7 خرجت سلمى بصحبة زينب وهند ، وكان ثلاثتهن قد تواعدن على قضاء هذه الليلة بجانب سعاد التي ستُزَفُّ غداً إلى ربيع (ابن خالها) ، وكان عليهن أن يُقِمْنَ الليلة معها ، يشاركن في تجهيزها ، ويُسَرِّينَ عنها . فما أرقَّ دموع العروس ليلة حنائها ! إذ تبكي وتغرق في دموعها لمفارقة الدار التي احتضنتها زمن الطفولة والصِّبا ، وما أشد الفراق على أبويها ! وإن كانت تلك الدار التي ستتحول إليها على بعد خطوات من دار أبيها ، ولكنها غريزة إنسانية ، ليس للعروس ولا لأفراد أسرتها منها فكاك ، فكلٌّ يَغرق في دموعه ، ويَشرق بآهاته... إنها الحياة ! . وما إن دخلت سلمىَ وصويحباتها الدار حتى أفاقت سعاد من فرحتها التي تجللها مخاوف المستقبل ، وأحزان قد تفتقت عنها تلك المخاوف . امتلأ صحن الدار بالنساء ، فكانت ليلة تختلط فيها العواطف وتمتزج فيها التطلعات ، وكانت ليلة بهيجة بما قدمت صويحبات العروس وقريباتها من رقص وغناء أشاع الفرح في القلوب، ورسم البسمة على الوجوه . وفي ساعة متأخرة من الليل ، وبعد أن خلتْ الدار ولم يبق فيها سوى سلمى وزينب وهند ، يسامرن العروس ، ويسرين عنها ، إذ اجترأت زينب قائلة : - الليلة لسعاد وغداً لهند وقريباً لسلمى ، إني أغبطكن . وهنا رفعت سلمى حاجبيها ، وقالت في دَهَش واستنكار: - ولماذا قريباً وكأنه بالباب ؟!. قالت زينب بصوت ينمُّ عن صحة الخبر: - نعم ، إنَّ سعيداً يقف وراء الباب ، أم أراكِ تنكرين !. - فابتسمت سلمى ، وقالت وهي مازالت تنكر على زينب قولها : - ومن أين لك بهذه الأخبار؟. - وهل يَخْفَى عليَّ ما يستره فؤادك ؟. لقد فضحه لسانك ومرايا عيونك ، ولطالما تحدَّثتِ إليَّ عنه وعن محاسنه وأخلاقه وعن...وعن...بمناسبة وغير مناسبة ، أم أنك لا تشعرين...؟. - وهل يعني ذلك أني قبِلتُ به ؟. - إذن ، دعيه يفرُّ من بين يديك ، أيتها البلهاء ! . فقالت سلمى وهي تشيح وجهها ، وتلوح بيدها ، وكأنَّ الأمر لا يعنيها : - لا شأن لي به ، يَفِرُّ إلى حيث يَقَرُّ . وهنا قالت هند وهي تبتسم : - سيَقَرُّ بك ، وتَقَرِّين به ، أم أنك تعيبينه في شيء ؟!. - أبداً... أبداً ، إنه شاب وسيم ، طيب الأعراق والأخلاق... و... وضحكت الفتيات ، وضحكت سلمى ، وقالت بشيء من الجراءة : - أنا أعترف أنه يروق لي . وهنا تدخلت سعاد تسأل سلمى : - كيف يروق لك وترفضينه ، أم أنك تتلذَّذين بكثرة الطلب ؟. ثم تحولت سعاد بوجهها إلى سائر الفتيات تخاطبهن بلهجة هادئة : - إنَّ أجمل لحظة تمرُّ بالفتاة تلك التي تشعر فيها أنها مرغوب فيها . إنه التقدير الذي لا يعدله تقدير . وعُدْنَ للضحك والدعابة حتى ثَقُلَتْ جفونهن بالنعاس ، ونِمْنَ وما نامت سعاد . وكيف لها أن تنام ؟!. في اليوم التالي ، وكان يوم الخميس ، جاء بعد صلاة العصر لفيف من الرجال، ورديف من النساء يهزجن بأهازيج الفرح ، يغنين تارة بأغان يمتدحن فيها العريس ربيع وعائلته ، ويقترب الركب من دار العروس ، ويميل الغناء كل الميل مدحاً وثناء لأبي العروس بما هو أهل له من كرم وأصالة وعراقة في الحسب والنسب . وما إن وصل جميعهم إلى ساحة قد أُعدت لهذه المناسبة