ندوة في جامعة صنعاء بعنوان " ثورة 21 سبتمبر.. عقد من الصمود في مواجهة العدوان والوصاية"    "العفو الدولية": "الفيتو" الأمريكي السادس ضد غزة ضوء أخضر لاستمرار الإبادة    وزير الخدمة يرأس اجتماعا للجان دمج وتحديث الهياكل التنظيمية لوحدات الخدمة العامة    إصلاح المحويت يقيم مهرجاناً خطابياً وفنياً بذكرى التأسيس ال35    تعز.. خسائر فادحة يتسبب بها حريق الحوبان    الأرصاد يتوقع هطول أمطار رعدية على أجزاء من 6 محافظات    انطلاق بطولة كأس الخليج للناشئين في قطر    الشيخ عبدالملك داوود.. سيرة حب ومسيرة عطاء    بمشاركة 46 دار للنشر ومكتبة.. انطلاق فعاليات معرض شبوة للكتاب 2025    شباب اليمن يحيون ذكرى 21 سبتمبر بفعاليات كشفية وثقافية ورياضية    وفاة 4 من أسرة واحدة في حادث مروع بالجوف    0محمد اليدومي والإصلاح.. الوجه اليمني لانتهازية الإخوان    هولوكست القرن 21    نزال من العيار الثقيل يجمع الأقرع وجلال في نصف نهائي بطولة المقاتلين المحترفين بالرياض    بورصة مسقط تستأنف صعودها    إب.. وفاة طفلين وإصابة 8 آخرين اختناقا جراء استنشاقهم أول أكسيد الكربون    البنك المركزي يوجه بتجميد حسابات منظمات المجتمع المدني وإيقاف فتح حسابات جديدة    مظاهرة غاضبة في تعز تطالب بسرعة ضبط قتلة المشهري وتقديمهم للعدالة    زرعتها المليشيا.. مسام ينزع 1,103 لغماً خلال الاسبوع الثاني من سبتمبر    بسبب الفوضى: تهريب نفط حضرموت إلى المهرة    الصحفي الذي يعرف كل شيء    وكالة تكشف عن توجه ترامب لإصدار مرسوم يرفع رسوم تأشيرة العمل إلى الولايات المتحدة    خصوم الانتقالي يتساقطون    قيادي انتقالي.. الرئاسي انتهى والبيان جرعة تخدير    ضربة أمريكية لسفينة فنزويلية يتهمها ترامب بتهريب المخدرات    البرازيل تنضم لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام العدل الدولية    قلت ما يجب أن يقال    الرشيد يصل نهائي بيسان ، بعد الفوز على الاهلي بهدف نظيف، وسط زخم جماهيري وحضور شعبي الاول من نوعة منذ انطلاق البطولة    الرئيس المشاط يعزي في وفاة الشيخ عبد الله أحمد القاضي    بن حبريش: نصف أمّي يحصل على بكلاريوس شريعة وقانون    المركز الثقافي بالقاهرة يشهد توقيع " التعايش الإنساني ..الواقع والمأمون"    متفوقاً على ميسي.. هالاند يكتب التاريخ في دوري الأبطال    مانشستر سيتي يتفوق على نابولي وبرشلونة يقتنص الفوز من نيوكاسل    أين ذهبت السيولة إذا لم تصل الى الشعب    الربيزي يُعزي في وفاة المناضل أديب العيسي    محافظة الجوف: نهضة زراعية غير مسبوقة بفضل ثورة ال 21 من سبتمبر    الكوليرا تفتك ب2500 شخصًا في السودان    جائزة الكرة الذهبية.. موعد الحفل والمرشحون    البوندسليجا حصرياً على أثير عدنية FM بالشراكة مع دويتشه فيله    الفرار من الحرية الى الحرية    ثورة 26 سبتمبر: ملاذٌ للهوية وهُويةٌ للملاذ..!!    الصمت شراكة في إثم الدم    الهيئة العامة للآثار تنشر القائمة (28) بالآثار اليمنية المنهوبة    نائب وزير الإعلام يطّلع على أنشطة مكتبي السياحة والثقافة بالعاصمة عدن    الوفد الحكومي برئاسة لملس يطلع على تجربة المدرسة الحزبية لبلدية شنغهاي الصينية    موت يا حمار    أمين عام الإصلاح يعزي الشيخ العيسي بوفاة نجل شقيقه ويشيد بدور الراحل في المقاومة    رئيس هيئة النقل البري يعزي الزميل محمد أديب العيسي بوفاة والده    حكومة صنعاء تعمم بشأن حالات التعاقد في الوظائف الدائمة    الامم المتحدة: تضرر آلاف اليمنيين جراء الفيضانات منذ أغسطس الماضي    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    خواطر سرية..