أبين.. مقتل شاب بانفجار عبوة ناسفة في لودر    مكتب الصناعة بشبوة يغلق ثلاث شركات كبرى ويؤكد لا أحد فوق القانون "وثيقة"    مصرع 54 مهاجرا افريقيا وفقدان العشرات قبالة سواحل ابين    انصار الله يستنكر انتهاك المجرم بن غفير للمسجد الاقصى    اتحاد إب يظفر بنقطة ثمينة من أمام أهلي تعز في بطولة بيسان    الرئيس المشاط يعزّي مدير أمن الأمانة اللواء معمر هراش في وفاة والده    من بائعة لحوح في صنعاء إلى أم لطبيب قلب في لندن    عدن وتريم.. مدينتان بروح واحدة ومعاناة واحدة    عدن.. البنك المركزي يوقف ويسحب تراخيص منشآت وشركات صرافة    المعتقل السابق مانع سليمان يكشف عن تعذيب وانتهاكات جسيمة تعرض لها في سجون مأرب    بتوجيهات الرئيس الزُبيدي .. انتقالي العاصمة عدن يُڪرِّم أوائل طلبة الثانوية العامة في العاصمة    الشخصية الرياضية والإجتماعية "علوي بامزاحم" .. رئيسا للعروبة    ابوعبيدة يوافق على ادخال طعام للاسرى الصهاينة بشروط!    اجتماع يقر تسعيرة جديدة للخدمات الطبية ويوجه بتخفيض أسعار الأدوية    اجتماع للجنتي الدفاع والأمن والخدمات مع ممثلي الجانب الحكومي    الاتحاد الرياضي للشركات يناقش خطته وبرنامجه للفترة القادمة    وفاة مواطن بصاعقة رعدية في مديرية بني قيس بحجة    بدلا من التحقيق في الفساد الذي كشفته الوثائق .. إحالة موظفة في هيئة المواصفات بصنعاء إلى التحقيق    من يومياتي في أمريكا .. تعلموا من هذا الإنسان    إصابة ميسي تربك حسابات إنتر ميامي    الهيئة العليا للأدوية تصدر تعميماً يلزم الشركات بخفض أسعار الدواء والمستلزمات الطبية    مونديال السباحة.. الجوادي يُتوّج بالذهبية الثانية    مجلس القضاء الأعلى يشيد بدعم الرئيس الزُبيدي والنائب المحرمي للسلطة القضائية    تدشين فعاليات إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف في محافظة الحديدة    انتشال جثة طفل من خزان مياه في العاصمة صنعاء    وكالة الطاقة تتوقع ارتفاع الطلب العالمي على الكهرباء    قيادة اللجان المجتمعية بالمحافظة ومدير عام دارسعد يعقدون لقاء موسع موسع لرؤساء المراكز والأحياء بالمديرية    هناك معلومات غريبيه لاجل صحتناء لابد من التعرف والاطلاع عليها    العسكرية الثانية بالمكلا تؤكد دعمها للحقوق المشروعة وتتوعد المخربين    تشلسي يعرض نصف لاعبيه تقريبا للبيع في الميركاتو الصيفي    توقعات باستمرار هطول امطار متفاوة على مناطق واسعة من اليمن    مجموعة هائل سعيد: نعمل على إعادة تسعير منتجاتنا وندعو الحكومة للالتزام بتوفير العملة الصعبة    عدن .. جمعية الصرافين تُحدد سقفين لصرف الريال السعودي وتُحذر من عقوبات صارمة    الحكومة تبارك إدراج اليونسكو 26 موقعا تراثيا وثقافيا على القائمة التمهيدية للتراث    خيرة عليك اطلب الله    الرئيس الزُبيدي يطّلع على جهود قيادة جامعة المهرة في تطوير التعليم الأكاديمي بالمحافظة    مليشيا الحوثي الإرهابية تختطف نحو 17 مدنياً من أبناء محافظة البيضاء اليمنية    الشيخ الجفري: قيادتنا الحكيمة تحقق نجاحات اقتصادية ملموسة    طعم وبلعناه وسلامتكم.. الخديعة الكبرى.. حقيقة نزول الصرف    شركات هائل سعيد حقد دفين على شعب الجنوب العربي والإصرار على تجويعه    يافع تثور ضد "جشع التجار".. احتجاجات غاضبة على انفلات الأسعار رغم تعافي العملة    نيرة تقود «تنفيذية» الأهلي المصري    عمره 119 عاما.. عبد الحميد يدخل عالم «الدم والذهب»    السعودي بندر باصريح مديرًا فنيًا لتضامن حضرموت في دوري أبطال الخليج    غزة في المحرقة.. من (تفاهة الشر) إلى وعي الإبادة    الاستخبارات العسكرية الأوكرانية تحذر من اختفاء أوكرانيا كدولة    صحيفة امريكية: البنتاغون في حالة اضطراب    قادةٌ خذلوا الجنوبَ (1)    مشكلات هامة ندعو للفت الانتباه اليها في القطاع الصحي بعدن!!    تدشين فعاليات المولد النبوي بمديريات المربع الشمالي في الحديدة    من تاريخ "الجنوب العربي" القديم: دلائل على أن "حمير" امتدادا وجزء من التاريخ القتباني    من يومياتي في أمريكا.. استغاثة بصديق    من أين لك هذا المال؟!    كنز صانته النيران ووقف على حراسته كلب وفي!    دراسة تكشف الأصل الحقيقي للسعال المزمن    ما أقبحَ هذا الصمت…    تساؤلات............ هل مانعيشه من علامات الساعه؟ وماذا اعددناء لها؟    رسالة نجباء مدرسة حليف القرآن: لن نترك غزة تموت جوعًا وتُباد قتلًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء السابع بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 25 - 12 - 2013


7
خرجت سلمى بصحبة زينب وهند ، وكان ثلاثتهن قد تواعدن على قضاء هذه الليلة بجانب سعاد التي ستُزَفُّ غداً إلى ربيع (ابن خالها) ، وكان عليهن أن يُقِمْنَ الليلة معها ، يشاركن في تجهيزها ، ويُسَرِّينَ عنها . فما أرقَّ دموع العروس ليلة حنائها ! إذ تبكي وتغرق في دموعها لمفارقة الدار التي احتضنتها زمن الطفولة والصِّبا ، وما أشد الفراق على أبويها ! وإن كانت تلك الدار التي ستتحول إليها على بعد خطوات من دار أبيها ، ولكنها غريزة إنسانية ، ليس للعروس ولا لأفراد أسرتها منها فكاك ، فكلٌّ يَغرق في دموعه ، ويَشرق بآهاته... إنها الحياة ! .