أمام دار العروس ، حتى هبَّ أهلها من رجال ونساء يستقبلون أنسابهم . وتَدُور صواني " القُطِّين والحَلْقُوم " على الضيوف ، وما هي إلا سويعة حتى تخرج العروس مُجَلَّلَة بعباءة أبيها، يتأبط ذراعها الأيمن أبوها وذراعها الأيسر أحد أعمامها ، يسيران بها إلى حيث تقف فرس حمراء ضامرة محلاة بسرج مُطَرَّز يليق بمقام العرس وقَدْر العروسين ، وتنطلق الزغاريد حين رفعاها فاستقرت على ظهر الفرس ، وتتناثر "الههاويات" تشكر والد العروس وأهلها ، وتشيد بكرمهم ووفائهم لتعهداتهم ، وقد انطلقت الزغاريد من جديد ، وتناغمت مع بعض طلقات نارية من " بارودة خرطوش " كان يمتلكها - بترخيص حكومي - أحد أقرباء ربيع . وهكذا تمت مراسيم الاحتفال المهيب ، وبدأ الموكب يعود أدراجه وقد حمل معه العروس التي يَحُفُّ بها من جانبيها ومن خلفها ضُمَّة من الصَّبايا والنِّسْوَة الجميلات اللاتي يَقْرَعْنَ الطبلة ويُغَنِّينَ ويَنْثُرْنَ الزغاريد في سماء القرية ، بينما يتقدمهم كوكبة من الرجال ذوي هيبة ووقار. وما إن ابتعد الركب قليلا حتى خرج عليهم عباس" ابن عم العروس " فجأة في أحد الأزقة ، فأمسك بزمام الفرس بيده اليسرى ، بينما كانت يده اليمنى تقبض على " شِبْرِيَّته " المشرعة ، وقال للعروس سعاد في شيء من الحزم ، وفي شيء من العنف ، وقد أطلَّ الشرُّ من عينيه : - انزلي يا ابنة العم ، فواللهِ لن يمسَّ ربيع منك شعرة وأنا على قيد الحياة . سكتتْ الطبول ، وانعقدت ألسنة المغنيات ، ووجم الجميع رجالاً ونساء ، وذهلوا مما رأوا ومما سمعوا ، فقد كانت لهم مفاجأة صادمة لم تكن في إطار التوقع ، ولا في حدود الممكن . وتتباطأ سعاد ولم تنزل ، فينهرها عباس : - انزلي عن فرسهم ، فقد أعددتُ لك فرساً أخرى تذهب بك إلى بيتي . حدث الهرج والمرج ، وزاد اللغط بين أهل العريس وبين عباس ، ولكن عباس كان عنيفاً وكان عنيداً ، فقد عُرف عنه ذلك ، كما عُرف بين أهل القرية وشبابها بحدة الطبع والميل إلى الشر، وكان جميعهم يتحاشاه ، لأن يده كانت دوماً تسبق لسانه . وهكذا ظل عباس يناوش بشِبْرِيَّته كل من يقترب منه . وطار الخبر إلى أهله ، إذ كان وحده حين أحاط به إخوة ربيع وأقرباؤه ، ويتقدم إليه والد ربيع يرجوه ويسترضيه : - يا عباس ! اِكْسِر الشر، فإننا لم نأخذ العروس خطيفة – لا سمح الله- بل برضاها وبرضا والديها وأعمامها ، بمن فيهم أبوك... فردَّ عباس بحزم وثبات قائلاً : - أعلم أنها ليست خطيفة ، ولكني ابن عمها ، أم أنَّ أحدكم ينكر ذلك ؟. - كلا ! لا ننكر، وأيضاً لا أخالك تنكر أني خالها ، وقد أصبحت زوجاً لابني ربيع بحكم الشرع . - هذا لن يكون . - ولكنه كائن . - على جثتي إن استطعتم ، وشرعكم معكم . - وعلى جثتنا تمرير قولك . - سنرى يا أبا ربيع أينا يُمَرِّر قوله . وهنا وصل والده وعمه وأبناء عمومته ولفيف من الأقرباء . فخاطبه عمه : - ألا تستحيي يا عباس من شنيع فعلتك ؟. فقال عباس : - وماذا فعلتُ من عيب يا عماه حتى استحيي منه ؟!. - اترك زمام الفرس ، ودع القوم يذهبون بعروسهم . - أما القوم فليذهبوا إلى حيث يشاءون ، فلتصحبهم السلامة ، وأما