ففي ذاك النهار من عام1973 واجه صديقي أحمد أبوهاشم ضمن مجموعة من شباب السويس رتلا من الدبابات الإسرائيلية التي حاولت احتلال المدينة. تصدي أحمد بقليل من السلاح الفعال لفيلق من دبابات أمريكية جديدة تم رسم علامات الجيش الإسرائيلي, فبدت إسرائيل بوجهها الفعلي كظرف خطاب أمريكي موجه إلي ضمير العالم العربي وهو مصر, واستشهد أحمد ليلحق بشقيقه الأصغر الذي استشهد من قبله بعامين وهو يقاتل ضمن صفوف منظمة سيناء العربية التي أحالت ساعات الوجود الإسرائيلي في سيناء الي ساعات من رعب جسيم. وبين يدي الآن الكتاب الذي أهداه لي أحمد أبو هاشم عام1971 والذي لم أمل من قراءته. عنوانه القياصرة قادمون, للفيلسوف الأمريكي ذي الأصل الفرنسي أموري د. رينكور, وترجمه د. أحمد نجيب هاشم وزير التعليم الأسبق والصديق الشخصي لسيد مؤسسي الثقافة المصرية المعاصرة وهو الدكتور ثروت عكاشة. سمعت أحمد أبوهاشم ذات مرة وهو يقول آه لو كان البترول قد تم اكتشافه أيام محمد علي باشا, لوجدنا في بعثة رفاعة رافع الطهطاوي من يدرس كيفية تحويل هذا السائل من طاقة يتم استنزاف عالمنا العربي بسببها إلي طاقة نبني بها أنفسنا. رددت عليه لقد رفع رفاعة الطهطاوي آذان اللحاق بجميع علوم العصر عبر الترجمة, لذلك فلم يكن في حاجة إلي من يدرس البترول وحده لأنه أعد فرقا من المترجمين, قاموا بتعليم من صنعوا السلاح وقاموا ببناء الترسانة البحرية العملاقة حسب زمانها. وأتذكر تمتمات أحمد وهو يقرأ الفاتحة علي روح الطهطاوي الذي كانت قيادته لبعثة الشباب إلي باريس, فاتحة لبناء مستقبل مختلف عبر الترجمة أولا كمقدمة لتأسيس الإبداع. كان أحمد يخاف من قحط وصول الأفكار القديمة والمعاصرة للأجيال, وكان به جوع شره لمعرفة الجديد في جميع فروع العلوم, وكان لدينا نقص ملحوظ في عملية بناء جسور بيننا وبين جديد الأفكار والعلوم رغم عمل سادة كبار في مجال النشر, عقول عملاقة في حجم عقل سهير القلماوي تلميذة طه حسين الذي أهدانا قرابة الستمائة كتاب في سلسلة الألف كتاب. يستشهد أحمد لتمضي السنون وبدت أشواقه كرسالة معلقة في الهواء إلي تنفس فهمها واستيعابها واحد من تلاميذ د. سهير وهو الدكتور جابر عصفور الذي أهدانا عبر تأسيسه للمركز القومي للترجمة قرابة الألفين كتاب. وما أن أنظر إلي ما تضمه مكتبتي من تلك الترجمات حتي أتوقف عند العديد منها, فأفتح موسوعة جامعة كل المعارف التي شاءت باريس إهداءها للبشرية في بداية القرن الحادي والعشرين حيث جعلت من عام2000 عاما فاصلا يقف في كل يوم من أيامه متخصص في علم ما من العلوم ليلقي محاضرة تقدم خلاصة بسيطة قدمه هذا العلم علي امتداد التاريخ, وامتلكت باريس تأريخا للعلوم والفنون خلال ثلاثمائة وخمس وستين محاضرة, ثم قدم منها المركز القومي للترجمة ستة مجلدات. وكلما تصفحت مجلدا من تلك الموسوعة فصورة أحمد أبو هاشم تأتي لخيالي تحدثني بتساؤل ألم يكن في بلدنا من يشرح تلك الموسوعة بمحاضراتها لعامة الجمهور, علي الأقل ليكون العلم بما قدم غيرنا في متناول أيدينا؟ وأنظر إلي حالات التنافر والتباعد بين أركان مؤسساتنا فلا أجد فيها من يكمل ما بدأته مؤسسة أخري, فلم يكن الإعلام قادرا علي الاقتراب من أرض الثقافة خشية أن يبرز وجه من الوجوه التي تملك الإضافة فيصعد إلي مكانة تمثل حلما لواحد من العاملين بالإعلام, ولم يكن في نطاق التربية والتعليم من هو حريص علي تبسيط علوم البشرية لتكون مناخا نرتقي به, خوفا من أن تسنتير عقول الطلاب فيعتمدون علي أنفسهم في التحصيل والفهم فيمتنعون عن الدروس الخصوصية. رحم الله الشهيد الذي أتذكره كلما أضفت لمكتبتي كتابا مترجما يضيف لي اتساع رؤية وتفاعل وفهم لما يجري حولنا في العالم الذي نحياه فنبتهج لأن البشرية لايتوقف فيها نهر التفكير المبدع الذي يغسل القلب مما فيه من اكتئاب.