وما إن دخلت سلمىَ وصويحباتها الدار حتى أفاقت سعاد من فرحتها التي تجللها مخاوف المستقبل ، وأحزان قد تفتقت عنها تلك المخاوف . امتلأ صحن الدار بالنساء ، فكانت ليلة تختلط فيها العواطف وتمتزج فيها التطلعات ، وكانت ليلة بهيجة بما قدمت صويحبات العروس وقريباتها من رقص وغناء أشاع الفرح في القلوب، ورسم البسمة على الوجوه . وفي ساعة متأخرة من الليل ، وبعد أن خلتْ الدار ولم يبق فيها سوى سلمى وزينب وهند ، يسامرن العروس ، ويسرين عنها ، إذ اجترأت زينب قائلة :
- الليلة لسعاد وغداً لهند وقريباً لسلمى ، إني أغبطكن .
وهنا رفعت سلمى حاجبيها ، وقالت في دَهَش واستنكار:
- ولماذا قريباً وكأنه بالباب ؟!.
قالت زينب بصوت ينمُّ عن صحة الخبر:
- نعم ، إنَّ سعيداً يقف وراء الباب ، أم أراكِ تنكرين !.
- فابتسمت سلمى ، وقالت وهي مازالت تنكر على زينب قولها :
- ومن أين لك بهذه الأخبار؟.
- وهل يَخْفَى عليَّ ما يستره فؤادك ؟. لقد فضحه لسانك ومرايا عيونك ، ولطالما تحدَّثتِ إليَّ عنه وعن محاسنه وأخلاقه وعن...وعن...بمناسبة وغير مناسبة ،
أم أنك لا تشعرين...؟.
- وهل يعني ذلك أني قبِلتُ به ؟.
- إذن ، دعيه يفرُّ من بين يديك ، أيتها البلهاء ! .
فقالت سلمى وهي تشيح وجهها ، وتلوح بيدها ، وكأنَّ الأمر لا يعنيها :
- لا شأن لي به ، يَفِرُّ إلى حيث يَقَرُّ .
وهنا قالت هند وهي تبتسم :
- سيَقَرُّ بك ، وتَقَرِّين به ، أم أنك تعيبينه في شيء ؟!.
- أبداً... أبداً ، إنه شاب وسيم ، طيب الأعراق والأخلاق... و...
وضحكت الفتيات ، وضحكت سلمى ، وقالت بشيء من الجراءة :
- أنا أعترف أنه يروق لي .
وهنا تدخلت سعاد تسأل سلمى :
- كيف يروق لك وترفضينه ، أم أنك تتلذَّذين بكثرة الطلب ؟.
ثم تحولت سعاد بوجهها إلى سائر الفتيات تخاطبهن بلهجة هادئة :
- إنَّ أجمل لحظة تمرُّ بالفتاة تلك التي تشعر فيها أنها مرغوب فيها . إنه التقدير الذي لا يعدله تقدير .
وعُدْنَ للضحك والدعابة حتى ثَقُلَتْ جفونهن بالنعاس ، ونِمْنَ وما نامت سعاد . وكيف لها أن تنام ؟!.
في اليوم التالي ، وكان يوم الخميس ، جاء بعد صلاة العصر لفيف من الرجال، ورديف من النساء يهزجن بأهازيج الفرح ، يغنين تارة بأغان يمتدحن فيها العريس ربيع وعائلته ، ويقترب الركب من دار العروس ، ويميل الغناء كل الميل مدحاً وثناء لأبي العروس بما هو أهل له من كرم وأصالة وعراقة في الحسب والنسب .