العروس فلن تذهب إلا معي حيث أريد ، والمأذون ليس ببعيد ، إذ لم يجف الحبر عن أوراقه بعد ، فأرسلوا إليه يمزقها ويستبدل بها غيرها، والشهود هم الشهود . وهنا يتدخل والده ، وكان شيخاً في أعقاب العمر: - يا عباس ، يا ولدي : ما تمت هذه الزيجة إلا برضانا جميعاً ، فأين كنت أيام أن كانت ابنة عمك تنتظر نصيبها ، أم أنها حَلِيَتْ في عينيك لحظة أن رأيتها تمتطي فرس صاحبها في طريقها إلى بيتها الجديد ؟. ويعلو صوت عباس ، ويحتدُّ الكلام على لسانه قائلاً: - لقد كنتُ في نظركم كمَّاً مهملاً، لا تَدَعونني أقترب منكم ، ولا تسمعون مني حديثاً ، ولا تُقدِّرون لي رأياً ، وقد أرسلتُ إلى عمي راغباً في الزواج من سعاد، ولكنه رفض طلبي بما يوجعني من حديث . - لأنك قد انتهجت نهجاً أساء لك كما أساء لنا ، فكانت أفعالك مدعاة للغمز واللمز من قناتنا ، وسِرْتَ في طريق عوجاء ، فلم تنتصح من أحد ، وإنك لم تستقم . - إذن ، دعوني أَسِرْ في طريقي التي اخترتها لنفسي . - فلتذهب إلى الجحيم... ولكنْ وحدك . - لا... سأذهب إلى الجحيم وسعاد بصحبتي ، ولن أدعها لأحد غيري ، أو أقتلها في الحال ، وأقتل من يقف في وجهي . وهنا تقدَّم ربيع ، وقال مخاطباً أنسباءه الجدد : - يبدو أنَّ الكلام وحده لا يفيد . فردَّ عليه عباس بعنف ظاهر وهو يلوح بشِبْرِيَّته في الهواء : - صدقتَ ، فإن كان لديكَ ما يفيد فهاتِه . واحتدمت الأنفس ، وحميت الألسنة ، وتناثر اللغط ، وتفاقم الموقف لحظة أن تقدَّم ياسين - الأخ الأكبر لربيع - مخترقاً الصفوف حتى واجه عباس ، طالباً منه التخلي عما برأسه ، محاولاً نزع زمام الفرس من يده عنوة ، ولكنَّ عباس قد تصدَّى له بكل قوة ، فبدأ التدافع ، وبدأ التناوش ، فأمسك ياسين باليد التي تقبض على الشِّبْرِيَّة ، وحاول أن يسقطها من يد عباس ، ولكن عباس عاجله بضربة جرحت يده ، ثم حدث الهرج والمرج ، وأطلقت العروس صيحة ارتجت لها الأرض ، وتصدعت لها جُدُر الدُّور القريبة من المكان ، وأخذت تولول قائلة من خلف العباءة : - ويلي علىَّ !... يا لحظي العاثر! . حينها كانت الدماء تقطر، ولا يعرف مصدرها ، إذ انتصر بعض الشباب لعباس، وكانوا في مجموعهم إخوته وأبناء أعمامه ، فلَم يَخْذُلُوه ولم يُسْلِمُوه حتى لا يجلبوا لأنفسهم العار، فيعيبهم الناس في موقف التفاخر بالمناقب . إذن ، فليس لهم إلا نصرته بحسب المثل ذي المفهوم الجاهلي " انْصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوما " . وتشتد المعركة ، ويكثر عدد الجرحى من الطرفين ، ومازال عباس يمسك بزمام فرس العروس ، لا يحيد ولا يميد . ويصل الشيخ عبد السلام والشيخ البكري خطيب الجامع ، والشيخ زيدان والحاج حسين أبو النور ومخاتير القرية وكبراؤها وآخرون من الشيوخ والشباب الذين وصلهم الفزيع ؛ ففزعوا وأسرعوا يقفون بين المتخاصمين ، يناشدونهم الله ورسوله بالحوار لا بالنار. وتنتصر العصبية القبلية ، وينتصر عباس ، ويسوق عروسه على ظهر جواده إلى داره ، وقد أرسل في طلب المأذون ليسير بينه وبين عمه والد العروس ، وقد تعهد عباس إلى عمه بدفع تكاليف العرس الذي يطلبه ربيع