( الحبر الأحمر )    اكتشاف نقطة ضعف جديدة في الخلايا السرطانية    100 دجاجة لن تأكل بسه: قمة الدوحة بين الأمل بالنجاة أو فريسة لإسرائيل    في محراب النفس المترعة..    بدء أعمال المؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم في صنعاء    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    6 نصائح للنوم سريعاً ومقاومة الأرق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توفيق الحكيم والتباين الفكري بين الشرق والغرب بقلم:رائد الحواري
نشر في الجنوب ميديا يوم 27 - 01 - 2014


توفيق الحكيم والتباين الفكري بين الشرق والغرب
رواية عصفور من الشرق من الروايات التي تناولت فكرة التباين بين الشرق والغرب، وهي تتماثل مع رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" التي أعطتنا صورة الغرب بالنسبة للشرقي، وفي هذا العمل استطاع توفيق الحكيم أن يطرح فكرته عن الحضارة والثقافة الشرقية والغربية، متناولا الإيجابيات والسلبيات لكنا منهما، ويمكن لأي منا أن يتعاطف معه في فكرته إن كانت عن الشرق أو عن الغرب، حتى انه يجعلنا نقع في حيرة الاختيار والمفاضلة بينهما، وهذا الأمر يحسب للكاتب، وذلك لأنه أعطانا حرية الاختيار بينهما، فلنا أن نفضلهما معا، أو أن نختار عناصر جيدة من هذه ومن تلك، ولا نرفض أيا منهما بشكل كلي، من هنا استطاع توفيق الحكيم من خلال "عصفور من الشرق" أن يجعلنا نعيش العالمين معا وان نقبل بهما دون أن نلغي احدهما، فالكمال المطلق غير موجود لا في الشرق ولا في الغرب، كما أن الرفض الكلي لا يمكن أن يكون صحيحا وصائبا في التعاطي مع الفكر والحضارة، وهنا نقول سر نجاح الحكيم في رواية، فهي يعطي الحقيقة النسبية لواقع للشرق وللغرب معا، فكان اقتناع "ايفان" بمنطق "محسن" عن الحضارة الشرقية يمثل هذه النسبية، وما يجعلنا نتوقف عند هذه الرواية، رغم الهوة الزمنية التي تفصلنا على كتابتها، هو انتشار فكرة "الأنا المطلق" عند البعض بحيث يتم إقصاء الآخرين وتجاوزهم بعقلية عدمية الاستفادة منهم، وما حدث في العراق وليبيا ومصر وما تطالب به (المعارضة السورية) يمثل حالة الرفض المطلق للآخر، رغم انه منا وفينا، من هنا تأتي أهمية رواية عصفور من الشرق، وسنحاول هنا إضاءة بعض هذه الجوانب الحضارية والفكرية التي طرحها الحكيم في روايته.؟
أول هذه المفارقات التي يطرحها الحكيم تتناول مكان العبادة، فعند الشرقيين من غير المقبول دخول مكان عبادة لآخرين نخالفهم في العقيدة، لكن هذا الفعل من الأمور الطبيعية جدا عند الغرب ولا يحتاج إلى ذلك الجهد النفسي والذهني للإقدام عليه "تعد نفسك لدخول الكنيسة ما معنى هذا ؟... إنا ندخلها كما ندخل القهوة ... أي فرق ؟؟...هنا محل عام، هنا محل عام ...." ص 16 هذه الفكرة من المسائل المهمة التي تجعلنا نتفهم الآخر ونقترب منه ونزيل الحواجز والغباش بيننا، فلا يوجد ما يمنع من مشاهدة طقوس العبادة عند الأخريين، وحتى مشاركتهم، وما كان يقوم به ياسر عرفات من مشاركته في أعياد الميلاد في كنيسة المهد إلا احد هذه الصور. فالمكان هنا هو مكان عام ويحق للجميع دون استثناء دخوله، وهذا الأمر الاقتراب من الآخر يجعل الجميع أكثر قربا وفهما، وهنا تكمن أهمية فكرة أزالت (التابو) عن المكان.