وما إن وصل جميعهم إلى ساحة قد أُعدت لهذه المناسبة أمام دار العروس ، حتى هبَّ أهلها من رجال ونساء يستقبلون أنسابهم . وتَدُور صواني " القُطِّين والحَلْقُوم " على الضيوف ، وما هي إلا سويعة حتى تخرج العروس مُجَلَّلَة بعباءة أبيها،
يتأبط ذراعها الأيمن أبوها وذراعها الأيسر أحد أعمامها ، يسيران بها إلى حيث تقف فرس حمراء ضامرة محلاة بسرج مُطَرَّز يليق بمقام العرس وقَدْر العروسين ، وتنطلق الزغاريد حين رفعاها فاستقرت على ظهر الفرس ، وتتناثر "الههاويات" تشكر والد العروس وأهلها ، وتشيد بكرمهم ووفائهم لتعهداتهم ، وقد انطلقت الزغاريد من جديد ، وتناغمت مع بعض طلقات نارية من " بارودة خرطوش " كان يمتلكها - بترخيص حكومي - أحد أقرباء ربيع . وهكذا تمت مراسيم الاحتفال المهيب ، وبدأ الموكب يعود أدراجه وقد حمل معه العروس التي يَحُفُّ بها من جانبيها ومن خلفها ضُمَّة من الصَّبايا والنِّسْوَة الجميلات اللاتي يَقْرَعْنَ الطبلة ويُغَنِّينَ ويَنْثُرْنَ الزغاريد في سماء القرية ، بينما يتقدمهم كوكبة من الرجال ذوي هيبة ووقار.
وما إن ابتعد الركب قليلا حتى خرج عليهم عباس" ابن عم العروس " فجأة في أحد الأزقة ، فأمسك بزمام الفرس بيده اليسرى ، بينما كانت يده اليمنى تقبض على " شِبْرِيَّته " المشرعة ، وقال للعروس سعاد في شيء من الحزم ، وفي شيء من العنف ، وقد أطلَّ الشرُّ من عينيه :
- انزلي يا ابنة العم ، فواللهِ لن يمسَّ ربيع منك شعرة وأنا على قيد الحياة .
سكتتْ الطبول ، وانعقدت ألسنة المغنيات ، ووجم الجميع رجالاً ونساء ، وذهلوا مما رأوا ومما سمعوا ، فقد كانت لهم مفاجأة صادمة لم تكن في إطار التوقع ، ولا في حدود الممكن .
وتتباطأ سعاد ولم تنزل ، فينهرها عباس :
- انزلي عن فرسهم ، فقد أعددتُ لك فرساً أخرى تذهب بك إلى بيتي .
حدث الهرج والمرج ، وزاد اللغط بين أهل العريس وبين عباس ، ولكن عباس كان عنيفاً وكان عنيداً ، فقد عُرف عنه ذلك ، كما عُرف بين أهل القرية وشبابها بحدة الطبع والميل إلى الشر، وكان جميعهم يتحاشاه ، لأن يده كانت دوماً تسبق لسانه . وهكذا ظل عباس يناوش بشِبْرِيَّته كل من يقترب منه . وطار الخبر إلى أهله ، إذ كان وحده حين أحاط به إخوة ربيع وأقرباؤه ، ويتقدم إليه والد ربيع يرجوه ويسترضيه :
- يا عباس ! اِكْسِر الشر، فإننا لم نأخذ العروس خطيفة – لا سمح الله- بل برضاها وبرضا والديها وأعمامها ، بمن فيهم أبوك...
فردَّ عباس بحزم وثبات قائلاً :
- أعلم أنها ليست خطيفة ، ولكني ابن عمها ، أم أنَّ أحدكم ينكر ذلك ؟.
- كلا ! لا ننكر، وأيضاً لا أخالك تنكر أني خالها ، وقد أصبحت زوجاً لابني ربيع بحكم الشرع .
- هذا لن يكون .
- ولكنه كائن .
- على جثتي إن استطعتم ، وشرعكم معكم .
- وعلى جثتنا تمرير قولك .
- سنرى يا أبا ربيع أينا يُمَرِّر قوله .
وهنا وصل والده وعمه وأبناء عمومته ولفيف من الأقرباء . فخاطبه عمه :
- ألا تستحيي يا عباس من شنيع فعلتك ؟.
فقال عباس :
- وماذا فعلتُ من عيب يا عماه حتى استحيي منه ؟!.
- اترك زمام الفرس ، ودع القوم يذهبون بعروسهم .
- أما القوم فليذهبوا إلى حيث يشاءون ، فلتصحبهم السلامة ، وأما العروس فلن تذهب إلا معي حيث أريد ، والمأذون ليس ببعيد ، إذ لم يجف الحبر عن أوراقه بعد ، فأرسلوا إليه يمزقها ويستبدل بها غيرها، والشهود هم الشهود .
وهنا يتدخل والده ، وكان شيخاً في أعقاب العمر:
- يا عباس ، يا ولدي : ما تمت هذه الزيجة إلا برضانا جميعاً ، فأين كنت أيام أن كانت ابنة عمك تنتظر نصيبها ، أم أنها حَلِيَتْ في عينيك لحظة أن رأيتها تمتطي فرس صاحبها في طريقها إلى بيتها الجديد ؟.
ويعلو صوت عباس ، ويحتدُّ الكلام على لسانه قائلاً:
- لقد كنتُ في نظركم كمَّاً مهملاً، لا تَدَعونني أقترب منكم ، ولا تسمعون مني حديثاً ، ولا تُقدِّرون لي رأياً ، وقد أرسلتُ إلى عمي راغباً في الزواج من سعاد، ولكنه رفض طلبي بما يوجعني من حديث .
