن الكاتب يبدي تعاطفا أو انحيازا في ذكر الأعمال التي تعرضوا لها، حتى أن القارئ يشعر بهذا التعاطف والانحياز بشكل واضح، لكن حقيقة الأمر غير ذلك كما سنرى.
تم التطرق لهم في اغلب فصول الرواية، فقد أظهر اضطهادهم بصور عديدة وأشكال متنوعة، فكانوا ككبش فداء، حيث أن كل جماعة مسلحة معارضة للثورة كانت تقوم بسلب ونهب وضرب وقتل اليهود، "... في الليل دخل ناس فلننظر : فإذا نهبوا اليهود فمعنى ذلك أنهم من جماعة بيتليورا، وإذا كانوا "رفاقا" فسنعرفهم من كلامهم" ج1 ص138، هذه إشارة إلى أن اليهود كانوا عرضة للاضطهاد والقمع أكثر من غيرهم، وهذا يدفع بالقارئ إلى التعاطف معهم. ولم يقتصر الأمر على النهب والسلب بل تعدا ذلك إلى القتل "في معمعان معركة مع فصيلة حمراء، رضضت جماعة غولوب أكثر من مرة اقتحام بافليوك البلدة، بدلا من أن تهاجم البلاشفة من المؤخرة، وتغلب على نقاط الحراسة الخفيفة للحمر، ووضع القوة للتمويه والحماية، وأطلق العنان في البلدة لنهب لا مثيل له، وبالطبع، حرص، باعتباره بتليوريا أصيلا، على أن تصيب المجزرة اليهود بشكل خاص" ص145، لقد تم فهم المسألة بشكل اقرب إلى الصواب، هناك جماعات مسلحة تعمل ضد اليهود بشكل خاص، وذلك لهدف كان خافيا على كاتب الرواية اوستروفسكي لكي تبحث عن مخرج آمن ونهائي، طبعا كان المقصود دفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين تحديدا، وهنا إشارة إلى دور جهات كانت تعمل على هذا الأمر بشكل ممنهج، فحالة الاضطهاد التي تعرض لها اليهود كانت اكبر من تلك التي تعرض لها بقية المجتمع الروسي، من هنا جاء اهتمام الكاتب بهذه المسألة تحديدا، فهو ككاتب اشتراكي لم يكن ينحاز لهذا الطرف أو ذاك، وكتب بشكل واقعي ومنسجم مع طبيعية الحدث وحقيقته، فنحن هنا نشير إلى المخطط الذي رسم من قبل الحركة الصهيونية والذي كان يعمل بكافة السبل والوسائل على دفع اليهود للهجرة إلى فلسطين.
فحالة الاضطهاد الكبيرة والمتعددة التي تعرضوا لها جعلتنا نتجه نحو هذا الاستنتاج، ونحيد الكاتب فيما كتب.
مرة أخرى يصف لنا الكاتب حالة السكن التي يعيش فيه اليهود فيقول : "ترامت في البلدة اشاعات عن استباحة تدبر، ووصلت إلى بيوت اليهود الصغيرة الواطئة ذات النوافذ المائلة، القابعة، بطريقة ما، فوق منحدر قذر موصل إلى النهر. في هذه العلب المسماة بيوتا كان فقراء اليهود يعيشون في اكتظاظ غير معقول.
كان المصففون والعمال في المطبعة التي كان سيرغي بروزجاك يعمل فيها منذ سنتين، من اليهود. وقد اندمج معهم سيرغي، وكأنهم ذوو قرباه. والتحم الجميع في عائلة متآلفة ضد صاحب المطبعة اليد بليومشتين المرفه المغتر بنفسه" ج1 ص148 و189، في أماكن اقرب إلى الزريبة منها إلى البيوت، واطئة، نوافذها غير مستقيمة إشارة عن بناءها بطريقة سريعة لقلة الإمكانيات المادية، أو لأسباب الملاحقة والطرد المتكررة التي يتعرضون لها، فأجبروا على البناء بهذا الشكل، لكن سكان هذه البيوت هم كادحون من العمال وفقراء حتى النخاع، من هنا تم اندماجهم وتوحدهم مع الآخرين ضد صاحب المطبعة، وهنا نجد مشاركتهم الفاعلة والحيوية في النضال ضد الاستغلال، فهم جزء من الفقراء الذين يعملون لحصول على حقوقهم.
ردا على هذا الجميل كان لا بد من التعامل مع اليهود كجزء أساسي وحيوي من المجتمع، " ستستباح البلدة، وتلك حقيقة. وسيفتكون باليهود. وأنا أسألك : هل تريد أن تساعد رفاقك في هذه النكبة؟
بالطبع، أريد إذا كان بمقدوري." ج1 ص150، إذن ضمن هذه الأحداث والظروف لم يكن اليهود يعاملون من قبل المجتمع الذي هم فيه إلا معاملة خاصة واستثنائية، كرد على أعمال الاضطهاد والسلب والنهب والقتل التي تعرضوا لها من قبل الجماعات المسلحة.
