عدن فري|العرب: معارضة الإسلام السياسي في مذاقه الإخواني لم تعد تقتصر على التيارات المدنية الليبرالية واليسارية وسواها، بل توسعت وامتدت لتطال أيضا التيارات السلفية في شتى أرجاء العالم العربي الإسلامي. وللمعارضة السلفية للإخوان وجاهتها وميزتها لكونها تنطلق من المدونة الدينية الفقهية التي تشهرها الجماعة في وجه الجميع، أوَ ليست أدبيات البنا وقطب وغيرهما محاولة لإكساء السياسة لبوس الدين؟ هنا تتخذ الآراء السلفية أهمية في النقد والتقويض ودحض المقولات الإخوانية، إلى حد اعتبر فيه البعض أن أقوى جبهات صدّ المشاريع الإخوانية (على اختلاف تكتيكاتها) أصبحت تؤمنها اليوم القراءات والانتقادات السلفية. محمد سعيد رسلان علامة وداعية سلفي مصري، يصنف ضمن الجيل الشاب من الدعاة السلفيين (ولد عام 1955) ويعدّ أحد أبرز علماء الحديث أصبح يمثل بمفرده أحد المصدّات الصلبة للدعاوى الإخوانية المستشرية في شتى أرجاء العالم العربي. ومقاومته للتيار الاخواني (لاسيما المصري منه) يؤمنها عبر سلسلة من الخطب والمحاضرات حظيت بانتشار واسع وتداول كثيف. في محاضرة ألقاها يوم 25 مايو 2012 (أي قبل وصول مرسي والإخوان لحكم مصر) في محافظة المنوفية، أثار سعيد رسلان سؤالا حارقا (بمقاييس تلك اللحظة) مفاده: ماذا لو حكم الإخوان مصر؟ وكان السؤال منفتحا على وجوب دراية الرجل بالجماعة، وعلى ضرورة التنبه لما قد يحدث بتحقق الفرضية (وهو ما حصل بعد أشهر قليلة بمفعول انتخابات يشاعُ أنها دُبّرت بليل). إجابة رسلان يومئذ كانت تنمّ عن معرفة دقيقة بتفاصيل الجماعة وما تضمره حيث قال. «ماذا لو حكم الإخوان مصر؟ والجواب مُجمل ومُفصّل. المُجْمَلُ أن تصير جمهورية مصر العربية، جمهورية مصر الإخوانية. وأما المفصّل فهو أن يكون الرئيس الفعلي لمصر المرشد الأعلى للإخوان المسلمين. وأن تدار مصر- داخليا وخارجيا- من مكتب الإرشاد لا من قصر الرئاسة إلا إذا انتقل المكتب إلى القصر. وثانيا أن تكونَ مصلحة الجماعة مقدّمَة على مصلحة مصر، ولن يكون ذلك إلا بحيلة نفسية تصوّر لهم أن مصر هي الجماعة وأن الجماعة هي مصر. وثالثا؛ أن يتم تفريغ جميع أسرار الدولة العليا وأدقها في ذاكرة الجماعة وسراديبها، وذلك لضمان أطول مدّة في حكم البلاد، ولإعادة صياغة التاريخ المعاصر على نحو يُنشئ أجيالا لا تعرف إلا مصر الجماعة والجماعة مصر. رابعا؛ أن تكون التقيّة قاعدة السياسة الداخلية والخارجية، والتقية أن تقول شيئا وتضمر غيره. وخامسا؛ أن تكون المرجعية الإسلامية للأصول العشرين لحسن البنا لا للكتاب والسنة، وأن يُفهمَ الإسلام من خلال الأصول العشرين وهو عكس للواقع وأخذ باللامعقول». المتأمل في ما تقدّم يلحظُ أن الرجل كان يستقرأ ما سيحدث بمجرد وصول الإخوان إلى السلطة. استشعار للزمن الإخواني- الذي بدا قادما حتما آنذاك- اكتسبه رسلان من معرفته بخبايا التنظيم الإخواني الأممي الذي يعلي «الجماعة» على الوطن (مصر أو غيرها). لكن نقد رسلان لم يقتصر على الملمح السياسي الصرف، بل امتدّ أيضا إلى المنطلق الديني، وهو ملمح تعتبر الجماعة أنه «قطاعها الخاصّ». مأخذ آخر ينطلق من تأميم أو مصادرة تتقنهما الجماعة للمشترك الديني، هي في نظر دعاتها وأساطينها ومكتب إرشادها القيمة على الدين الإسلامي، لذلك كانت دائبة الامتشاق للشعار الأخاذ ظاهرا «الإسلام هو الحلّ» وغيره من الشعارات والمبادئ. هنا في هذا المفصل قدّم رسلان محاضرة أكد خلالها «ابتلاء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث بأقوام صدروا في الدعوة عن الغيرة والحماسة المفرطة من غير علم يهدي.. وهؤلاء الأقوام نياتهم موكولة إلى الله تبارك وتعالى، ولكن الذين أتوا به ممن سموه دعوة إلى الله، ما هو إلا صد عن سبيل الله رب العالمين. والملاحظ في أولئك الأقوام أعني في رؤوسهم ومرشديهم وقادتهم وأمرائهم أنهم ليسوا من أهل العلم وإنما من أهل الثقافة الإسلامية، فعرفوا شيئا وغابت عنهم أشياء، ولما قدموا فتسنموا ذرى ليست لهم تكبروا على النصيحة وظنوا أنفسهم فوق التوجيه