- لأنك قد انتهجت نهجاً أساء لك كما أساء لنا ، فكانت أفعالك مدعاة للغمز واللمز من قناتنا ، وسِرْتَ في طريق عوجاء ، فلم تنتصح من أحد ، وإنك لم تستقم .
- إذن ، دعوني أَسِرْ في طريقي التي اخترتها لنفسي .
- فلتذهب إلى الجحيم... ولكنْ وحدك .
- لا... سأذهب إلى الجحيم وسعاد بصحبتي ، ولن أدعها لأحد غيري ، أو أقتلها في الحال ، وأقتل من يقف في وجهي .
وهنا تقدَّم ربيع ، وقال مخاطباً أنسباءه الجدد :
- يبدو أنَّ الكلام وحده لا يفيد .
فردَّ عليه عباس بعنف ظاهر وهو يلوح بشِبْرِيَّته في الهواء :
- صدقتَ ، فإن كان لديكَ ما يفيد فهاتِه .
واحتدمت الأنفس ، وحميت الألسنة ، وتناثر اللغط ، وتفاقم الموقف لحظة أن تقدَّم ياسين - الأخ الأكبر لربيع - مخترقاً الصفوف حتى واجه عباس ، طالباً منه التخلي عما برأسه ، محاولاً نزع زمام الفرس من يده عنوة ، ولكنَّ عباس قد تصدَّى له بكل قوة ، فبدأ التدافع ، وبدأ التناوش ، فأمسك ياسين باليد التي تقبض على الشِّبْرِيَّة ، وحاول أن يسقطها من يد عباس ، ولكن عباس عاجله بضربة جرحت يده ، ثم حدث الهرج والمرج ، وأطلقت العروس صيحة ارتجت لها الأرض ، وتصدعت لها جُدُر الدُّور القريبة من المكان ، وأخذت تولول قائلة من خلف العباءة :
- ويلي علىَّ !... يا لحظي العاثر! .
حينها كانت الدماء تقطر، ولا يعرف مصدرها ، إذ انتصر بعض الشباب لعباس، وكانوا في مجموعهم إخوته وأبناء أعمامه ، فلَم يَخْذُلُوه ولم يُسْلِمُوه حتى لا
يجلبوا لأنفسهم العار، فيعيبهم الناس في موقف التفاخر بالمناقب . إذن ، فليس لهم إلا نصرته بحسب المثل ذي المفهوم الجاهلي " انْصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوما " .
وتشتد المعركة ، ويكثر عدد الجرحى من الطرفين ، ومازال عباس يمسك بزمام فرس العروس ، لا يحيد ولا يميد . ويصل الشيخ عبد السلام والشيخ البكري خطيب الجامع ، والشيخ زيدان والحاج حسين أبو النور ومخاتير القرية وكبراؤها وآخرون من الشيوخ والشباب الذين وصلهم الفزيع ؛ ففزعوا وأسرعوا يقفون بين المتخاصمين ، يناشدونهم الله ورسوله بالحوار لا بالنار. وتنتصر العصبية القبلية ، وينتصر عباس ، ويسوق عروسه على ظهر جواده إلى داره ، وقد أرسل في طلب المأذون ليسير بينه وبين عمه والد العروس ، وقد تعهد عباس إلى عمه بدفع تكاليف العرس الذي يطلبه ربيع ووالده ، هذا عدا المهر الذي يقدمه لعروسه ، وقد أكمل المأذون عمله حسب ما يقتضيه الشرع .
* * * * *
ظلت سعاد حزينة في ظلال زوجها عباس ، تجفوه وتتمنع عليه وتخشى لقياه ، فأحس منها عباس ذلك ، فقال لها يوماً :
- يا ابنة العم ! لقد أشقاني زماني ، واعوجت طريقي ، فاجتهدي ما استطعتِ لإصلاحي وتقويمي ، ولا تتركيني نهباً لنوازع الشر لئلا أعود فأمتطي صهوة جواد جموح ، ولا تنسَي أني قَدَرُكِ وأنتِ قَدَري ، ولا فكاك لأحدنا من الآخر ولا انفصال .
رفعت سعاد رأسها ، وقالت بصوت خفيض لايخلو من نبرة الحزن والأسى :
- يا ابن العم ! إنك قد أرغمتني .
- معاذ الله !.. بل لكِ أن تتفاخري بما صنعت ، فأنا ابن عمك .
- ولكنكَ أَكْرَهْتَني على شيء ما كنتُ أحسبني أقبله .
- أهكذا تَكْرَهِينَ ابن عمك ، وترفضينه ؟.
- لقد تزوجتُ منك على كُرْهٍ مني ، وهذا يؤلمني .
- لا مفرَّ لكِ مني ، فعليكِ أن تعتادي حضوري .
- الأمر يومئذ لله ، وما بيدي حيلة إلا الصبر وكظم الغيظ وتجرع الأحزان .
- سعاد ! أريد أن أعيش في هدوء ورضا ، ولن يصيبكِ مني مكروه ، فقَوِّمِي ما استطعتِ من اعوجاجي ، وأصلحي ما أمكنكِ الإصلاح مني .
- ماذا أُصلح يا ابن العم ، وما فيك حَسَنَة...؟.