ومن المفارقات الإيجابية للحضارة الشرقية أنها منحت الناس فضاء أرحب وأوسع من الحضارة الغربية، ويكمن ذلك في أن فكرتها عن الكون والحياة فتجعل الناس يعيشون في عالمين، عالم ارضي وآخر سماوي
"يخيل إلي أنها الحضارة الأوربية الحديثة . لا تسمح للناس أن يعيشوا إلا في عالم واحد ... إن سر عظمة الحضارات القديمة أنها جعلت الناس يعيشون في عالمين .... فالحضارة التي تشيد الأهرام .لا يمكن أن تجهل العلوم النظرية والتطبيقية، ومع ذلك العلم لم يفسد من الرؤوس زجاجات الصور، التي تمثل الحياة الأخرى، تلك الحضارات أسميها أنا الحضارات الكاملة" ص166و167
الحكيم يضعنا أمام حالة التباين بين فكرة الشرق عن الحياة وفكرة الغرب، وهو هنا ينحاز بشكل كلي إلى الأولى، وذلك لان الحضارة الغربية تحرم الإنسان من متعة الحلم الحياة الأخرى فالأفضلية التي يقدمها الكاتب مقنعة في هذا الجانب، ولنا أن نأخذ بها.
وهناك حوار طويل نسبيا يطرحه الحكيم يدور بين "محسن" المصري و"إيفان" الروسي الممتعض من الماركسية والحاقد على الفاشية، فيطرح المفاضلة بين الفكر الشرقي الذي يتمثل بمحبة السيد المسيح والإيمان الذي قدمه محمد (ص)
وبين الغرب والدين الجديد الماركسية وإنجيلها "رأس المال" والفاشية إيمانها بالزعيم"، وهنا يتبين لنا عقم الحضارة الغربية التي تسيرها المادية، والتي عملت على قتل وسفك دماء البشر وإحداث الخراب والدمار في العديد من الدول والبلدان، وهنا لا بد أن نشير بانحياز الكاتب بشكل واضح إلى شرقيته، حيث لم يتناول بتاتا أي جوانب إيجابية في هذا الحوار، واكتفى بذكر السلبيات فقط، وهذا الأمر جعل القارئ يشعر بعدم حيادية الكاتب، والتي من المفترض أن تكون حاضرة لكي يقنعنا بفكرته.
" كيف ذلك؟...إن الروسيا الآن هي جنة الفقراء !.... فأجاب الرجل كالمخاطب لنفسه:
أتظن؟ أن جنة الفقراء لن تكون على هذه الأرض !... وصمت الرجل قليلا، ... ثم قام إلى زجاجة الفودكا فتناول منها جرعة وهو يقول:
أنت أيضا ممن يعتقدون في هذه الخرافة: جنة الفقراء؟!...
"وجود أغنياء وفقراء وسعداء وتعساء على هذه الأرض ،!....من اجل هذه المشكلة وحدها ظهرت الرسل والأنبياء!...
يا مسيو إيفان... لست أرى رأيك في أن المشكلة لم تحل !.. إن الأنبياء قد جاءوا من السماء بخير الحلول !...
-أنبياؤكم انتم ؟.. نعم هذا من الجائز!....إن الشرق قد حل المعضلة في يوم ما...هذا لا ريب فيه، إن أنبياء الشرق قد فهموا المساواة لا يمكن أن تقوم على هذه الأرض، وانه ليس مقدورهم تقسيم مملكة الأرض، بين الأغنياء والفقراء، - فادخلوا في القسمة "مملكة السماء"، وجعلوا أساس التوزيع بين الناس " الأرض والسماء " معا : فمن حرم الحظ في جنة الأرض، فحقه محفوظ في جنة السماء !...هذا جميل !.... ولو استمرت هذه المبادئ، وبقيت هذه العقائد حتى اليوم، لما غلى العالم كله في هذا الأتون المضطرم، ولكن "الغريب " أراد هو أيضا أن يكون له أنبياؤه " الذين يعالجون المشكلة على ضوء جديد، كان هذا الضوء منبعثا هذه المرة، من باطن الأرض، لا آتيا من أعالي السماء... هو ضوء العلم الحديث، فجاء نبينا "كارل ماركس" ومعه إنجيله الأرضي"رأس المال" وأراد أن يحقق العدل على هذه الأرض، فقسم "الأرض" وحدها بين الناس، ونسى "السماء"فماذا حدث؟ ... حدث أن أمسك الناس بعضهم برقاب بعض، ووقعت المجزرة بين الطبقات تهافتا على "هذه الأرض".
