(بمناسبة الذكرى السنوية العشرين للإبعاد إلى "مرج الزهور" 17/12/1992) بقلم: الأسير المحرر (أحد المبعدين الى مرج الزهور)؛ عزام الشويكي (فلسطين) غادة زقروبة ؛ (تونس) ما أجمل الذاكرة حين تعيدك الى ماض قاس ولكنه التاريخ المكتوب بأحرف من نور و نار ومرصع بالماس الثمين. ففي حضرة من صنعوا التاريخ تتوقف اللغة عاجزة وتُشل الأحرف وتختصر كل المعاني وتتفتح انهار الكلام لتجرف مع جريانها كل منحرف عن نهج الثورة والمقاومة. في الوقت الذي حطت الرحال بالرجال إلى "مرج الزهور"، هذا المكان الذي لا يصلح للحياة، الثلج والمطر من فوقهم والوحل من تحتهم ولا مكان للجلوس او حتى للوقوف للصلاة من وعورة المنطقة. وكل ما حولك يثير الرهبة فالمكان محاط بمواقع عسكريه اسرائيليه وجيش لحد والجيش اللبناني والسوري وحزب الله والكل يداه على الزناد ومستعد ان يطلق النار على كل شيء متحرك . لم تكن دولة الكيان الصهيوني قد ألقت بنا الى مرج الزهور في لبنان من المريخ بل من فلسطين ارض المعارك الطاحنة حيث الكف يلاطم المخرز والدم ينتصر على السيف وحيث حين تلقي حجرا او تطعن بسكين او تطلق النار انما تقاتل كل قوى الامبريالية و الاستكبار العالمي والرجعية والتخلف. برغم برودة الجو اللاسع كان مؤسس عشاق الشهاده الجناح العسكري للجهاد الاسلامي في ذلك الوقت الشهيد "عصام براهمة" منذ يومين اي يوم الخميس 12 1992 قد سدّد ضربة قاسمه لقادة الوحدات الخاصه التابعه للمخابرات الصهيونيه حين قتل عدد منهم في اشتباك مسلح في قرية عنزا قضاء جنين ولهذا السبب كان يُفرض منع التجوال على الضفة الغربية كاملة. ورداً على هذه العملية وعملية اختطاف الجندي الاسرائيلي نسيم تيلدانو وقتله بعد فشل التوصل لإطلاق سراح أسرى، جاء تصريح رئيس وزراء العدو (رابين) بآتخاذ قرار سيفاجئ العالم. منذ ايام كانت كرامة الله ان فك اسري من سجون العدو وما أجمل نور البرق وهو يضيء الحرية على أنغام الرعد وهطول المطر، حتى تسمع هدير الدبابات وهذا الصوت الدخيل الذي يعكر الأرض والسماء ويختطفك من فراشك بملابس نومك، لا ينتظرون أن تستبدلهم لان ذلك في العرف اليهودي أسلحة دمار شامل !. في هذه اللحظات من تاريخ 14 992 اصبحت انا والقيد والسجان وهدير الدبابات ورعد الطائرات، ثلاثة أيام ونحن في الطرقات حتى أضجعنا فوق تلة من الحزن نشتكي نار الحنين، فآنتقلنا بل نُقلنا في بقايا الاخرين . 417 مجاهدا حطت بهم الأقدار في تل العقارب والثعابين ولكن لبشاعة هذا الاسم سميت "مرج الزهور" نسبة لأقرب قرية لبنانية تحدها. وقف الرجال الجباه في هذه المحطة لتقدير الموقف وهنا كان الاختبار الحقيقي لكل مناضل فينا وكل الخيارات مفتوحة اما ان تستقبلنا العواصم العربيه متفرقين كل عشره في عاصمة ويستقبلنا الإعلام ويمجد بنا لمدة يوم او يومين ثم توزع الأسماء على الاجهزه الامنيه ثم نتوه في الشوارع كما حصل للذين سبقونا، ونتيجة التيه الذي عاشوا فيه انهم باعوا الوطن بثمن بخس. كان الاختيار يخرج للعالم مسرعا من وسط الوحل والطين والبرد والجوع والخوف أن وقف الجميع في صفوف ثم ساد الهدوء دقيقة ليقف أمامهم الشيخ الشهيد "عبد العزيز الرنتيسي" والشيخ "عبد الله الشامي" وبعض شيوخ فلسطين وسادتها وقيادات العمل المقاوم فتأخذ هذه الثلة المؤمنة حقا تقرأ علينا ما اتفقنا عليه، بدأ الشهيد الرنتيسي يقرأ هذا النشيد الخالد: "نقسم بالله العظيم أن لا نترك هذا الخندق إلا الى فلسطين". وكان الجميع يردد القسم أمام عشرات وكالات الأنباء العالمية، وبرغم البرد والمطر كان الجو دافئ وإيماني مع هذا القرار الذي أبكى معظم رجال الصحافة . لم تكن العودة الى فلسطين سهلة، سبعة عشر مسيرة "مسيرة العودة" و"مسيرة الأكفان" و"مسيرة الاعتصام على حدود الوطن" لمدة ثمانية أيام تحت العراء نفترش الوحل ونلتحف الشتاء ولسان حالنا يلفظ ليس منا من قال جرحي وليس منا من قال نفسي، عائدون للديار، فلسطين هناك بانتظار الانفجار. لم