- أعلم أني كذلك ، وكنتُ أَوَدُّ ألا أسمعها منكِ .
- إنها الحقيقة !.
- ولكنها ظروف قد دفعتني إلى ما كنتُ أكره ، وإلى ما لا تحبين .
- عزائي أن أسمع منك صوت إنسان يصحو على التوبة .
- صدقيني يا سعاد ، أني نبتة في مستنقع مسموم ، فهيئي لها قوامات الحياة الصالحة ، واستصلحي لها التربة ، ونقِّي لها الهواء لعلها تزهر يوماً ، وينتشر منها شذَىً عَطِر تتطيبين به .
- وهل تطيع يا عباس ؟.
- أطيع ولا أخضع .
- ما زال فيك عنفوان يثير مخاوفي .
- وهل تَرْضَيْنَ لي الذل والخضوع ؟.
- معاذ الله ! بل أرتضي لك العزة والمَنَعَة ، ويُرضيني منك الاستقامة .
- سترَيْن خيراً بقربي ، وعسى أن ألاقي السعد بقربك .
- إذن ، اسعَ ما وسعك السعي ، لتطيِّب خاطر والدي ووالدك قبل يوم إفرادي.
- ولكني أخشى من نفثات أمك ؛ فتفسد عليَّ طريقي في وَصل ما انقطع ، وخاصة بعد الشجار الذي حدث بيني وبين خالك أبي ربيع وأولاده .
- لا عليكَ منها ، فهي امرأة تحمل في صدرها قلباً يتسع لكل من يحبني ، وإن أساء إليها .
- إذن ، سأذهب إليهم .
- ادعُهم لزيارتنا ، فما أراهم إلا وقد اشتاقوا إليَّ مثل شوقي إليهم .
- سأفعل إن شاء الله .
- صِلْ والديك ، وأعدْ إليهما ثقتهما بك ومحبتهما لك ، علَّنا نترك هذه الدار إلى دار أبيك ، حيث يطيب لنا فيها المقام .
- سأفعل إن شاء الله .
هكذا كانت سعاد ، دائمة التفكير في أمها وأبيها وإخوتها ، وهي دائمة التفكير في صويحباتها، تتمنى على الجميع أن يوطدوا أنفسهم على رؤيتها في بيت عباس ، كما كانت قد وطَّدتْ نفسها على العيش في كنفه ، فإنَّ القَدَر قد خط لها هذا المسار، وارتضى لها هذه الحياة التي ما كانت تخطر ببالها من الانزواء والعزلة ، وكلما ناوشتها صورة ربيع هزت رأسها وكأنها تطردها ، وتُبعد صاحبها عن خيالها ، ولِمَ لا ؟ وهي تعلم جيداً أنه مجرد التفكير في غير زوجها خيانة ، لا ترتضيها لنفسها . وهي تعلم أيضاً أنَّ زيجتها من ربيع لم تكن قائمة على خلفية عاطفية ، فلم تجالسه يوماً ، ولم تتحدث إليه إلا بما كان يتسع لهما المقام خلال زيارته لأمها في الأعياد والمناسبات بصحبة أبيه . نعم ! إنَّ ربيع - ابن خالها – شاب لطيف ، مشكور من أهله وجيرانه ، وهو محمود من كل معارفه وخِلَّانه لما كان يتصف به من خِلال كريمة وصفات قروية أصيلة ، وكان يجنح إلى المسالمة ، ويميل إلى التحابب والتواد؛ فيصل أصحابه وجيرانه ، كما يصل أهله وأقرباءه . ولقد كان كغيره من شباب القرية قد تحصَّل على قَدْر ضئيل من التعليم لا يؤهله لشيء ، ولكنه فلاَّح نشِط ليس له إلا الأرض ميداناً لكسب الرزق . وها هو نجم ربيع قد اهتزَّ بعد المواجهة التي حدثت بينه وبين عباس ، وإنه ليتحسس موضع الطعنة التي أدمتْ كبرياءه ، وأهدرت ماء وجهه ، فما قيمة الإنسان بعد أن يُصاب في كرامته وكبريائه ؟.
ولكنَّ أعراف هذه القرية وكل القرى من هذه البلاد – تَدين بما يَدين به عباس ، وُتِقُّر له عمله ، وتحسبه له صنيعاً يُمتدح به ، فابن العم أولى بابنة عمه زوجاً لها من أي إنسان آخر. وإنَّ عباس مُحِقٌّ في اعتراضه موكب العروس ، فلو لم يفعل ذلك
لأصابه لوم اللائمين ، وعابه لسان العائبين بلواذع الكَلِم ، أما هو الآن فبطل ، أقرت فعله أعراف القرية . إذن ، أصبح عباس بطلاً في نظر الجميع ، وفي نظر خصمه ربيع الذي يمتدحه كلما خلا إلى نفسه ، وهو يصنف الأمور حسب وقائعها ونتائجها . ولكنْ ، هل يبقى ربيع في واد وعباس في واد آخر متخاصمَيْن ؟ فمن يصلح بينهما ما أفسده الدهر؟ ومن يبادي صاحبه بالتواصل وحسن الوئام...؟. فالمسألة أصبحت في عُرْف القرية خلافية بين اثنين ، وباقي من الزمن يوم أو يومان لا ثلاثة لإزالة ماعلق في النفوس من نفور وتغاضب ، ومحو آثار الأكدار التي جلبتها زيجة سعاد ، فطوبَى لمن تجرَّع مرارة الأيام ، وصبر .