والإرشاد، فساروا بمن خلفهم من أتباعهم على غير سبيل وأوردوهم الموارد، وكثير منهم إن لم يهلك بما اعتقد، فقد هلك بما انتقد، حتى كفّروا المسلمين ووضعوا فيهم السلاح وتآمروا عليهم وعلى تفكيك الدول الإسلامية وكل ذلك التقاء مع مخططات أعداء الإسلام وهو في النهاية مؤد إلى كثير من الشرّ الذي سيحيط بكثير من المسلمين بلا جريرة ولا ذنب». نقد رسلان في هذا المفصل جمع بين الديني والسياسي، وكان النقد متناسبا مع المتصوّر الإخواني ديني المنطلقات، سياسي الغايات. وفي محاضرة أخرى فتح رسلان النار على الإخوان بلا مواربة حين أشار إلى أن الإخوان كانوا «لا يأخذون بالهدي الظاهر، لا يلتحون ولا يأخذون بالسنة الظاهرة من هدي النبي (ص) وكان هذا معروفا عنهم والناس يعرفون ذلك، ولما حسبوا أنهم مُكنوا أطلقت جموعهم وفلولهم لحاها، فاشتبه الأمر على الناس فصار الذين يأخذون بالهدي الظاهر تمسكا بسنة رسول الله، كالإخوان المسلمين ظاهرا عند العوام الذين لا يميزون هذا من هذا. ولما وقع عليهم ما وقع بما قدمت أيديهم (بعد إسقاط مرسي) جاءهم الأمر بحلق لحاهم وصار الذين يأخذون الهدي الظاهر الإخوان المسلمين عند العوام». وأضاف بأن «ضالا من ضلاّلهم يقول في إشارة رابعة التي زعموا أن جبريل نزل بها، وأن الله تجلى عليها فكان أثبت من الطور، فإن الجبل لما تجلى له ربنا جعله دكّا فتجلى على إشارة رابعة وهي على حالها...» وكان يشير إلى الشيخ جمال عبدالهادي الذي خطب في ميدان رابعة العدوية أثناء الاعتصام الشهير وقال استناده الغريب الذي أثار موجة واسعة من الرفض والانتقاد من رسلان وغيره. ثم قدّمَ رسلان دليلا آخر على اللعب الإخواني على الوتر الديني بقصد استمالة أقصى ما أمكن من عقول بسطاء الناس، حين ذكّر بأن «مجرما ضالا (والقول له) من مجرميهم وضلالهم يزعم أنه على الحق وعلى السلفية، وهو تكفيري جلد عامله الله وقطع الله لسانه». يقول هذا الضالّ المسلم: «من شك في عودة مرسي فهو يشك في الله..» يا رجل اتق الله بك، أأذهب عقلك؟، وكان يقصد الداعية الإخواني فوزي السعيد الذي ألقى بدوره خطبة ملهبة على منصة ميدان رابعة. وصف سعيد رسلان جماعة الإخوان بأنهم أقوام من المشعوذين، واليوم تركوا أهل السنة الذين يتحلون بالهدي الظاهر ومعهم منحرفون من السلفيين الإخوانيين، ومن السلفيين القطبيين هم أيضا منحرفون بل انحرافهم أكبر من انحراف الإخوان المسلمين. فهم الذين قلقلوا القاعدة الشعبية حتى وقع في مصر ما وقع، والإخوان كانوا أقل وأذل وأحقر من أن يحركوا جموع الشعب المصري وإنما هي مظاهرة يخرج فيها من يخرج ليهتف، متحلقين في حلبات الأقزام «يسقط ويعيش.. ثم يعودون إلى بيوتهم..». ما أورده الداعية السلفي المصري سعيد رسلان من نقد للأراجيف الإخوانية (دينيا وسياسيا) لم يكن الموقف السلفي اليتيم أو الوحيد، بل هو جزء من موجة غضب عارمة تأتي هذه المرة من الحقل الديني السلفي. ومثلما أسلفنا الذكر فإن «الامتعاض» السلفي يكتسب وجاهة كبرى لأنه أولا يتحركُ من ذات الحقل الفكري الذي تزعم الجماعة أنها تمتلكه أو تتزعمه. ومثلما تنتقد القوى السياسية المدنية جماعة الإخوان من زاوية اقتحامهم للمعترك السياسي بشعارات إسلاموية، وتستعمل القوى المدنية في نقدها قرائن تنهلُ من القاموس المدني الحداثي الديمقراطي، فإن دعاة السلفية وتياراتها تهاجم الإخوان في عقر مدونتهم، أي الحقل الديني. يشارُ هنا إلى أن الهجوم السلفي على الإخوان والتبرؤ من أراجيفهم وأباطيلهم، لم يكن وليد لحظة "ما بعد مرسي" بل يعودُ حتى إلى ما قبل ثورة 25 يناير، ولعلّ الداعية سعيد رسلان دليل على ذلك. ولا ينسحب كذلك على القطر المصريّ فقط، بل يمتدّ إلى كلّ أرجاء العالم العربي الإسلامي أو في كل فضاء وطأته آثام الجماعة. قضية الإخوان المسلمين وتعدد خصومهم تحيل على أن الجماعة أمام ضرورة حتمية بمراجعة عميقة في منطلقاتها، فإما أن تعود جماعة دعوية صرفة أو تنزع عنها رداء التديّن وتدلف المعترك السياسي بمقولات سياسية صرفة، وتجنب البلاد والعباد مقتَ وجهها وقفاها.