وها هو الكاتب يذكر لنا كيف أنهم كانوا أكثر من غيرهم عرضة للقمع والقتل " ... انتهز اليهود السكون المؤقت فدفنوا قتلاهم، ودبت الحياة في البيوت الصغيرة في الأحياء اليهودية" ج1 ص162، رسم الحقيقة كما هي والحيادية عامل مهم في تحليل أي عمل، إن كان أدبيا أم تاريخيا أم سياسيا، من هنا ما كان لنا أن نستنتج ما قلناه الجهات التي تدفع باليهود للهجرة من وطنها روسيا إلى فلسطين .
يعود اوستروفسكي إلى الحديث عن حالة الانسجام والفاعلية في المجتمع الروسي فيقول " ... ونسى بافل خصامه مع تونيا في خضم أعمال الاستباحة، حين أخفى بافل والكهربائي عوائل يهودية في محطة الكهربا" ج1 ص174، هنا كان حماية المواطنين اليهود عمل استثنائي أرد بافل والكهربائي من وراءه حماية المواطنين من القتل، وهذا الفعل يدل على الاهتمام باليهود وأيضا على أنهم جزء أساسي من المجتمع الروسي الذي يتواجدون فيه.
وقد عمل المجتمع الروسي على الاهتمام بهم، كعزاء لهم عما نالهم من اعمل غير إنسانية " ...أنت نسيت ماذا فعلون. ألا تعرف كم يهوديا يتيما في المدرسة" ج1 ص183هذه المشاهد تعطينا الكيفية التي عاشها اليهود إبان الثورة البلشفية، فرغم ما تعرضوا له من اضطهاد وقمع كانوا يجدوا الإحسان والرحمة والعطف من قبل المجتمع الذي هم فيه، وإذا أخذنا حالة المجتمع الروسي وما عانى في تلك الفترة الحرب الأهلية من جوع وتشريد وقتل ودمار علمنا حالة الانسجام والتكافل الكامل بين كافة أطياف المجتمع في روسيا.
صورة الأم
الأم دائما كانت تحمل العبء الأثقل والاهم في العائلة، فما بالنا إذا كانت الظروف ظروف حرب، لقد أبدى كتاب الواقعية الاشتراكية اهتمام خاصة بامرأة وخاصة الأم، فقد كتب مكسيم غوركي رواية الأم وأيضا كتب قصة قصير باسم الأم أيضا، وهناك رواية باسم الأم الثانية لأحد الكتاب السوفيت، كتبت بطريقة مباشرة وبحبكة ضعيفة مما افقدها الأهمية الأدبية والفكرية معان وها هو اوسنروفسكي اكتب أيضا عن الأم وما تعاني " هلا بقيت، يا عزيزي بافل؟ يحز في قلبي أن أعيش وحيدة وأنا في شيخوختي، ما أكثر الأبناء، ولكنهم حين يكبرون يتفرقون كل مفرق. ما الذي يجذبك إلى المدينة؟ يمكنك أن تعيش هنا أيضا، أم أنت أيضا وجدت لنفسك سمانة مقصوصة الشعر؟ لا احد يخبرني بشيء، أنا العجوز. تزوج أرتيم دون يخبرني وأنا لا انتظر منك شيئا أهون. أنا لا أراكما إلا عندما تصابان بالعجز" ج2 ص104 و105، يطرح الكاتب مشاعر الأم، وهي هنا تمثل كل الأمهات اللواتي يفتقدن الأبناء في كل زمان ومكان، وليس أم بافل وحسب، فهناك مشاعر جياشة عند الأمهات نحن لا نعرفها، من هنا جاء تذكير الكاتب بهذا الكائن الأهم في حياة الإنسان. فطرح همومها ومشاعرها وفكرها وما تعاني من ضيق وما تحمل من آمل في الحياة بجانب من أعطت، تمثل دعوة لكل الأبناء كي يعودوا إلى أمهاتهم.
وإذا عدنا إلى نهاية الرواية نجد بان الأم كانت تشارك ابنها بافل في تشوقه للموافقة على طباعة قصته " بعد أيام كثيرة حين أصبح الانتظار لا يطاق، صاحت أمه، التي كانت لا تقل قلقا عن ابنها، صاحت وهي تدخل الغرفة: خبر من لينينغرادّ!!!" ج2 ص356، هي حاملة الهم والعبء والمتوحدة مع أولادها في الفرح والحزن في المرض والشفاء في الاعتقال والإفراج،
رائد الحواري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.