* * * * *
وقف عباس وراء حائط متهدم ، وأخذ يرقب من بعيد دار عمه سالم ، وقد ثبَّت عينيه على باب تلك الدار. كانت الشمس تنحدر في غروبها رويداً رويداً ، وتسحب أذيال ثوبها البنفسجي بشيء من الرفق ، وبشيء من الخجل . ويقبل الليل بطيئاً متسكعاً ، فتسدل العتمة ستائرها على ذلك المكان ، وقبل أن ينطفئ ما تبقى من ضياء ذلك النهار، شخصت عيناه ، فرأى والده يدلف عتبة دار عمه ، وهنا رفرف قلبه بين جوانحه ، ولم يكن يقدِّر سبباً حقيقياً لما أحسه من شعور في حنايا صدره ، أهو القلق الذي يصدُّه عن مواصلة السير إلى دار عمه ؟ أم هو الفرح الذي داخله بمرأى والده ؟.
كان عباس بادي التردد ، بادي القلق ، وقد تجمعت حبات العرق على جبهته ، وتلاهثت أنفاسه المتدافعة ، وتذكَّر رصيده السيئ ، فلقد كان مصدراً لإزعاج أبيه وعمه ، وسبباً في إفساد حياتهما الناعمة ، فلطالما أثار غضبهما وأسخطهما عليه ، لهذا تجده قد ازداد تردده واضطرابه ، واستعظم خوفه ، فيتوقف . إنه لا يعرف ماذا يفعل ، ولا يعرف كيف يمكنه القضاء على هذا التردد وهذا الاضطراب . ولم يطل به التفكير، فخطا خطوات سريعة وواسعة ولكنها ثقيلة ، وفي لحظة غياب القرار الأخير، وجد نفسه يطرق باب دار عمه ، وسمع مَنْ يردُّ عليه قائلاً :
- تفضَّل أيها الطارق !.
ودخل عباس ، وما إن أطلَّ عليهما وجهه ، وما إن احتوتهُ العيون حتى بُهت كلاهما، ولكنه لم يترك لأحدهما فرصة طرده أو نهره ، فباداهما قائلاً :
- السلام عليكم !.
ثم لم ينتظر رداً ، فتقدم من أبيه يلثم رأسه ويقبِّل يديه متوسلاً منه قبول اعتذاره وغفرانه ، والأب في وجوم . ثم يتحوَّل عباس إلى عمه ، فيفعل معه ما فعل مع أبيه ، يسترضيه ويستشفع منه بابنته ، ويقرفص أمامه قائلاً :
– سامحني يا عمَّاه !.
والعم لا يحرك ساكناً ، فلم يهتز له رمش عين ، ولم تختلج له شفة ، ولم تتحرك له جانحة ، بل أخذ يستمر في دق القهوة في " المصحان " متجاهلاً إياه وكأن شيئاً لم يكن ، فأثار ذلك حفيظة عباس ، ولكنه اعتدل في جلسته وكظم غيظه ، وقال مخاطباً أباه وعمه :
– سامحني يا أبتاه ! سامحني يا عمَّاه !.
ولم يرفع عمه عينيه عن " المُصْحان " ، يراقب حبات القهوة وهي تتكسر وتُطحن ، أمَّا أبوه فقد رفع رأسه إلى عباس ، ورفع صوته حيث ابتدره بحديث ينم عن مرارة قد استوطنت فؤاده :
- دَعْنا يا عباس ، وانصرِفْ من هنا ، فلا مكان لك بيننا .
- ولكني أنا ابنك ، ولا أدري لمن ألجأ .
- إلى الشيطان الذي تحالفتَ معه .
- أعِدُك يا أبتاه ، وهي كلمة شرف ، أن أبتعد عن كل ما يغضبكم .
- وهل لأمثالك وفاء لوعد ، أو كلمة شرف لإنفاذ عهد ؟ .
- جَرِّبْنِي هذه المرة ، تجدْني مطيعاً ، سبَّاقاً إلى رضاك .
- لا أثق بمن خدعني مرة واحدة ، فما بالك وقد خدعتني مرات عديدة ، وخَذَلْتَني كثيراً حتى أغْضَبْتَني! .
- لن أفعل شيئاً يجلب عليَّ غضبك .
- لا أصدقك ، فقد أفسدت علينا حياتنا ، وجلبت علينا حصائد ألسنة الناس بالقيل والقال أيها الأحمق .
- سأكفُّ عن كل ما يثير غضبك ، ولن أعود .
- كفاني ما تسببتَ لي من متاعب ، فارحم شيبتي .
- إنها توبة ، والله غفور رحيم .
- ليس لي من عمل سوى إصلاح ما تفسده يداك ، فمرة تضرب ومرة تشجّ ، وإني لأخشى أن تقتل فتغرقنا في شرور الناس أيها الشرير .
- إنهم يعتدون وأنا أدافع عن نفسي .
- بل أنت المعتدي ، وإنهم ضحاياك .
- لا تنسَ يا أبتاه أنَّ الشَّرَّ سياج لأهله .