ووالده ، هذا عدا المهر الذي يقدمه لعروسه ، وقد أكمل المأذون عمله حسب ما يقتضيه الشرع . * * * * * ظلت سعاد حزينة في ظلال زوجها عباس ، تجفوه وتتمنع عليه وتخشى لقياه ، فأحس منها عباس ذلك ، فقال لها يوماً : - يا ابنة العم ! لقد أشقاني زماني ، واعوجت طريقي ، فاجتهدي ما استطعتِ لإصلاحي وتقويمي ، ولا تتركيني نهباً لنوازع الشر لئلا أعود فأمتطي صهوة جواد جموح ، ولا تنسَي أني قَدَرُكِ وأنتِ قَدَري ، ولا فكاك لأحدنا من الآخر ولا انفصال . رفعت سعاد رأسها ، وقالت بصوت خفيض لايخلو من نبرة الحزن والأسى : - يا ابن العم ! إنك قد أرغمتني . - معاذ الله !.. بل لكِ أن تتفاخري بما صنعت ، فأنا ابن عمك . - ولكنكَ أَكْرَهْتَني على شيء ما كنتُ أحسبني أقبله . - أهكذا تَكْرَهِينَ ابن عمك ، وترفضينه ؟. - لقد تزوجتُ منك على كُرْهٍ مني ، وهذا يؤلمني . - لا مفرَّ لكِ مني ، فعليكِ أن تعتادي حضوري . - الأمر يومئذ لله ، وما بيدي حيلة إلا الصبر وكظم الغيظ وتجرع الأحزان . - سعاد ! أريد أن أعيش في هدوء ورضا ، ولن يصيبكِ مني مكروه ، فقَوِّمِي ما استطعتِ من اعوجاجي ، وأصلحي ما أمكنكِ الإصلاح مني . - ماذا أُصلح يا ابن العم ، وما فيك حَسَنَة...؟. - أعلم أني كذلك ، وكنتُ أَوَدُّ ألا أسمعها منكِ . - إنها الحقيقة !. - ولكنها ظروف قد دفعتني إلى ما كنتُ أكره ، وإلى ما لا تحبين . - عزائي أن أسمع منك صوت إنسان يصحو على التوبة . - صدقيني يا سعاد ، أني نبتة في مستنقع مسموم ، فهيئي لها قوامات الحياة الصالحة ، واستصلحي لها التربة ، ونقِّي لها الهواء لعلها تزهر يوماً ، وينتشر منها شذَىً عَطِر تتطيبين به . - وهل تطيع يا عباس ؟. - أطيع ولا أخضع . - ما زال فيك عنفوان يثير مخاوفي . - وهل تَرْضَيْنَ لي الذل والخضوع ؟. - معاذ الله ! بل أرتضي لك العزة والمَنَعَة ، ويُرضيني منك الاستقامة . - سترَيْن خيراً بقربي ، وعسى أن ألاقي السعد بقربك . - إذن ، اسعَ ما وسعك السعي ، لتطيِّب خاطر والدي ووالدك قبل يوم إفرادي. - ولكني أخشى من نفثات أمك ؛ فتفسد عليَّ طريقي في وَصل ما انقطع ، وخاصة بعد الشجار الذي حدث بيني وبين خالك أبي ربيع وأولاده . - لا عليكَ منها ، فهي امرأة تحمل في صدرها قلباً يتسع لكل من يحبني ، وإن أساء إليها . - إذن ، سأذهب إليهم . - ادعُهم لزيارتنا ، فما أراهم إلا وقد اشتاقوا إليَّ مثل شوقي إليهم . - سأفعل إن شاء الله . - صِلْ والديك ، وأعدْ إليهما ثقتهما بك ومحبتهما لك ، علَّنا نترك هذه الدار إلى دار أبيك ، حيث يطيب لنا فيها المقام . - سأفعل إن شاء الله . هكذا كانت سعاد ، دائمة التفكير في أمها وأبيها وإخوتها ، وهي دائمة التفكير في صويحباتها، تتمنى على الجميع أن يوطدوا أنفسهم على رؤيتها في بيت عباس ، كما كانت قد وطَّدتْ نفسها على العيش في كنفه ، فإنَّ القَدَر قد خط لها هذا المسار، وارتضى لها هذه الحياة التي ما كانت تخطر ببالها من الانزواء والعزلة ، وكلما ناوشتها صورة ربيع هزت رأسها وكأنها تطردها ، وتُبعد صاحبها عن خيالها ، ولِمَ لا ؟ وهي تعلم جيداً أنه مجرد التفكير في غير زوجها خيانة ، لا ترتضيها لنفسها . وهي تعلم أيضاً أنَّ زيجتها من ربيع لم تكن قائمة على خلفية عاطفية ، فلم تجالسه يوماً ، ولم تتحدث إليه إلا بما كان يتسع لهما المقام خلال زيارته لأمها في الأعياد والمناسبات بصحبة أبيه . نعم ! إنَّ ربيع - ابن خالها – شاب لطيف ، مشكور من أهله وجيرانه ، وهو محمود من كل معارفه وخِلَّانه لما كان يتصف به من خِلال كريمة وصفات قروية أصيلة ، وكان يجنح إلى المسالمة ، ويميل إلى التحابب والتواد؛ فيصل أصحابه وجيرانه ، كما يصل أهله وأقرباءه . ولقد كان كغيره من شباب القرية قد تحصَّل على قَدْر ضئيل من التعليم لا يؤهله لشيء ، ولكنه فلاَّح نشِط ليس له إلا الأرض ميداناً لكسب الرزق . وها هو نجم ربيع قد اهتزَّ بعد المواجهة التي حدثت بينه وبين عباس ، وإنه ليتحسس موضع الطعنة التي أدمتْ كبرياءه ، وأهدرت ماء وجهه ، فما قيمة الإنسان بعد أن يُصاب في كرامته وكبريائه ؟. ولكنَّ أعراف هذه القرية وكل القرى من هذه البلاد – تَدين بما يَدين به عباس ، وُتِقُّر له عمله ، وتحسبه له صنيعاً يُمتدح به ، فابن العم أولى بابنة عمه زوجاً لها من أي إنسان آخر. وإنَّ عباس مُحِقٌّ في اعتراضه موكب العروس ، فلو لم يفعل ذلك لأصابه لوم اللائمين ، وعابه لسان العائبين بلواذع الكَلِم ، أما هو الآن فبطل ، أقرت فعله أعراف القرية . إذن ، أصبح عباس بطلاً في نظر الجميع ، وفي نظر خصمه ربيع الذي يمتدحه كلما خلا إلى نفسه ، وهو يصنف الأمور حسب وقائعها ونتائجها . ولكنْ ، هل يبقى ربيع في واد وعباس في واد آخر متخاصمَيْن ؟ فمن يصلح بينهما ما أفسده الدهر؟ ومن يبادي صاحبه بالتواصل وحسن الوئام...؟. فالمسألة أصبحت في عُرْف القرية خلافية بين اثنين ، وباقي من الزمن يوم أو يومان لا ثلاثة لإزالة ماعلق في النفوس من نفور وتغاضب ، ومحو آثار الأكدار التي جلبتها زيجة سعاد ، فطوبَى لمن تجرَّع مرارة الأيام ، وصبر . * * * * * وقف عباس وراء حائط متهدم ، وأخذ يرقب من بعيد دار عمه سالم ، وقد ثبَّت عينيه على باب تلك الدار. كانت الشمس تنحدر في غروبها رويداً رويداً ، وتسحب أذيال ثوبها البنفسجي بشيء من الرفق ، وبشيء من الخجل . ويقبل الليل بطيئاً متسكعاً ، فتسدل العتمة ستائرها على ذلك المكان ، وقبل أن ينطفئ ما تبقى من ضياء ذلك النهار، شخصت عيناه ، فرأى والده يدلف عتبة دار عمه ، وهنا رفرف قلبه بين جوانحه ، ولم يكن يقدِّر سبباً حقيقياً لما أحسه من شعور في حنايا صدره ، أهو القلق الذي يصدُّه عن مواصلة السير إلى دار عمه ؟ أم هو الفرح الذي داخله بمرأى والده ؟. كان عباس بادي التردد ، بادي القلق ، وقد تجمعت حبات العرق على جبهته ، وتلاهثت أنفاسه المتدافعة ، وتذكَّر رصيده السيئ ، فلقد كان مصدراً لإزعاج أبيه وعمه ، وسبباً في إفساد حياتهما الناعمة ، فلطالما أثار غضبهما وأسخطهما عليه ، لهذا تجده قد ازداد تردده واضطرابه ، واستعظم خوفه ، فيتوقف . إنه لا يعرف ماذا يفعل ، ولا يعرف كيف يمكنه القضاء على هذا التردد وهذا الاضطراب . ولم يطل به التفكير، فخطا خطوات سريعة وواسعة ولكنها ثقيلة ، وفي