تكن القضية مجرد إبعاد نشطاء المقاومة عن وطنهم وبيوتهم إنما سياسة قد تصبح أمر واقع حتى لا يبقى في الوطن إلا من يرضى لنفسه ان يجلس على باب المستعمرات ويمسح أحذية المستوطنين. كانت تخلع أشجار الزيتون من الجذور وترميها خلف الحدود وتحت أشعة الشمس حتى تنشف وتموت ولكنها اخضرت وأورقت وضربت جذورها في الأرض أكثر حتى تعود ومستفيدة من الماضي لذلك كان الصمود الأسطوري للمبعدين قد أغلق باب الإبعاد والى الأبد ووضع معالم الطريق لكل التائهين وأن العودة أكثر من ممكنه . مرج الزهور ؛تاريخ وجع يعرّي كرامة كل عربي. مرج الزهور؛ ذاكرة لِلَعنة وَهْم الكرامة العربية حين تخاذل العرب وزادوا في نزيف خذلانهم، خذلان رجال الوطن والعزة والفعل الذين ظُلموا على مرأى العالم وتوسدوا العراء لولا أن أفئدة من الإخوة الشيعة ( حزب الله) والفرس (ايران) هوت إليهم وأدفئت برد الوجع في دواخلهم. "عرب أطاعوا رومهم.. عرب، وباعوا" كل شيء حتى الكرامة. لكن رجال فلسطين يملكون من المواجهة ومن الإرادة ما يجعلهم لا يأبهون لوضاعة العروبة وخذلانها وما يزيدهم وجعهم وقهرهم الا إصرارا على افتكاك العودة من أنياب العدو الحقير الوضيع. مرج الزهور صفعة الشموخ الفلسطيني على وجوه الصهاينة والعرب على السواء. ولأن "معدن الذهب الرّغام" فمعادن الرجال لا تُعرف الا عند الشدة. هم رجال العز الذين تلحفوا العراء وتوسدوا البرد والثلج والوحل فلمع معدنهم الذهبي حينها، حين لم يتساقطوا خوفا ورعبا، حين لم يتنازلوا عن كرامتهم وكرامة أرضهم، حين حفروا في واجهة وطنهم خندقا للحرية يمتدّ صدى رجعه الى كامل أصقاع الدنيا. مرج الزهور عرّت الجميع وكشفت قبح الدهر الذي لوّنه الصغار بلون الذلّ. مرج الزهور عرّت الجميع وأعلنت أن لا للحياد المقيت. مرج الزهور كشفت حقيقة العربان وهذا ما قاله المتنبّي وكأنه قول الزمان العربي المتأصّل في الضآلة: "ودَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ *** وإنْ كانتْ لهمْ جُثَثٌ ضِخامُ أرانِبُ غَيرَ أنّهُمُ مُلُوكٌ *** مُفَتَّحَةٌ عُيُونُهُمُ نِيَامُ " رجال مرج الزهور كانوا هم الملوك العظام وكانوا صيغة الشموخ عند سدرة المنتهى الأرضي، كانوا عُصاةً على الانكسار، عُلاةً كالمجد المتعالي. في ظروف القهر المحيط والظلم الصهيوني مترامي الأطراف والخذلان العربي يكابدون وحدهم جمر الوجع وحرقة الإبعاد. ووحدهم أتقنوا رسم قافية الشموخ على ناصية قصيد المقاومة في الإبعاد. على أقدامهم الملطّخة بوحل الوديان وعلى أجسادهم الملسوعة بالبرد تصدّت الإرادة مقاومةً وعزمًا أكبر على غرس مفاهيم الكرامة والوطنية والمقاومة غرسا طيبا "أصله ثابت وفرعه في السماء"، اكتسب ثباته من ثباتهم وعلوّه من علوّهم. هم رماة العزّ في واجهة التخاذل العربي وهم من تمركزوا على الأرض كالجبال العاليات لا ريح ينزلها عن كبرياء علوّها ولا رعد يُرهبها فتتساقط خوفا. كانوا أسود الميدان المكشوف للعالم كلّه، مثبتين ان الحق ثمنه غالٍ وواضعين عدوّهم في موضع سخيف ومخزٍ أمام الرأي العام العالمي، هذا العدوّ الذي لا يتوانى في الكذب المستمر حتى يظهر في مظهر الضحية امام العالم إذ به ينكشف بكل حقارته بدكّ رجال، يطالبون بالحرية،في أرض لا يكسوها غير العراء والحشرات السامة بمنتهى اللاإنسانية والعجرفة الكاذبة اللعينة. ولأن الشيء من مأتاه لا يُستغرب، فليس غريبا على مزبلة التاريخ (الصهيونية) أن يخرج من عمقها غير النتن. يا عاصمة المجد يا أرض مرج الزهور بل يا أرض قلوب أزهرت إيمانا بالقضية وأينعت حلما بالحرية وأثمرت عودة. يا عاصمة الفقراء يا أرض مرج الزهور، يا صيحة الحق التي تصدح في قلوب الفقراء والمستضعفين لتلهب فيهم شعورهم بأحقيتهم بالوجود مقاومة فعّالة. يا صيحة الحق التي تصدح في وجه الظلم لتعطي درسا للشعوب العربية التي ذلّت لحاكميها أن لا صوت يعلو على صوت الحق ولا إرادة قوة تنكسر و انه بالمقاومة تفتكّ الحرية المنهوبة.