كثيراً ما يتحول السؤال البسيط في دنيا الكلمة إلى إشكالية تتجاوز تفاصيلها.. ماذا يُكتب؟.. إلى من يَكتب؟ ولمن يَكتب؟. وعندها تبدأ التساؤلات، والاستفسارات بالانهمار مغريةً بالاستفهام أكثر عمن له الحق في امتلاك ناصية الكتابة، وحجز مساحة مهمة في وسيلة إعلامية جماهيرية والكتابة اليومية أو الأسبوعية فيها. وبنظرة متأملة في صحفنا الورقية والإلكترونية نجد أن أغلب ما يكتب من مقالات وزوايا في مختلف المجالات، و"تفرد" لها مساحات كل صباح لا يستحق ذلك.. وهذه مسألة تحتاج بطبيعة الحال إلى نقاش، على اعتبار أنها أمور نسبية تتباين، وتختلف، وتتمايز حسب وجهة نظر كل قارئ ومتلقٍ، إلا أنها في النهاية تلتقي عند نقطة معينة تفرز الجيد المفيد من الحشو و"صفصفة" الكلام. إن ساحة الكتابة الصحفية الحالية، ومن خلال النوافذ المقالية التي ابتلينا بها في الآونة الأخيرة وبشكل مبالغ فيه، لن تخرج عن ثلاث فئات، أولها، وهو "نادر"، كاتب ملتزم موهوب يحمل قضية ورسالة، يناقش اهتمامات الناس بصدق ساعياً لمعالجة الخلل من خلال المعلومة الصحيحة وتدارك التقصير، متطلعاً لحياة أفضل، لذا يحظى باحترام القراء وثقتهم، وهذا يستحق الإشادة، وله الحق في أن تشرع له أبواب الكتابة، وهناك "الأغلبية"، "الموهوم" الباحث عن "البرستيج" الاجتماعي ممن لا يكل من التنظير والتفلسف من الأعلى، خطير في تأثيره وتسطيحه للقضايا المهمة ووضعها في الهامش، يحول الحرف إلى وسيلة ومصالح يمتطيها، مدعياً النخبوية الثقافية، تملؤه النرجسية والتعالي والخواء الفكري، وتصدمك الذاكرة حين تتجسد أمامك كل كتاباته، فتجده أستاذ "التهريج" بلا منازع.. وهنا لا يسعك إلا أن تنظر إليه بأسى وتصمت داعيا له بالهداية. وهناك نموذج الكاتب "تاجر الشنطة"، وهو في الحقيقة كاتب مفلس يكتب لمن يدفع؛ بضاعته حروف، وحروفه تناقض، يكتب هنا وهناك وبأي شكل ممكن، متخذاً من التمدد أفقياً مداراً يكتب في منحنياته أفكاره الساذجة اجتماعياً ورياضياً وثقافياً مستنداً في استمراريته على علاقته مع مسؤول تحرير أو صحفي، والأهم لديه هو المكافأة آخر الشهر بغض النظر عما قدمه للقراء، أو كيف يراه الآخرون. ولعلنا نتلمس جذور الإشكالية لدى هؤلاء في أنها تكمن وتتمحور فيمن فتح لهم مساحة النشر وجعلهم يتصدرون الصفحات بلا معايير صحفية واضحة، ولا ضوابط مهنية عالية.. فالكثير من نظريات الإعلام الحديث تفترض أن العلاقة المثالية بين كاتب المقال، أياً كان، وبين القارئ الواعي هي صدق الطرح، والمعلومة الدقيقة، وتلمسه لأوضاع الناس اليومية.. لكن يبدو أن بعض "المقالات" في صحافتنا لا تزال تفضل بيع الكلمة، والجملة، والعبارة التي لا تفيد، مما جعل العلاقة بينها وبين القارئ مشوشة وغير مكتملة. ولنا أن نتساءل بعد هذا ما هي المعايير التي تضعها صحفنا لتحكم وتهذب عالم الكتابة المقالية كماً ونوعاً؟ ومتى تريحنا من أساتذة "التهريج" بلا منازع؟