- لقد ألقى قنبلة " المادية والبغضاء واللهفة والعجلة، بين الناس، يوم افهم الناس إن ليس هنالك غير " الأرض " – يوم اخرج " السماء" من الحساب، لان علم الاقتصاد الحديث
لا يعرف السماء !... أما أنبياء الشرق فقد القوا زهرة "الصبر والأمل في النفوس، يوم قالوا للناس : لا تتهالكوا على الأرض، ليست الأرض كل شيء ! إن هنالك شيئا آخر غير " الأرض " سيكون لكم شيء آخر يدخل في " التوزيع " !... إن الإنسان لا يحيا من اجل الخبز، كما انه لا يعيش من اجل الخبز وحده ... آه !.. إن أنبياء الشرق هم العباقرة حقا !!...
أن روح المسيحية كما نبعت في الشرق : هي المحبة، والمثل الأعلى، وروح الإسلام : الإيمان والنظام : ومسيحية اليوم الجديدة في الغرب : هي " الماركسية " وهي كذلك : لها مثلها الأعلى – لا في محبه الناس بعضهم بعضا ، وتبشير الفقراء " بمملكة السماء " وحضهم على إعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لله لله،....بل أغرائهم بمملكة، تقام على أنقاض طبقة، وأشلاء طبقة، ونصحهم بالهجوم على قيصر، واخذ ما لقيصر !..... أن " إنجيل " هذا الدين : كتاب " رأس المال، تجد أيضا في بعض صفحاته تنبؤات مخيفة، كتنبؤات "يوحنا " في رؤيا -، ففيه توعد بانهيار هذا العالم، وحلول عالم آخر قوامه العمال وحدهم !... أي أجسام تسير بغير رؤوس فوق المناكب ؟!.... يا له من حلم مخيف !.أما " إسلام، العصر الحديث في الغرب : فهي،" الفاشية، وهي كذلك لها طابع الإيمان والنظام !.. إيمان لا بالله، بل "بزعيم" من البشر ونظام لا يؤدي إلى التوازن الاجتماعي بالتواضع والزكاة، إنما هو نظام فرضته يد الإرهاب، ليؤدي إلى مطامع الاستعمار ولوثوب على الضعيف من الشعوب !.. ولهذا الدين أيضا "كتابه " وخطبه المنبرية الملتهبة، لا بحرارة عقيدة سماوية، ولكن بحرارة قوة حيوانية، وشراهة دموية !... اه أيها الصديق .... تلك هي الديانات التي استطاع الغرب أن يخرجها للناس،- يوم أراد أن يزاحم الشرق ويخرج للعالم أديانا !... إن "الماركسية " و الفاشية قد أخذتها عن أديان الشرق وطرقها وأساليبها و فهمتا جيدا أن كل خطة النبي هي استمالة الساخطين ... والمتذمرين و المعوزين، و هم الكثرة الغالبة !... هكذا فعل " عيسى " و "محمد"!...... ذلك أن طبقة الراضين و الموسرين ليست في حاجة إلى أن تتبع أحدا !..... فالدهماء هم سند الدين !.... فبتوا كل شيء على أساس واحد : " الدهماء " !... وجعلوا يتنافسون في إرضاء هذه الكتل الآدمية بالوعد : وعود واقعة قريبة الأجل ،" وهنا كل غباء هؤلاء الأنبياء !.... إن التنافس بين الدينين ليبدو لي شديد الخطر !... واني لأتنبأ لك، من الآن، بوقوع نوع من " الحروب الصليبية " بين " الماركسية و " الفاشستية " –تحشد فيها الدهماء ضد الدهماء، وتتناثر فيها الجثث . تتطاير الأشلاء.... هذا كل مكسبنا ..... إنهم لن يبقوا لنا حتى على ذلك الوهم اللذيذ والعزاء الجميل الذي غمرنا فيه أنبياء الشرق الحقيقيون .....