لحظة غياب القرار الأخير، وجد نفسه يطرق باب دار عمه ، وسمع مَنْ يردُّ عليه قائلاً : - تفضَّل أيها الطارق !. ودخل عباس ، وما إن أطلَّ عليهما وجهه ، وما إن احتوتهُ العيون حتى بُهت كلاهما، ولكنه لم يترك لأحدهما فرصة طرده أو نهره ، فباداهما قائلاً : - السلام عليكم !. ثم لم ينتظر رداً ، فتقدم من أبيه يلثم رأسه ويقبِّل يديه متوسلاً منه قبول اعتذاره وغفرانه ، والأب في وجوم . ثم يتحوَّل عباس إلى عمه ، فيفعل معه ما فعل مع أبيه ، يسترضيه ويستشفع منه بابنته ، ويقرفص أمامه قائلاً : – سامحني يا عمَّاه !. والعم لا يحرك ساكناً ، فلم يهتز له رمش عين ، ولم تختلج له شفة ، ولم تتحرك له جانحة ، بل أخذ يستمر في دق القهوة في " المصحان " متجاهلاً إياه وكأن شيئاً لم يكن ، فأثار ذلك حفيظة عباس ، ولكنه اعتدل في جلسته وكظم غيظه ، وقال مخاطباً أباه وعمه : – سامحني يا أبتاه ! سامحني يا عمَّاه !. ولم يرفع عمه عينيه عن " المُصْحان " ، يراقب حبات القهوة وهي تتكسر وتُطحن ، أمَّا أبوه فقد رفع رأسه إلى عباس ، ورفع صوته حيث ابتدره بحديث ينم عن مرارة قد استوطنت فؤاده : - دَعْنا يا عباس ، وانصرِفْ من هنا ، فلا مكان لك بيننا . - ولكني أنا ابنك ، ولا أدري لمن ألجأ . - إلى الشيطان الذي تحالفتَ معه . - أعِدُك يا أبتاه ، وهي كلمة شرف ، أن أبتعد عن كل ما يغضبكم . - وهل لأمثالك وفاء لوعد ، أو كلمة شرف لإنفاذ عهد ؟ . - جَرِّبْنِي هذه المرة ، تجدْني مطيعاً ، سبَّاقاً إلى رضاك . - لا أثق بمن خدعني مرة واحدة ، فما بالك وقد خدعتني مرات عديدة ، وخَذَلْتَني كثيراً حتى أغْضَبْتَني! . - لن أفعل شيئاً يجلب عليَّ غضبك . - لا أصدقك ، فقد أفسدت علينا حياتنا ، وجلبت علينا حصائد ألسنة الناس بالقيل والقال أيها الأحمق . - سأكفُّ عن كل ما يثير غضبك ، ولن أعود . - كفاني ما تسببتَ لي من متاعب ، فارحم شيبتي . - إنها توبة ، والله غفور رحيم . - ليس لي من عمل سوى إصلاح ما تفسده يداك ، فمرة تضرب ومرة تشجّ ، وإني لأخشى أن تقتل فتغرقنا في شرور الناس أيها الشرير . - إنهم يعتدون وأنا أدافع عن نفسي . - بل أنت المعتدي ، وإنهم ضحاياك . - لا تنسَ يا أبتاه أنَّ الشَّرَّ سياج لأهله . ويثور والده ، ويعلو صوته ، ويقول في نزق شديد : - أَوَ تحمينا بحماقاتك أيها الولد العاق ؟!. - معاذ الله يا والدي !... سامحني ! ولن أعود . ثم تحوَّل عباس إلى عمه ، وقال له في رجاء : - ألا تتكلم يا عماه ؟ إنَّ صمتك يقتلني . فقال عمه وهو يلقم البكرج حفنة من القهوة المطحونة : - ليتك تموت لنرتاح من أبقِك ، فأنت مصدر خزينا وعارنا . - لا يا عم ! لا تقل ذلك ، فأنا لم آثم ولم أجنح . وهنا ترك العم سالم البكرج فوق النار المتوهجة في كانونه ، وقال مخاطباً عباس بلهجة لا تخلو من عنف : - وماذا تسمي أفاعيلك أيها الآبق ؟. - لم أفعل شيئاً يجلب العار . - بَلْ فعلت . - لقد أعدتُ حقاً من حقوقي ، وهذا ما يجب أن تُكْبِرُوني عليه . لقد أثار عباس عمه ، فجعله ينفجر في وجهه : - اخرج من داري أيها الكلب ، لا أريد أن أراك . وأحسَّ عباس أنه قد