في الشارع الراقي مبنى شاهق، أسميته ناطحة سحاب، وأسماه الأمريكان – أهل هذه البلاد – مبنى رقم ثمانية خمسة واحد. واجِهته كلها زجاج لامع. في المبنى شقق كلها عيادات. أتيت هنا لكي أتعالج لدى طبيب أخصائي باطنية وغدد، بناءً على مشورة أحد أصدقائي المقربين المثقفين في اليمن. استعرض صديقي أمامي في (جوجل) تاريخ هذا الطبيب البروفيسور. رأيت كم من جوائز فاز بها، والمؤتمرات التي شارك فيها.. كم المرضى الذين شفاهم الله على يده، وشهدوا له.. قرأت لهم رسائل شكر وامتنان. أقنعني صديقي أن أحِد من بخلي، وأخصص مبلغاً كبيراً، وأنذره لعلاجي، بدلاً من صرف قليلٍ في مصر، قليلٍ في الأردن، قليلٍ في لبنان، دون فائدة! فأنا فعلاً رجل ثري، وما رزقني الله المال لكي أكنزه. قصدت أميركا للعلاج داعياً الله أن يمن علي بالعافية، مثلما من علي بالبنين والمال. في هذا الشارع أناس راقيون جداً. مبتسمي الوجوه، ثيابهم قطنية، مسرعي الخطى، متجهين لوظائفهم.. رأس مالهم وقتهم وضمائرهم. في الشارع ضجيج.. أصوات موسيقى تنبعث من إعلانات كهربائية.. أصوات السيارات تنطلق بشكل جماعي منظم. في بلادي اسفلت مكسر.. زمور سيارات الأجرة الصاخب.. سباب علني، وشرطي محطم. أما هذا الرقي الذي أراه في هذه اللحظة، فأنا لا أنتمي إليه.. أنا أنتمي إلى اليمن السعيدة، الخضراء. كدت أجهش بالبكاء لأنني لم أشعر تجاه هذا الرقي بأي انتماء. منذ سنين وأنا أتعايش مع مرضي هذا. عولجت لدى أطباء عدة، فلم ينفعني أحد. أجريت جميع الفحوصات، فلم تظهر بأنني أعاني من أي اختلال أو داء. فلا طبيب شفاني، ولا أزاح عن صدري تنهيدته أي دواء مرضي هو الشعور المفرط والمستميت بالعطش. أشرب كأنني لم أشرب منذ مولدي.. لا، بل منذ الأزل أشرب بلا ارتواء.. أشرب كميات مهولة من السوائل: ماء، عصائر، مشروبات ساخنة، مشروبات غازية.. غير أنني أظل عِطش. في حلقي عطش يشقق حنجرتي.. أتحرق شوقا للشرب من كف حلمي. الله كم ستكون لذيذة و هنية.. تخيل نفسك تشرب ماء ساقية من يد وطنك.. كذلك في صدري عطش ليوم، يكون فيه مفتوحاً للحياة ولجميع الأفكار.. لا يقصي أحداً، لا يشنق أحداً، لا يسجن أحداً، لا يكفر أحداً، ولا يتاجر بأحد.. في قلبي عطش لحب وطن، حب صافي زلال، لا يشوبه عمالة، ولا يستهدف لا منصب، ولا صندوق انتخابات.. في جبيني عطش ليوم لا ينحني فيه لأحد، ولا يطأطئ من قهر أو كبد.. في عيني عطش شديد لرؤية اليمن التي نريد، كما نهواها نحن، لا كما يمثل بها الهمج. تلك اليمن الجميلة الغالية الساحرة، لا اليمن المتسولة، ولا اليمن الغانية. في دمي عطش لأن يكون أرخص من اليمن.. في ظهري عطش لعمر، لا أحمل فوق ظهري فيه حمولات أثقل من وزني، من هموم الوطن.. ظهر، يقف قويا صلبا، ليس بحاجة لمساندة أحد.. في جلدي عطش للحظة، أتدهن فيها بزهوي بالوطن.. أتعطر بطيب الوطن.. في فمي عطش لقبلة، أطبعها بولاء فوق جبين الوطن.. في لساني عطش أن أقول و أقول، الحق ولا غيره، وأجرم كل مذنب.. أن أقول للصوص أنتم لصوص، فاسدون.. للمتاجرين بالدين، نحن شعب مسلم منذ عصر الرسول، أفلا تستحون؟ أنتم يا أبالسة في قائمة تحدياتنا أولى المحن.. لسان لا يهاب ولا ينزوي و لا ينطق بغير الحق من أجل اليمن.. في كرامتي عطش، أن أفتخر يوما ببلدي اليمن.. ليس افتخاراً بأروى، ولا بحمير، ولا ببلقيس، ولا بسبأ؛ بل افتخار باليوم الذي نحياه.. في طموحي عطش، لأن تعرف الدنيا، كل الدنيا، عن بلدي اليمن شيئاً غير شجرة القات، وعصابة الفاسدين. باختصار، أنا كلي، و كياني كله عطش.. فأي مشروب، أو دواء، أو حقن، تحتمل أن ترويني؟ قبل أن أدخل للطبيب، نادتني ممرضة حلوة العينين والابتسامة.. سألتني عن اسمي، عمري، عملي، تاريخ مرضي وعنواني. أخرجت لها كرت الفندق حيث العنوان. تذكرت العناوين في اليمن.. للشارع أكثر من إسم، و للإسم أكثر من شارع.. عناويننا غوغاء وفوضى. حكوماتنا، على اختلافها، عجزت عن تسمية شارع، لكنها في أمور المال حاوي بارع.. عندما نريد مكاناً بعينه، فإننا نؤشر لبعضنا البعض إما ببقالة، أو صندوق قمامة، أو نقطة براز يبست أسقطتها حمامة.. دخلت عند الطبيب.. هالني الوقار والهيبة التي تحيط به، وتذكرت أطبائنا. الجيدون منهم لا يتجاوزون أصابع الكف، والبقية العظمى يخزنون في بيوتهم ثم يأتون، كأنهم بدون القات لا يكون الطب و لا هم يكونون.. ما علينا.. أتيت لتلقي العلاج لا لنكأ الجروح. الطبيب نحيل وعروقه ظاهرة.. قدرت عمره في أواخر الستينات، أو أوائل السبعينات. أقرانه في بلدي ينتظرون الأجل في الزوايا، أو يترقبون فوق الأرفف.. كتب لي مجموعة تحاليل.. صعدت إلى الدور ال12 حيث المختبر.. وجدت أناساً ينتظرون دورهم.. ما جلست، حتى نادوني.. أجريت فحوصاتي كاملة.. تأملتهم بإعجاب ومحبة وتقدير. إنهم مخلصون في العمل. لولا كونهم مسيحيين، لقلت هكذا يكون المسلمون. لست أدري لماذا كانت تهاجمني ذكريات اليمن، فتعضني عضاً مؤلماً، فأغمض عيني وأصمت. هي سحابة سوداء منقبة، فتحمل يا وطني، فسوف تمطر. تذكرت مطبات بلادي.. تذكرت كهرباء بلادي.. تذكرت قطط شوارع بلادي.. تذكرت متسولة، هي في الأصل لاجئة سورية.. واللاجئة السورية هي في الأصل مواطنة سورية.. تذكرت خدوداً منفوخة.. تذكرت مجتمعات مخملية ورموشاً صناعية.. تذكرت أطفالاً يشحذون، وآخرين يلعبون.. تذكرت صبر أيوب الذي يدور في الشوارع، بعدما لمس صبرنا باحثا عن أيوبه. أنا لا أحسد الناس على أوطانهم، لكنني أندب وأتحسر على وطني.. أين هم ناسه؟ أخذت نتائج فحوصاتي، وأنزلتها للطبيب.. تفحصها بتعجب.. رفع حاجبه المترهل، ومط شفتيه المكرمشتان قائلاً: – "فحوصاتك مثالية.. لا أجد أي مرض!" سمعته باستجداء.. قلت: – "فما عطشي العظيم إذن؟!" أجاب: – "هناك الجانب النفسي الذي من الصواب عدم إغفاله الآن.. تحرجت من كلامه، كعادتنا عند ذكر المرض النفسي. سألني: – "هل تفضل اختيار المترجم بنفسك، أم يختاره لك الطبيب؟" صعقت متسائلاً: – "مترجم..؟! لا،لا.. أنا متمكن من قول ما أريد بدون مترجم." أجاب الطبيب: -"لكن هذا أثبت فشله، حيث تصبح الترجمة وانتقاء الكلمات هي هاجس المريض، بدلاً من السرد وبث الشكوى.. لكن لا بأس، اتفق أنت والطبيب كيف ما تشاء." ذهبت إلى الطبيب غير مقتنع بجدوى الزيارة، وما قصدته إلا من باب أنني بعد عودتي لا أندم أنني لم أفعل، أو أقول يا خسارة. طبيب نفسي أمريكي، ما أدراه بهمومي..؟