- أي وهم وأي عزاء؟ !....
- جنة السماء ، ومملكة السماء !.
- اه .... معذرة .... معذرة !.... انك مؤمن ... !.... ما أسعدك أنت !.... وما أحسن حظك!...ص80-85
هذه الفكرة عن الغرب تجعل القارئ يتجه نحو السلبية المطلقة للغرب بمجمله، وهنا تكمن الهفوة التي وقع بها الكاتب، فنجده منحاز كليا إلى الشرق ومتحامل بطريقة بعيدة عن الموضوعية على الغرب، كلنا يعلم أخطاء الماركسية والفاشية، لكن لكل فلسفة وطريقة نظام جوانب ايجابية وأخرى سليبة، فليس من العدل الطرح بهذه الكيفية، كما أن الغرب لم يكن برمته ماركسيا أو فاشيا، فهذا التعميم أوقع الكاتب في التدخل بلغة الشخوص ومن ثم اضعف إقناع القارئ بشخصية المتحدث.
المتحاوران مختلفان في الثقافة والفكر وأيضا في الجغرافيا، ولكلا منها مشاربه ومنطلقاته الفكرية، ومع هذا نجدهما يتكلمان لغة واحدة ويطرحان فكرة متفق عليها دون وجود أي تباين بينهما، لكن سنحاول هنا تناول فكرة الأنبياء والكتب عند الشرق والغرب، ففي الشرق نجد الحديث عن الحياة الأرضية والسماوية معا، وهذا يمنح الإنسان في الشرق (الحلم) والإيمان بمقدرة اكبر على تجاوز الصعاب والمعضلات التي يواجهها في حياته، كما أن الكتب السماوية التي جاءت من الشرق تطرح فكرة المحبة والتسامح والسلام والنظام، على نقيضها في الغرب حيث كان هناك كتب الماركسية التي تدعوا إلى الصراع الطبقي داخل المجتمع، وعلى استحالة التلاقي بين الطبقة العاملة والرأسمالية، وهناك الفاشية التي تدعو إلى تفوق جنس بشري على آخر فقط لأنه من هذه السلالة أو تلك.
كما أننا نجد انسياق "إيفان" الكلي نحو الشرق وكأنه جنة الخلد، علما بان واقع الحياة في أوروبا منذ القرن الثامن عشر أخذت تتسم بطابع العلم والثقافة وسعة الصدر للآخر، وما كان ليتم لها السيطرة على العالم الثالث بشكل شبه كلي دون تلك المعرفة والعلم الذي وصلت إليه، ومع هذا يستمر "إيفان" في الحديث عن الشرق بلغة توفيق الحكيم،
"إني شديد الإعجاب بأنبياء الشرق !....إن المعجزة الحقيقية التي جاءوا بها : هي أنهم قدموا للناس عالما آخر عامرا بسكان من ملائكة ذوات أجنحة جميلة بيضاء ، زاخرا بجنات فيها انهار من التبر" ص 97
صورة بهية للشرق تشكلت عند "إيفان" الممتعض من الغرب وما فيه، لكنها صورة تشكلت في الذهن فقط،
وبعد هذا الإستنتاج من "إيفان" نجده يبدأ في الأخذ بفكرة الإيمان بالشرق واعتناقها، ويكون بهذا قد انسلخ عن معتنقه وكفر بالغرب وما فيه
"إن الغرب يستكشف الأرض، والشرق يستكشف السماء !... إن الذي استطاع أن يغمر البشرية كلها في حلم يدوم الأحقاب ... إن الذي استطاع أن يصنع مثل هذا الحلم، لهو حقيقة فوق مستوى البشر !... إنما نمجد ذلك الذي اوجد للإنسانية واسكن الإنسانية . واسكن الإنسانية "السماء" ص98
فحقيقة الأمر الذي حقق أحلام الإنسانية هم الغرب من خلال الانجازات العلمية العديدة التي قدموها للإنسانية، وبينهما الشرق لم يقدم شيء مادي حقيقي على ارض الواقع، لكن الحكيم الذي لم يكن حياديا أصر على الاستمرار بهذا الإطراء للشرق حتى لو لم يكن مقنعا لنا نحن القراء.