أثار حفيظة عمه واستمطر غضبه ، فأراد أن يلطِّف من أجواء المواجهة ، فقال وهو يبتسم : - ولكني أريد أن أراك ، وكذلك سعاد التي تنتظر المصالحة ، فقد أضناها فراقكم ، وأنحلها الشوق إليكم ، فلا تتركوها ملتاعة لئلا يمسها الضرُّ بسبب القطيعة . وهنا تسمرتْ عينا العم سالم في وجه عباس ، وقد بانت عليه علائم الحب والشوق لابنته ، وكادت تطفر دموعه عند سماعه اسم ابنته " سعاد " ، فَهَزَّ رأسه ، واحتبس صوته ، فاستطرد عباس قائلاً بنغمة حنون : - يا عم ! أنا ابن أخيك ، كما أنَّ سعاد ابنتك ، وإنها لمصونة بقربي ، لن يمسها ضيم ، وكلانا في حاجة إليكم ، وإنها في شوق لرؤيتكم ورؤية أمها وإخوتها جميعاً ، وإنك إن سألتها لتجدنَّها راضية بي ، وأنا بها راض ، ولا ينقصنا سوى رضاكم ووصالكم ، فلا تحرمونا من هذا الرضا، وهذا الوصال . فَيَهُزُّ العم سالم رأسه ، ويقول كَمَنْ يحدث نفسه : - أَبَعْدَ الذي فعلتَه يكون بيننا تواصل ؟. - عهداً عليَّ ألا يكون مني ما يثير إغضابكم ، ولن آتيكم بما لا ترضون به ، ولكم مني السمع والطاعة ، وإنَّ سعاد زوجي ، ولا مفرَّ من التعايش والتواصل . - إن كنتَ تلوي ذراعي بسعاد ، فأنتَ مُخطِئ . - ليس الأمر كذلك ، ولكنك لن تقسو عليها بإطالة زمن القطيعة . - لقد ماتت سعاد ، ودفنتها إلى الأبد . - وما ذنبها يا عمَّاه ؟! . إنها تنتظر منك قولاً آخر. وهنا قال والد عباس مقاطعاً ومشيراً بإصبعه إلى عباس : - وما دخل سعاد يا أخي ؟ . إنَّ الذي يستحق الموت هذا الكلب . فيقول العم سالم : - أعلم يا أخي أنها بلا ذنب ، ولكنْ لأجله . وخيَّم الصمت على أرجاء البيت ، وأخذ والد عباس ينقل نظره بين أخيه وبين ابنه ، وقد هاله ما سمع ، وقال مخاطباً ابنه عباس : - ابرحْ هذه الدار الآن ، ولا تُكثرْ من حديث يعمِّق جراحنا . - لا والله ! لن أبرح هذه الدار إلا باتفاق . - على أي شيء ؟. - إما أن تباركوا زواجنا ، وإما... وإما... وهنا تلعثم عباس ، وتوقف الكلام على لسانه ، الأمر الذي جعل والده ينهره ، طالباً منه أن يفصح . - وإما ماذا يا ولد ؟. - وإما أعيد سعاد إليكم هذه الليلة . وهنا تغيرت لهجة عباس ، وقال على استحياء مشوب بالحزن والأسى : - فهي ما زالت عذراء ، بِكْراً لم يمسسها بشر. وكان ذلك التصريح لَغَمَاً تفجَّر في الحال ، فجُنَّ جنون عمه ، وقام إليه يصفعه على وجهه ، ويقول محتدَّاً : - أيها الكلب !: أتريد أن تلطِّخ شرفنا وتمرِّغه في الوحل ؟ . ماذا يقول الناس إن أَعَدْتَها بعد خمسة أيام من إقامتها بجوارك في دار واحدة ؟!. ولم يحرك عباس ساكناً ، ولم يرفع عينيه في وجه عمه ، وإنما تحنَّنَ بوالده لِيُلَطِّفَ له الأجواء ، فقال وهو يُهدئ من غضب أخيه الذي تراءى له وكأنَّ عفريتاً أزرق قد ركبه عندما سمع مقالة عباس الأخيرة : - يا أخي يا ابن أمي! دعنا من تَوَتُّر الأعصاب ، فكفانا ما لحق بنا من نزق وتوتر. - ألم تسمع ولدك وما يقول ؟. - ما قاله عباس هو نوع من التهديد حتى نقبل بالذي جاء به . وينظر إلى ابنه يسأله التصديق : - أليس كذلك يا ولد ؟. فيرد عباس في عناد : - نعم يا أبتاه ! بل كنت