وإن شرحت له، لن يحس بوجعي.. شردت والطبيب أمامي.. لست أدري، هل شردت طويلاً، أم لبرهة فقط. تذكرت كم من النفوس تمرض في بلادي.. عدد النفوس التي تمرض، أكثر من عدد الأبدان التي تمرض، ومع ذلك تداري عائلة المريض سوءة نفسه بتراب الإخفاء والإهمال والإقصاء. بعد ثلاثة أيام ذهبت إلى الطبيب النفسي. وافق الطبيب على أن أتحدث عن نفسي، غير أنه أبلغني أنه سيُحضر مترجم، إذا لمس عدم استرخائي في الحديث. طلب مني أن أستلقي على سرير، منطقة الظهر فيه مثنية إلى الأمام. كان الطبيب أخضر العينين، في أول الأربعين.. وسيم الملامح، محمر الخدين والجبين.. قاتلهم الله، كم يشربون الخمر..لكن ما شأني أنا..؟هذا شأنه هو.. ومن يدري، لعله يفعل من الخير ما يفوق ما أعمل.. دع الخلق للخالق.. سألني عن جنسيتي.. وبمجرد ذكر اسم اليمن، سألني مبتسماً: – "هل لا تزال اليمن متخاصمة مع جارتها السعودية؟" فوجئت بثقافته واتساع معرفته. أجبته أن الخصومة بين اليمن و السعودية قد تلاشت، تحرجاً مني أمام الأجنبي، أن نكشف نحن المسلمين عن عوراتنا. أحرجني هو بقوله: -"شاهدت مؤخراً صورة في (الإنترنت) لخمسة من اليمنيين، شنقتهم السلطات السعودية فوق حبل مربوط من عمود كهرباء إلى عمود كهرباء." انعقد لساني. رفعت كتفي لا ألوي. أهذا الطبيب أمن سياسي أم ماله يعرف كل شيء؟ ما كان ينقصني لأغادر عيادته هو أن يسألني، ماذا فعلت حكومتكم تجاه هذا الحادث اللآدمي؟ شربت ماءً كثيراً.. ربما 3 قوارير، وهو يلحظني بصمت وتحليل. طلب مني أن أستلقي، وأبث إليه كل ما يضايقني في هذه الدنيا. جدران عيادته سماوية.. سمعت موسيقى هادئة.. جو يساعد على الاسترخاء، والاسترسال في بث الشكوى.. تمنيت أن يأتي كل شعبي إليه. بدأ الطبيب النفسي كلامه معي بسؤال هيج كل شجوني: -"هل تشعر بالحزن؟" أجبت بصوت خفيض: -"طبعا.. كثيراً." أضاف: -"ويوجد في حياتك كبوات، إحباط وخيبة أمل كبيرة؟" قلت: -"باستمرار." سألني: -"فماذا تفعل للتخلص من هذا الشعور السلبي؟" ذكرني سؤاله بكونه أمريكي الجنسية، فأجبت موضحاً: – "لا شيء.. نحن أمة لا تفعل شيئاً.. فقط نتعايش مع الوضع المفروض علينا." رأيته يتأمل تقلصات وجهي اللإرادية.. سألني: – "إذاً حزنك حزن عام.. فماذا عن حياتك الشخصية؟ أسرتك؟ شخصك؟" أشرت بيدي بحركة تدل أن الحزن شامل للجميع. طلب مني أن أحكي بإسهاب. أبلغني أنه لن يسأل أي أسئلة و لن يقاطع. أغمضت عيني آخذاً نفساً طويلاً. قلت: - "تتعبني علاقتي ببلدي. أحبها ولا أستطيع من أجلها شيئا. لا أستطيع لها نفعا.. ولا ضراً استطعت أن أكفه عنها. أرحمها، وأتحسر عليها. فاشلة في كل الميادين. هي الأخيرة، حتى في الحروف الأبجدية. إذا تكلمت عن المناهج التي تدرسها الأجيال، فمناهج في منتهى السطحية والملل. تفاهة لم تجيء اعتباطا، ولكنها لهدف. طلابنا يغشون في الامتحانات. المنح تذهب لأولاد المسؤولين. إذا تكلمت عن الطب، فالأطباء الجيدين لدينا معدودين، والأغلبية العظمى مركبات إهمال متحركة. فإذا قتل الطبيب مريضاً، بسبب جهله وإهماله، وصاح أهله حزناً وهلعاً، قال لهم أمر الله، أتكفرون..؟ يأتون إلى عياداتهم مخزنين، كأنما بدون القات لا يكون الطب طباً، ولا هم يكونون..شوارعنا مكسرة، طعامنا مسرطن، بناتنا لا يشعرن بالطمأنينة، نساؤنا مضطهدات حتى النخاع ورجالنا أسرى شباك عنكبوت القات.. توقفت للحظة لكي أشرح له ما هو القات، فأشار بيده أن لا أتوقف، موضحاً أنه قد قرأ في (جوجل) عن القات، وأنه ورق أخضر مخدر، يسميه اليمنيون منبه. طلب مني أن أواصل. تنهدت وشربت 8 قوارير من الماء.. لم أرتوِ. واصلت: – "الأسعار مرتفعه، دخلنا ضئيل.. لدينا قبائل يهشمون القانون، ويمصون عظامه حتى الرمق الأخير.. يقتلون أبناءنا في الشوارع بلا ذنب.. يكسرون إشارات مرورنا.. إذا مروا بمواكبهم ورجالهم المدججين بالسلاح، أخافونا، فنقف على جانبي الشارع حتى يمرون؛ فلابد أن يتقدمونا توقفت عن السرد لأن العبرة خنقتني. يقولون الرجال لا تبكي. بل الرجال تبكي؛ أليس لهم قلوب تحزن؟قمت من وضعي المستلقي.. طلبت من الطبيب أن يأذن لي أن أدعي عليهم هنا في أمريكا. فأشار بيده أن تفضل. فهتفت: – "يا رب يا كريم يا جبار يا منتقم يا مذل، أن افنِهم، ولا تُبقِ منهم أحدا، إنك لا يعجزك أحد. اللهم اجعل كيدهم علينا في صدورهم.. تجبرهم علينا يُرد في أبنائهم.. إجرامهم اجعله في أهلهم. شرهم وإفسادهم في عافيتهم.. سمعت الطبيب يقول آمين.. عندما سألته، قال لي أنني توهمت، وأنه لم ينطق أصلاً. طلب مني أن أواصل. فشربت قارورتين من الماء، واستلقيت مرة أخرى قائلاً: -"كذلك أصحاب اللحى أتعبوا قلوبنا. يسمون أنفسهم مسلمين.. ونحن؟ ألسنا مثلهم مسلمين؟ يدعون أنهم يسعون للإصلاح، فهل بقية الشعب يهدف للإفساد؟ نحن الشعب نصلي، نصوم، نزكي، نصبر، ندعو الله ونحبه ونعمل.. نحن شعب مسلم منذ الأزل. لماذا يدعون أن دينهم أكثر؟ هل وزنوا ديننا ودينهم، فوجدوا أن كفتهم أثقل؟ لماذا يكذبون أنهم إلى الله أقرب؟ هل قاسوا المسافات بين الخلق وخالقهم، فوجدوا أننا خلفهم بأميال؟لماذا يتفلسفون أنهم الأدرى بالشريعة والسنة، فهل وجدونا لدى عتبة بابهم مستشرقين؟ أم ترى ثقافتنا فرنسية؟ توقفت لأشرب قارورة ماء: – "يا سيدي الطبيب، بيننا وبين يمننا الذي نحلم به مسافات طويلة. سأموت أنا، وسيموت ولدي. لن يرى أيا منا الحلم يتحقق في بلدي." رأيت عيني الطبيب غارقتين في دموع، سرعان ما فاضت، و سال منها دمع، مسحه بمنديل. يا الله! أبكيت الطبيب الأمريكي، ولم ترحمنا حكومة بلدي. عندما جلست أمام مكتبه، قرأت اسم الطبيب "د. مراد العاصي". إذاً الطبيب إما سوري، فلسطيني أو لبناني. ربت على كتفي.. قال لي و أنا أغادر: – "مرضك مزمن، فتأقلم معه حتى يأذن الله. كتبت لك دواءً يعينك على البقاء.. إنها أقراص أماني. في