عندما يقدم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة جزءاً ثانياً من كتابه حديث الذاكرة يتحدث فيه من إطار ما بعد التأسيس إلى مرحلة التمكين، فإنه يقدم معنى ورؤية يكتبها على صفحات كتاب، موثقاً مسائل مهمة في صناعة فكر البناء والتنمية . هو أولاً: ذلك المثقف المؤرخ الذي يحمل همّاً ورؤية يريد أن يضعها على الواقع، وفق معطيات ومستجدات وحراك ثقافي واجتماعي وسياسي واقتصادي، يراه ويتأثر به، ويرى أن العمل من خلاله أكثر واقعية، وهو في ذلك واضح غير مجامل ينطلق من واقعه . وثانياً أنه يربي جيلاً من المثقفين يقدم لهم رؤية ذلك الجيل الجميل من مفكري الأمة، الجيل الذي استوعب المستجدات وحافظ على الأصالة، في زمن اضطربت فيه الأفكار واحتيج فيه إلى فكر البناء . وثالثاً أن الوطنية والوحدوية ليستا خياراً ونافلة، بل هما فريضة وكياناً مترسخاً في قيمنا والتزاماً في فكر القيادة والشعب، لذا يأتي الاتحاد في مقدمة الأولويات وبرنامجاً ثم ممارسة وعملاً يومياً ينطلق في أبعاده من الخاص إلى العام، كما يقول سموه في أول مقدمة الكتاب "إن وحدة البلاد مثل وحدة العالم العربي" . ورابعاً أن هذا العمل لا يقدم نموذجاً ومثالاً فحسب لشكل من أشكال دعم أسس الاتحاد، بل أيضاً هو نموذج عملي قصد مؤلفنا أن يضعه أمامنا في الكتاب الأساس العملي لما يمكن أن ينجز على سبيل المثال لا الحصر - فالحصر كثير - وكيف يمكن أن يتوازن الإطار الفكري والسعي العملي معاً لتمكين الاتحاد، إذ لم يكن الاتحاد مجرد شعارات وأمنيات . وخامساً وليس أخيراً أن السعي ما وسعت الحيلة ليس لأثرة فردية وإنما من أجل الأمة بمجموعها العربي المسلم، وأن هذا العمل ليس عملاً سهلاً يخلو من المشاق والعناء بل هو صعب، لكن يمكن تحقيقه بالعمل والمثابرة والعلم والمعرفة والإخلاص للهدف . كما إن الكتاب يترجم لاستراتيجيات في سياسات الشؤون العامة وفكر البناء، ويذهب في اتجاه الثقافة إذ يعدها مشروعاً وأمراً ذا أهمية في التنمية، بل أن المتتبع لفصوله لا يجد حواراً أو زيارة خارجية إلا وكان الحدث الثقافي فيها حاضراً ومؤثراً، هذا فضلاً عن المنجز الثقافي الذي يحقق كيانه وتراكمه، وفي زحمة انشغالات التأسيس والسعي الحثيث من أجل إرساء نهضة في جميع قطاعات المجتمع وفئاته، إذ تفرز الأحداث قرارات مهمة وقواعد أصيلة سواء أكانت في التعامل مع شأن الطفل مثلاً أو المعاق أو حتى في مجالات تتعلق بالمرأة أو الرياضة . كان هناك التقاء وحوار مع المواطن في شأن الوطن بشكل دوري وتعزيز وزيارات واستجابات فورية للمطالب والمستجدات على الساحة المحلية، هذا التواصل الدائم قائم على وشائج المحبة والولاء والبيعة للوطن، من المواطن للحاكم ومن الحاكم التزاماً وخدمة للفكرة الوحدوية وللوطن شعباً وأرضاً، لذا كان من السهل الإحاطة بأمثلة من هذا النوع، وكان من أجملها ما كان يحفظه صاحب السمو عرفاناً ومحبة لزايد يرحمه الله، وعلاقته بالاتحاد وما كان يفعله زايد من أجل شعبه، فالإيمان عندما يخالط عزائم الرجال يصنع دولة نموذجاً، ويضرب دائماً صاحب السمو حاكم الشارقة المثل بهذا النموذج "الدولة" حاضراً ومستقبلاً لكل من يقابله، ويحرص من خلال تماسه مع الأحداث أشد ما يحرص على دماء المسلمين، كما هو حرصه على أرضهم، لا يغيب ذلك عن ذهنه، ولا سيما في مسألتين، المسألة الأولى: كانت في الرد والحوار حول القضايا المهمة كقضية فلسطين، ولاسيما في تصحيح المفاهيم، وكسر حصار اللوبي الصهيوني على الفكر الغربي والأمريكي، والثانية: كانت في إصلاح ذات البين وحقن دماء المسلمين رغم اختلافاتهم التي يعبّر عنها في مجمل زياراته . الكتاب يقرأ في اتجاهين . . اتجاه الماضي، فهو حديث للذاكرة وسرد لأحداث جرت بصيغة الماضي تحمل إضاءات على الفكر والعمل معاً، لكنه أيضاً استشراف للمستقبل ينظر إليه من خلال الاستفادة من التجارب المقدمة .