ويثور والده ، ويعلو صوته ، ويقول في نزق شديد :
- أَوَ تحمينا بحماقاتك أيها الولد العاق ؟!.
- معاذ الله يا والدي !... سامحني ! ولن أعود .
ثم تحوَّل عباس إلى عمه ، وقال له في رجاء :
- ألا تتكلم يا عماه ؟ إنَّ صمتك يقتلني .
فقال عمه وهو يلقم البكرج حفنة من القهوة المطحونة :
- ليتك تموت لنرتاح من أبقِك ، فأنت مصدر خزينا وعارنا .
- لا يا عم ! لا تقل ذلك ، فأنا لم آثم ولم أجنح .
وهنا ترك العم سالم البكرج فوق النار المتوهجة في كانونه ، وقال مخاطباً عباس بلهجة لا تخلو من عنف :
- وماذا تسمي أفاعيلك أيها الآبق ؟.
- لم أفعل شيئاً يجلب العار .
- بَلْ فعلت .
- لقد أعدتُ حقاً من حقوقي ، وهذا ما يجب أن تُكْبِرُوني عليه .
لقد أثار عباس عمه ، فجعله ينفجر في وجهه :
- اخرج من داري أيها الكلب ، لا أريد أن أراك .
وأحسَّ عباس أنه قد أثار حفيظة عمه واستمطر غضبه ، فأراد أن يلطِّف من أجواء المواجهة ، فقال وهو يبتسم :
- ولكني أريد أن أراك ، وكذلك سعاد التي تنتظر المصالحة ، فقد أضناها فراقكم ، وأنحلها الشوق إليكم ، فلا تتركوها ملتاعة لئلا يمسها الضرُّ بسبب القطيعة .
وهنا تسمرتْ عينا العم سالم في وجه عباس ، وقد بانت عليه علائم الحب والشوق لابنته ، وكادت تطفر دموعه عند سماعه اسم ابنته " سعاد " ، فَهَزَّ رأسه ، واحتبس صوته ، فاستطرد عباس قائلاً بنغمة حنون :
- يا عم ! أنا ابن أخيك ، كما أنَّ سعاد ابنتك ، وإنها لمصونة بقربي ، لن يمسها ضيم ، وكلانا في حاجة إليكم ، وإنها في شوق لرؤيتكم ورؤية أمها وإخوتها جميعاً ، وإنك إن سألتها لتجدنَّها راضية بي ، وأنا بها راض ، ولا ينقصنا سوى رضاكم ووصالكم ، فلا تحرمونا من هذا الرضا، وهذا الوصال .
فَيَهُزُّ العم سالم رأسه ، ويقول كَمَنْ يحدث نفسه :
- أَبَعْدَ الذي فعلتَه يكون بيننا تواصل ؟.
- عهداً عليَّ ألا يكون مني ما يثير إغضابكم ، ولن آتيكم بما لا ترضون به ، ولكم مني السمع والطاعة ، وإنَّ سعاد زوجي ، ولا مفرَّ من التعايش والتواصل .
- إن كنتَ تلوي ذراعي بسعاد ، فأنتَ مُخطِئ .
- ليس الأمر كذلك ، ولكنك لن تقسو عليها بإطالة زمن القطيعة .
- لقد ماتت سعاد ، ودفنتها إلى الأبد .
- وما ذنبها يا عمَّاه ؟! . إنها تنتظر منك قولاً آخر.
وهنا قال والد عباس مقاطعاً ومشيراً بإصبعه إلى عباس :
- وما دخل سعاد يا أخي ؟ . إنَّ الذي يستحق الموت هذا الكلب .
فيقول العم سالم :
- أعلم يا أخي أنها بلا ذنب ، ولكنْ لأجله .
وخيَّم الصمت على أرجاء البيت ، وأخذ والد عباس ينقل نظره بين أخيه وبين ابنه ، وقد هاله ما سمع ، وقال مخاطباً ابنه عباس :
- ابرحْ هذه الدار الآن ، ولا تُكثرْ من حديث يعمِّق جراحنا .
- لا والله ! لن أبرح هذه الدار إلا باتفاق .
- على أي شيء ؟.
- إما أن تباركوا زواجنا ، وإما... وإما...
وهنا تلعثم عباس ، وتوقف الكلام على لسانه ، الأمر الذي جعل والده ينهره ، طالباً منه أن يفصح .
- وإما ماذا يا ولد ؟.
- وإما أعيد سعاد إليكم هذه الليلة .
وهنا تغيرت لهجة عباس ، وقال على استحياء مشوب بالحزن والأسى :
- فهي ما زالت عذراء ، بِكْراً لم يمسسها بشر.
وكان ذلك التصريح لَغَمَاً تفجَّر في الحال ، فجُنَّ جنون عمه ، وقام إليه يصفعه على وجهه ، ويقول محتدَّاً :
- أيها الكلب !: أتريد أن تلطِّخ شرفنا وتمرِّغه في الوحل ؟ . ماذا يقول الناس إن أَعَدْتَها بعد خمسة أيام من إقامتها بجوارك في دار واحدة ؟!.