فيعود مستدركا لحالة الثقافة والتوهج الحضاري التي مر بها الشرق، محاولا إقناعنا بما ذهب إليه حول عظمة الشرق فكريا وعمليا
"أن تجهل العلوم النظرية و التطبيقية، مع ذلك فإن ذلك العلم لم يفسد من الرءوس زجاجات الصور، التي تمثل الحياة الأخرى – تلك الحضارات اسميها أنا " الحضارات الكاملة " .. ص167
وآخر تلك التدخلات من الكاتب في لغة الشخوص تتمثل بقول "ايفان"
إذن حتى أبطال الشرق قد ماتوا في قلوب الشرقيين !" ص187
إذن نجد هناك انحياز واضح عن شخصيات الحكيم في رواية "عصفور من الشرق" أضعفت من قدرتها على إقناعنا بما تطرحه من أفكار عن الشرق والغرب معا.
وذروة هذا الانحياز تكمن عندما استخدم الكاتب الرمز في حديثة عن الشرق فقال على لسان "إيفان"
" آه... النور...النور يشرق من بلاد الشمس ليغرب في بلاد الغرب" ص180
" لا تخشى شيئا، ضعني بجوار النافذة أعني على الجلوس، حيث يغمرني نور الشمس" ص181
لا احد منا ينكر الصور الجميلة التي يطرحها الكاتب والمعاني الفكرية التي تحملها، كما تبن لنا المقدرة التصورية التي يتمتع بها الكاتب، لكن من ناحية الموضوع الشرق لم تقنعنا شخصيا رغم جماليتها وفنيتها
هذا التلاقي الروحي بين "إيفان" والشرق، جعله يتجه نحو العمل، فاخذ يعمل على الذهاب إلى تلك الجنة التي رسمها للشرق،
" دعني، أيها الشاب، سأذهب إلى الشرق، أريد أن أرى جبل الزيتون، وأن أشرب من ماء النيل وماء الفرات وما زمزم وماء..." ص184 هذا التلاقي بين الفكرة والعمل يمثل احد أهم المواضيع الفكرية التي تطرحها الرواية، فهذا الأمر الانسجام بين الفكرة والعمل يعد من المفقودات في هذا العصر، ونكاد لا نجد قول إن كان لأفراد أم لجماعات أو دول يتحول إلى فعل، وكأن الحكيم يطالبنا أن نكون منسجمين فيما نقول ونفعل ولا نترك مسافة بينهما.
يعود الكاتب إلى حقيقة الأمر في الشرق فيقول بكل وضوح حقيقة الشرق المرة والتي يتسم بها
" مهلا، مهلا أيها الصديق!... إن ذلك المنبع الذي تريد أن تراه وتلك الأنهار التي تريد أن تشرب منها، قد تسممت كلها!... لم يعد هناك نبع صاف، فإن الزهد قد ذهب كذلك من الشرق... وإنه لمن السهل أن تقنع شرقيا اليوم بان دينه فاسد ولكن ليس من السهل أن تقنعه بأن "الصناعة الكبرى" هي عجلة "إبليس" التي يقود بها الانسانية إلى الدمار... وإنك اليوم قد تستطيع اليوم أن تقتلع من رأس الشرقي عظمة السماء... ولا تستطيع مطلقا أن تقتلع منه عظمة "العلم الأوروبي الحديث" ... وإنه لمن اليسير أن تسفه عند الشرقي الآن "رسالة" الأنبياء، ولا يمكن أن تسفه لديه "رسالة" القوة المادية الحديثة"... حتى أبطال الشرق قد ماتوا في قلوب الشرفيين... نعم اليوم لا يوجد شرق!... إنما هي غابة على أشجارها قردة، تلبس زي الغرب، على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا إدراك" ص186و187
أعتقد هنا استطاع الكاتب إن يكون موضوعيا وغير منحاز للشرق، فهو حقيقة قد تبخر ولم يعد منه سوى بقايا مبعثرة تنم على الفقر المدقع للحضارة وللثقافة معا، وهنا يمكننا القول بان الكاتب حقيقة استطاع أن يعطينا سلبيات الشرق والغرب معا، ولنا أن نختار أيهما أقل ضررا لنا وأكثر نفعا.
ومن هنا يستنتج بان هناك دعوة من الكاتب غير مباشرة لكي يدفع الشرقيين إلى الأمام، ويأخذوا بشرقهم ليكون في شرقا حقيقيا وليس مشوه.
رائد الحواري
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.