الشارع الراقي مبنى شاهق، أسميته ناطحة سحاب، وأسماه الأمريكان – أهل هذه البلاد – مبنى رقم ثمانية خمسة واحد. واجِهته كلها زجاج لامع. في المبنى شقق كلها عيادات. أتيت هنا لكي أتعالج لدى طبيب أخصائي باطنية وغدد، بناءً على مشورة أحد أصدقائي المقربين المثقفين في اليمن. استعرض صديقي أمامي في (جوجل) تاريخ هذا الطبيب البروفيسور. رأيت كم من جوائز فاز بها، والمؤتمرات التي شارك فيها.. كم المرضى الذين شفاهم الله على يده، وشهدوا له.. قرأت لهم رسائل شكر وامتنان. أقنعني صديقي أن أحِد من بخلي، وأخصص مبلغاً كبيراً، وأنذره لعلاجي، بدلاً من صرف قليلٍ في مصر، قليلٍ في الأردن، قليلٍ في لبنان، دون فائدة! فأنا فعلاً رجل ثري، وما رزقني الله المال لكي أكنزه. قصدت أميركا للعلاج داعياً الله أن يمن علي بالعافية، مثلما من علي بالبنين والمال. في هذا الشارع أناس راقيون جداً. مبتسمي الوجوه، ثيابهم قطنية، مسرعي الخطى، متجهين لوظائفهم.. رأس مالهم وقتهم وضمائرهم. في الشارع ضجيج.. أصوات موسيقى تنبعث من إعلانات كهربائية.. أصوات السيارات تنطلق بشكل جماعي منظم. في بلادي اسفلت مكسر.. زمور سيارات الأجرة الصاخب.. سباب علني، وشرطي محطم. أما هذا الرقي الذي أراه في هذه اللحظة، فأنا لا أنتمي إليه.. أنا أنتمي إلى اليمن السعيدة، الخضراء. كدت أجهش بالبكاء لأنني لم أشعر تجاه هذا الرقي بأي انتماء. منذ سنين وأنا أتعايش مع مرضي هذا. عولجت لدى أطباء عدة، فلم ينفعني أحد. أجريت جميع الفحوصات، فلم تظهر بأنني أعاني من أي اختلال أو داء. فلا طبيب شفاني، ولا أزاح عن صدري تنهيدته أي دواء مرضي هو الشعور المفرط والمستميت بالعطش. أشرب كأنني لم أشرب منذ مولدي.. لا، بل منذ الأزل أشرب بلا ارتواء.. أشرب كميات مهولة من السوائل: ماء، عصائر، مشروبات ساخنة، مشروبات غازية.. غير أنني أظل عِطش. في حلقي عطش يشقق حنجرتي.. أتحرق شوقا للشرب من كف حلمي. الله كم ستكون لذيذة و هنية.. تخيل نفسك تشرب ماء ساقية من يد وطنك.. كذلك في صدري عطش ليوم، يكون فيه مفتوحاً للحياة ولجميع الأفكار.. لا يقصي أحداً، لا يشنق أحداً، لا يسجن أحداً، لا يكفر أحداً، ولا يتاجر بأحد.. في قلبي عطش لحب وطن، حب صافي زلال، لا يشوبه عمالة، ولا يستهدف لا منصب، ولا صندوق انتخابات.. في جبيني عطش ليوم لا ينحني فيه لأحد، ولا يطأطئ من قهر أو كبد.. في عيني عطش شديد لرؤية اليمن التي نريد، كما نهواها نحن، لا كما يمثل بها الهمج. تلك اليمن الجميلة الغالية الساحرة، لا اليمن المتسولة، ولا اليمن الغانية. في دمي عطش لأن يكون أرخص من اليمن.. في ظهري عطش لعمر، لا أحمل فوق ظهري فيه حمولات أثقل من وزني، من هموم الوطن.. ظهر، يقف قويا صلبا، ليس بحاجة لمساندة أحد.. في جلدي عطش للحظة، أتدهن فيها بزهوي بالوطن.. أتعطر بطيب الوطن.. في فمي عطش لقبلة، أطبعها بولاء فوق جبين الوطن.. في لساني عطش أن أقول و أقول، الحق ولا غيره، وأجرم كل مذنب.. أن أقول للصوص أنتم لصوص، فاسدون.. للمتاجرين بالدين، نحن شعب مسلم منذ عصر الرسول، أفلا تستحون؟ أنتم يا أبالسة في قائمة تحدياتنا أولى المحن.. لسان لا يهاب ولا ينزوي و لا ينطق بغير الحق من أجل اليمن.. في كرامتي عطش، أن أفتخر يوما ببلدي اليمن.. ليس افتخاراً بأروى، ولا بحمير، ولا ببلقيس، ولا بسبأ؛ بل افتخار باليوم الذي نحياه.. في طموحي عطش، لأن تعرف الدنيا، كل الدنيا، عن بلدي اليمن شيئاً غير شجرة القات، وعصابة الفاسدين. باختصار، أنا كلي، و كياني كله عطش.. فأي مشروب، أو دواء، أو حقن، تحتمل أن ترويني؟ قبل أن أدخل للطبيب، نادتني ممرضة حلوة العينين والابتسامة.. سألتني عن اسمي، عمري، عملي، تاريخ مرضي وعنواني. أخرجت لها كرت الفندق حيث العنوان. تذكرت العناوين في اليمن.. للشارع أكثر من إسم، و للإسم أكثر من شارع.. عناويننا غوغاء وفوضى. حكوماتنا، على اختلافها، عجزت عن تسمية شارع، لكنها في أمور المال حاوي بارع.. عندما نريد مكاناً بعينه، فإننا نؤشر لبعضنا البعض إما ببقالة، أو صندوق قمامة، أو نقطة براز يبست أسقطتها حمامة.. دخلت عند الطبيب.. هالني الوقار والهيبة التي تحيط به، وتذكرت أطبائنا. الجيدون منهم لا يتجاوزون أصابع الكف، والبقية العظمى يخزنون في بيوتهم ثم يأتون، كأنهم بدون القات لا يكون الطب و لا هم يكونون.. ما علينا.. أتيت لتلقي العلاج لا لنكأ الجروح. الطبيب نحيل وعروقه ظاهرة.. قدرت عمره في أواخر الستينات، أو أوائل السبعينات. أقرانه في بلدي ينتظرون الأجل في الزوايا، أو يترقبون فوق الأرفف.. كتب لي مجموعة تحاليل.. صعدت إلى الدور ال12 حيث المختبر.. وجدت أناساً ينتظرون دورهم.. ما جلست، حتى نادوني.. أجريت فحوصاتي كاملة.. تأملتهم بإعجاب ومحبة وتقدير. إنهم مخلصون في العمل. لولا كونهم مسيحيين، لقلت هكذا يكون المسلمون. لست أدري لماذا كانت تهاجمني ذكريات اليمن، فتعضني عضاً مؤلماً، فأغمض عيني وأصمت. هي سحابة سوداء منقبة، فتحمل يا وطني، فسوف تمطر. تذكرت مطبات بلادي.. تذكرت كهرباء بلادي.. تذكرت قطط شوارع بلادي.. تذكرت متسولة، هي في الأصل لاجئة سورية.. واللاجئة السورية هي في الأصل مواطنة سورية.. تذكرت خدوداً منفوخة.. تذكرت مجتمعات مخملية ورموشاً صناعية.. تذكرت أطفالاً يشحذون، وآخرين يلعبون.. تذكرت صبر أيوب الذي يدور في الشوارع، بعدما لمس صبرنا باحثا عن أيوبه. أنا لا أحسد الناس على أوطانهم، لكنني أندب وأتحسر على وطني.. أين هم ناسه؟ أخذت نتائج فحوصاتي، وأنزلتها للطبيب.. تفحصها بتعجب.. رفع حاجبه المترهل، ومط شفتيه المكرمشتان قائلاً: – "فحوصاتك مثالية.. لا أجد أي مرض!" سمعته باستجداء.. قلت: – "فما عطشي العظيم إذن؟!" أجاب: – "هناك الجانب النفسي الذي من الصواب عدم إغفاله الآن.. تحرجت من كلامه، كعادتنا عند ذكر المرض النفسي. سألني: – "هل تفضل اختيار المترجم بنفسك، أم يختاره لك الطبيب؟" صعقت متسائلاً: – "مترجم..؟! لا،لا.. أنا متمكن من قول ما أريد بدون مترجم." أجاب الطبيب: -"لكن هذا أثبت فشله، حيث تصبح الترجمة وانتقاء الكلمات هي هاجس المريض، بدلاً من السرد وبث الشكوى.. لكن لا بأس، اتفق أنت والطبيب كيف ما تشاء." ذهبت إلى الطبيب غير مقتنع بجدوى الزيارة، وما قصدته إلا من باب أنني بعد عودتي لا أندم أنني لم أفعل، أو أقول يا خسارة. طبيب نفسي أمريكي، ما أدراه بهمومي..؟