ولم يحرك عباس ساكناً ، ولم يرفع عينيه في وجه عمه ، وإنما تحنَّنَ بوالده لِيُلَطِّفَ له الأجواء ، فقال وهو يُهدئ من غضب أخيه الذي تراءى له وكأنَّ عفريتاً أزرق قد ركبه عندما سمع مقالة عباس الأخيرة :
- يا أخي يا ابن أمي! دعنا من تَوَتُّر الأعصاب ، فكفانا ما لحق بنا من
نزق وتوتر.
- ألم تسمع ولدك وما يقول ؟.
- ما قاله عباس هو نوع من التهديد حتى نقبل بالذي جاء به .
وينظر إلى ابنه يسأله التصديق :
- أليس كذلك يا ولد ؟.
فيرد عباس في عناد :
- نعم يا أبتاه ! بل كنت أعني ما أقول ، وإني مصمم على تنفيذ ما طرحته عليكم ، فإما الاتفاق وإما...
وهنا يصيح عمه سالم غاضباً :
- اخرس يا ولد ! لا تُسمعني ما أكره سماعه مرة ثانية ، وإلا قتلتك .
- إذن ، نتفق .
ويرد أبوه بهدوء مصطنع :
- حسناً ! عد إلى زوجك الآن ، وانتظرا قدومنا غداً ، وسيتم لك ما تود وترغب ، لا لأجلك ، ولكنْ لأجل سعاد .
ونظر عباس في وجه عمه الذي لم يرد ، ولم يُبدِ موافقته أو رفضه ، بل ظل صامتاً يفرك يديه بعصبية ، ثم مد يده إلى البكرج الذي فار ماؤه وأُعدت قهوته ، فأنزله وقد صبَّ قليلاً منها في فنجان ، فحرَّكه حركة لولبية بعصبية ظاهرة ، ثم رفعه إلى فمه يرشفه ويتذوق قهوته ، ويصبُّ فنجاناً آخر لأخيه سلامة . وهنا تقدم عباس من عمه خطوات وئيدة ، وقبَّل رأسه في تهيُّب ، وشجعه صمت عمه ونظرات أبيه الباسمة أن قرفص أمامهما وقال :
- ياعمَّاه ! أريد أن أشرب من قهوتك ، فَصُبَّ لي فنجاناً وقَدِّمْه لي بيدك ، أكنْ مطمئناً على رضاك ورضا والدي عني .
وهنا يعلِّق عمه عينيه في وجهه ، ويقول :
- أمري إلى الله !.
ويصبُّ القهوة في فنجان ، ويقدمه لابن أخيه ، وهو يقول :
- شارب القهوة لا يخون صاحبها ولا يَخْذُلُه ، تماماً كآكل الخبز والملح .
- سأكون حافظاً للعهد ، حاملاً للثقة التي لا يزعزعها شيء بعد الآن .
ثم ينهض فرحاً مبتسماً ، ويقول بلهجة تبعث الهدوء والطمأنينة في نفس سامعيه:
- فلتأذن لي يا عمَّاه بالدخول على امرأة عمي أصالحها وأطلب منها السماح .
ولم يرد العم سالم ، واعتبر عباس سكوت عمه إيذاناً منه بالموافقة ، فتهلل وجهه ، وأسرع الخُطى إلى الداخل في همة ونشاط ، يغمره فرح لم يذق له طعماً من قبل ، وظل الأخَوان جالسين وجهاً لوجه ، يتجاذبان حديثاً بينهما؛ فقال سالم :
- ماذا أفعل لابنك عباس... يا سلامه ؟.
- افعل ما تشاء ، ولن تجد مني إلَّا المباركة .
- ولكنْ أخشى إن خسرناه نخسر سعاد ، فنخسر هيبتنا وكرامتنا أمام الناس .
- إذن ، ألِنْ له جانبك ، عسى الله أنْ يُصلح حاله ، ويَسعد بزوجه ، ويُسعدها.
- أهذا رأيك يا أخي ؟.
- لا أريد أن تلوكنا ألسنة أهل القرية بأكثر مما جرى ، وما جرى فقد جرى .
نظر سالم إلى أخيه ، وقال وهو يقدِّم له فنجاناً آخر من القهوة :
- أخي سلامة ! أنت تكبرني سنَّاً، ولك مني السمع والطاعة ، فبم تشير عليَّ ؟.
- لقد أتى عباس بنوايا حسنة ، فدعنا نبادله بأطيب منها ، وإني أشير عليك بأن نذهب جميعنا وندخل عليه داره ، كرامة لسعاد أمام أهل القرية ، فستفرح بمقدمنا أشد الفرح ، وسنزيل من نفسها ذلك الجرح الذي أحدثه عباس بفعلته ، ونشدُّ من أزرها ونقوِّيها أمام أهل القرية ، وخاصة صويحباتها .
فاستحسن سالم مشورة أخيه ، وقال :
- ونِعْمَ الرأي رأيك يا أخي !.
- وإني أخال سعاد ترقب الطريق ، تنتظر دخولنا عليها ، فلا نتركها فريسة للانتظار ، حتى تهدأ نفسها التي تضطرب شوقاً إلينا.
- حسناً يا أخي !
- إذن ، موعدنا غداً صباحاً على مرأى ومسمع من الجميع ، نقدِّم لها ما يُقدَّم
للعروس في يوم صباحيتها ، فنعطيها فرصة الإفراد إلى بيت أبيها – بيتك يا
أخي سالم ، فيستقيم المَنْسِم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.