أعني ما أقول ، وإني مصمم على تنفيذ ما طرحته عليكم ، فإما الاتفاق وإما... وهنا يصيح عمه سالم غاضباً : - اخرس يا ولد ! لا تُسمعني ما أكره سماعه مرة ثانية ، وإلا قتلتك . - إذن ، نتفق . ويرد أبوه بهدوء مصطنع : - حسناً ! عد إلى زوجك الآن ، وانتظرا قدومنا غداً ، وسيتم لك ما تود وترغب ، لا لأجلك ، ولكنْ لأجل سعاد . ونظر عباس في وجه عمه الذي لم يرد ، ولم يُبدِ موافقته أو رفضه ، بل ظل صامتاً يفرك يديه بعصبية ، ثم مد يده إلى البكرج الذي فار ماؤه وأُعدت قهوته ، فأنزله وقد صبَّ قليلاً منها في فنجان ، فحرَّكه حركة لولبية بعصبية ظاهرة ، ثم رفعه إلى فمه يرشفه ويتذوق قهوته ، ويصبُّ فنجاناً آخر لأخيه سلامة . وهنا تقدم عباس من عمه خطوات وئيدة ، وقبَّل رأسه في تهيُّب ، وشجعه صمت عمه ونظرات أبيه الباسمة أن قرفص أمامهما وقال : - ياعمَّاه ! أريد أن أشرب من قهوتك ، فَصُبَّ لي فنجاناً وقَدِّمْه لي بيدك ، أكنْ مطمئناً على رضاك ورضا والدي عني . وهنا يعلِّق عمه عينيه في وجهه ، ويقول : - أمري إلى الله !. ويصبُّ القهوة في فنجان ، ويقدمه لابن أخيه ، وهو يقول : - شارب القهوة لا يخون صاحبها ولا يَخْذُلُه ، تماماً كآكل الخبز والملح . - سأكون حافظاً للعهد ، حاملاً للثقة التي لا يزعزعها شيء بعد الآن . ثم ينهض فرحاً مبتسماً ، ويقول بلهجة تبعث الهدوء والطمأنينة في نفس سامعيه: - فلتأذن لي يا عمَّاه بالدخول على امرأة عمي أصالحها وأطلب منها السماح . ولم يرد العم سالم ، واعتبر عباس سكوت عمه إيذاناً منه بالموافقة ، فتهلل وجهه ، وأسرع الخُطى إلى الداخل في همة ونشاط ، يغمره فرح لم يذق له طعماً من قبل ، وظل الأخَوان جالسين وجهاً لوجه ، يتجاذبان حديثاً بينهما؛ فقال سالم : - ماذا أفعل لابنك عباس... يا سلامه ؟. - افعل ما تشاء ، ولن تجد مني إلَّا المباركة . - ولكنْ أخشى إن خسرناه نخسر سعاد ، فنخسر هيبتنا وكرامتنا أمام الناس . - إذن ، ألِنْ له جانبك ، عسى الله أنْ يُصلح حاله ، ويَسعد بزوجه ، ويُسعدها. - أهذا رأيك يا أخي ؟. - لا أريد أن تلوكنا ألسنة أهل القرية بأكثر مما جرى ، وما جرى فقد جرى . نظر سالم إلى أخيه ، وقال وهو يقدِّم له فنجاناً آخر من القهوة : - أخي سلامة ! أنت تكبرني سنَّاً، ولك مني السمع والطاعة ، فبم تشير عليَّ ؟. - لقد أتى عباس بنوايا حسنة ، فدعنا نبادله بأطيب منها ، وإني أشير عليك بأن نذهب جميعنا وندخل عليه داره ، كرامة لسعاد أمام أهل القرية ، فستفرح بمقدمنا أشد الفرح ، وسنزيل من نفسها ذلك الجرح الذي أحدثه عباس بفعلته ، ونشدُّ من أزرها ونقوِّيها أمام أهل القرية ، وخاصة صويحباتها . فاستحسن سالم مشورة أخيه ، وقال : - ونِعْمَ الرأي رأيك يا أخي !. - وإني أخال سعاد ترقب الطريق ، تنتظر دخولنا عليها ، فلا نتركها فريسة للانتظار ، حتى تهدأ نفسها التي تضطرب شوقاً إلينا. - حسناً يا أخي ! - إذن ، موعدنا غداً صباحاً على مرأى ومسمع من الجميع ، نقدِّم لها ما يُقدَّم للعروس في يوم صباحيتها ، فنعطيها فرصة الإفراد إلى بيت أبيها – بيتك يا أخي سالم ، فيستقيم المَنْسِم .