وإن شرحت له، لن يحس بوجعي.. شردت والطبيب أمامي.. لست أدري، هل شردت طويلاً، أم لبرهة فقط. تذكرت كم من النفوس تمرض في بلادي.. عدد النفوس التي تمرض، أكثر من عدد الأبدان التي تمرض، ومع ذلك تداري عائلة المريض سوءة نفسه بتراب الإخفاء والإهمال والإقصاء. بعد ثلاثة أيام ذهبت إلى الطبيب النفسي. وافق الطبيب على أن أتحدث عن نفسي، غير أنه أبلغني أنه سيُحضر مترجم، إذا لمس عدم استرخائي في الحديث. طلب مني أن أستلقي على سرير، منطقة الظهر فيه مثنية إلى الأمام. كان الطبيب أخضر العينين، في أول الأربعين.. وسيم الملامح، محمر الخدين والجبين.. قاتلهم الله، كم يشربون الخمر..لكن ما شأني أنا..؟هذا شأنه هو.. ومن يدري، لعله يفعل من الخير ما يفوق ما أعمل.. دع الخلق للخالق.. سألني عن جنسيتي.. وبمجرد ذكر اسم اليمن، سألني مبتسماً: – "هل لا تزال اليمن متخاصمة مع جارتها السعودية؟" فوجئت بثقافته واتساع معرفته. أجبته أن الخصومة بين اليمن و السعودية قد تلاشت، تحرجاً مني أمام الأجنبي، أن نكشف نحن المسلمين عن عوراتنا. أحرجني هو بقوله: -"شاهدت مؤخراً صورة في (الإنترنت) لخمسة من اليمنيين، شنقتهم السلطات السعودية فوق حبل مربوط من عمود كهرباء إلى عمود كهرباء." انعقد لساني. رفعت كتفي لا ألوي. أهذا الطبيب أمن سياسي أم ماله يعرف كل شيء؟ ما كان ينقصني لأغادر عيادته هو أن يسألني، ماذا فعلت حكومتكم تجاه هذا الحادث اللآدمي؟ شربت ماءً كثيراً.. ربما 3 قوارير، وهو يلحظني بصمت وتحليل. طلب مني أن أستلقي، وأبث إليه كل ما يضايقني في هذه الدنيا. جدران عيادته سماوية.. سمعت موسيقى هادئة.. جو يساعد على الاسترخاء، والاسترسال في بث الشكوى.. تمنيت أن يأتي كل شعبي إليه. بدأ الطبيب النفسي كلامه معي بسؤال هيج كل شجوني: -"هل تشعر بالحزن؟" أجبت بصوت خفيض: -"طبعا.. كثيراً." أضاف: -"ويوجد في حياتك كبوات، إحباط وخيبة أمل كبيرة؟" قلت: -"باستمرار." سألني: -"فماذا تفعل للتخلص من هذا الشعور السلبي؟" ذكرني سؤاله بكونه أمريكي الجنسية، فأجبت موضحاً: – "لا شيء.. نحن أمة لا تفعل شيئاً.. فقط نتعايش مع الوضع المفروض علينا." رأيته يتأمل تقلصات وجهي اللإرادية.. سألني: – "إذاً حزنك حزن عام.. فماذا عن حياتك الشخصية؟ أسرتك؟ شخصك؟" أشرت بيدي بحركة تدل أن الحزن شامل للجميع. طلب مني أن أحكي بإسهاب. أبلغني أنه لن يسأل أي أسئلة و لن يقاطع. أغمضت عيني آخذاً نفساً طويلاً. قلت: - "تتعبني علاقتي ببلدي. أحبها ولا أستطيع من أجلها شيئا. لا أستطيع لها نفعا.. ولا ضراً استطعت أن أكفه عنها. أرحمها، وأتحسر عليها. فاشلة في كل الميادين. هي الأخيرة، حتى في الحروف الأبجدية. إذا تكلمت عن المناهج التي تدرسها الأجيال، فمناهج في منتهى السطحية والملل. تفاهة لم تجيء اعتباطا، ولكنها لهدف. طلابنا يغشون في الامتحانات. المنح تذهب لأولاد المسؤولين. إذا تكلمت عن الطب، فالأطباء الجيدين لدينا معدودين، والأغلبية العظمى مركبات إهمال متحركة. فإذا قتل الطبيب مريضاً، بسبب جهله وإهماله، وصاح أهله حزناً وهلعاً، قال لهم أمر الله، أتكفرون..؟ يأتون إلى عياداتهم مخزنين، كأنما بدون القات لا يكون الطب طباً، ولا هم يكونون..شوارعنا مكسرة، طعامنا مسرطن، بناتنا لا يشعرن بالطمأنينة، نساؤنا مضطهدات حتى النخاع ورجالنا أسرى شباك عنكبوت القات.. توقفت للحظة لكي أشرح له ما هو القات، فأشار بيده أن لا أتوقف، موضحاً أنه قد قرأ في (جوجل) عن القات، وأنه ورق أخضر مخدر، يسميه اليمنيون منبه. طلب مني أن أواصل. تنهدت وشربت 8 قوارير من الماء.. لم أرتوِ. واصلت: – "الأسعار مرتفعه، دخلنا ضئيل.. لدينا قبائل يهشمون القانون، ويمصون عظامه حتى الرمق الأخير.. يقتلون أبناءنا في الشوارع بلا ذنب.. يكسرون إشارات مرورنا.. إذا مروا بمواكبهم ورجالهم المدججين بالسلاح، أخافونا، فنقف على جانبي الشارع حتى يمرون؛ فلابد أن يتقدمونا توقفت عن السرد لأن العبرة خنقتني. يقولون الرجال لا تبكي. بل الرجال تبكي؛ أليس لهم قلوب تحزن؟قمت من وضعي المستلقي.. طلبت من الطبيب أن يأذن لي أن أدعي عليهم هنا في أمريكا. فأشار بيده أن تفضل. فهتفت: – "يا رب يا كريم يا جبار يا منتقم يا مذل، أن افنِهم، ولا تُبقِ منهم أحدا، إنك لا يعجزك أحد. اللهم اجعل كيدهم علينا في صدورهم.. تجبرهم علينا يُرد في أبنائهم.. إجرامهم اجعله في أهلهم. شرهم وإفسادهم في عافيتهم.. سمعت الطبيب يقول آمين.. عندما سألته، قال لي أنني توهمت، وأنه لم ينطق أصلاً. طلب مني أن أواصل. فشربت قارورتين من الماء، واستلقيت مرة أخرى قائلاً: -"كذلك أصحاب اللحى أتعبوا قلوبنا. يسمون أنفسهم مسلمين.. ونحن؟ ألسنا مثلهم مسلمين؟ يدعون أنهم يسعون للإصلاح، فهل بقية الشعب يهدف للإفساد؟ نحن الشعب نصلي، نصوم، نزكي، نصبر، ندعو الله ونحبه ونعمل.. نحن شعب مسلم منذ الأزل. لماذا يدعون أن دينهم أكثر؟ هل وزنوا ديننا ودينهم، فوجدوا أن كفتهم أثقل؟ لماذا يكذبون أنهم إلى الله أقرب؟ هل قاسوا المسافات بين الخلق وخالقهم، فوجدوا أننا خلفهم بأميال؟لماذا يتفلسفون أنهم الأدرى بالشريعة والسنة، فهل وجدونا لدى عتبة بابهم مستشرقين؟ أم ترى ثقافتنا فرنسية؟ توقفت لأشرب قارورة ماء: – "يا سيدي الطبيب، بيننا وبين يمننا الذي نحلم به مسافات طويلة. سأموت أنا، وسيموت ولدي. لن يرى أيا منا الحلم يتحقق في بلدي." رأيت عيني الطبيب غارقتين في دموع، سرعان ما فاضت، و سال منها دمع، مسحه بمنديل. يا الله! أبكيت الطبيب الأمريكي، ولم ترحمنا حكومة بلدي. عندما جلست أمام مكتبه، قرأت اسم الطبيب "د. مراد العاصي". إذاً الطبيب إما سوري، فلسطيني أو لبناني. ربت على كتفي.. قال لي و أنا أغادر: – "مرضك مزمن، فتأقلم معه حتى يأذن الله. كتبت لك دواءً يعينك على البقاء.. إنها أقراص أماني.