الوية العمالقة تعلق عل ذكرى نكبة 21 سبتمبر وسيطرة الحوثي على صنعاء    مليشيا الكهنوت تختطف سادس قيادي مؤتمري بسبب الاحتفال بذكرى الثورة اليمنية الخالدة 26 سبتمبر    بالأسماء.. قناة العربية تكشف قيادات قوة الرضوان بحزب الله الذين قُتلوا بغارة الضاحية الجنوبية    انتقاماً من مسقط رأس الثائر علي عبدالمغني.. الحوثيون يواصلون حملات القمع في السدة    طالب عبقري يمني يحرم من المشاركة في أولمبياد عالمي للرياضيات    التلال يقلب النتيجة على الشعلة ويتوج بلقب كأس العاصمة عدن بنسختها الثانية    استشاري إماراتي: مشروب شهير يدمر البنكرياس لدى الأطفال ويسبب لهم الإصابة بالسكري بعد بلوغهم    نيوكاسل يونايتد يحصّن مهاجمه من ليفربول    مدافع يوفنتوس مرشح لخلافة فان دايك في ليفربول    بالوتيلي يريد العودة للكالتشيو    في يوم واحد.. المياحي مختطف وصفحته محذوفة! هل بدأت حملة قمع حوثية جديدة؟    الجنوب لن يدفع ثمن مواءمات الإقليم    رابط مشاهدة مباراة النصر والاتفاق بجودة عالية بدون تقطيع HD في منافسات دوري روشن للمحترفين    أمريكا ترفض إعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية    تزامنا مع الذكرى ال34 للتأسيس.. اصلاح سيئون ينظم برنامجا تدريبيا للقيادات الطلابية    بمناسبة ذكرى التأسيس.. إصلاح غيل باوزير يقيم أمسية احتفالية فنية وخطابية    متظاهرون في مارب وتعز ينددون باستمرار جرائم الإرهاب الصهيوني بحق سكان قطاع غزة    بالوثائق .. هذه حقيقة الصراع للسيطرة على حوش سوق القات الكائن بالممدارة (الهناجر) بعدن    اديبة يمنية تفوز بجائزة دولية    أقوى تحرك حوثي ردًا على إدخال خدمة ''ستارلينك'' إلى اليمن    وفاة الإمام أحمد في تعز ودفنه في صنعاء    اتهام رسمي أمريكي: وسائل التواصل الاجتماعي تتجسس على المستخدمين    الوزير الحوثي يرفض تسليم أموال صندوق المعلم والذي يحصل منه سنويا على 27 مليار (تفاصيل)    موناكو يقلب النتيجة على برشلونة ويتغلب عليه بدوري أبطال أوروبا    شيوع ظاهرة (الفوضى الدينية) من قبل بعض أئمة ومشائخ (الترند)    قيادي إنتقالي: التسوية المقبلة تضع المجلس أمام تحديات كبرى    معارك وقصف مدفعي شمالي محافظة لحج    فرحة الزفاف تنقلب إلى مأساة في الحديدة    البنك المركزي اليمني بعدن يجمد أصول خمس شركات صرافة غير مرخصة    في مشهد صادم: شاب من تعز ينهي حياته والسبب ما زال لغزاً!    الهجري: مأرب وقبائلها أفشلت المشروع الكهنوتي وأعادت الاعتبار للجمهورية    بداية جديدة: الكهرباء تستعيد هيبتها وتعيد النظام إلى الشبكة في لحج    بنك يمني يحصد جائزة عالمية ويؤكد ريادته في تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة في اليمن    الانترنت الفضائي يدخل ضمن ادوات الحرب الاقتصادية في اليمن    بالصور: تفاصيل اتهام داعية شهير بالتحرش ب 3 فتيات وإرساله صوراً إباحية لاستدراجهن    جيشها قتل 653 ألف ثائر مسلم: سلفية الهند تحرّم الخروج على وليّة الأمر ملكة بريطانيا    حرب التجويع.. مؤامرات الأعداء تتعرض لها المحافظات الجنوبية    منظمة الصحة العالمي تكرم الوكيل الدكتور الشبحي    الصين: ندعم بحزم قضية الشعب الفلسطيني العادلة لاستعادة حقوقه المشروعة    النفط يرتفع في التعاملات المبكرة بعد خفض أسعار الفائدة    بعد توقفها لسنوات.. مطار عدن الدولي يستقبل أولى رحلات شركة افريكان أكسبرس    البنك المركزي يجمّد أصول خمس شركات صرافة غير مرخصة    نمبر وان ملك الأزمات... سيدة تقاضي محمد رمضان بعد تعديه على نجلها بالضرب    رئيس كاك بنك يبحث فرص التعاون المشترك مع البنك الزراعي الروسي في بطرسبورغ    منتخب شباب اليمن يحدد موعد سفره إلى إندونيسيا    خطط لتأهيل عشرات الطرق في عدن بتمويل محلي وخارجي    صنعاء تعاني تصحر ثقافي وفني .. عرض اخر قاعة للعروض الفنية والثقافية للبيع    3 اعمال لو عملتها تساوي «أفضل عبادة لك عند الله».. اغتنمها في الليل    أأضحك عليه أم أبكيه؟!    شجرة العشر: بها سم قاتل وتعالج 50 مرضا ويصنع منها الباروت (صور)    بالصور .. نعجة تضع مولود على هيئة طفل بشري في لحج    سيدي رسول الله محمد .. وُجوبُ تعزيرِه وتوقيرِه وتعظيمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم    14 قطعة في المباراة.. لماذا يحرص أنشيلوتي على مضغ العلكة؟    مؤسسة ايوب طارش توضح حول ما نشر عن ملكية النشيد الوطني    السلطة عقدة بعض سياسيِ الجنوب.    يسار الاشتراكي وأمن الدولة يمنعون بناء أكثر من 10 أدوار ل"فندق عدن"    في هاي ماركيت بخورمكسر: رأيت 180 نوعاً من البهارات كلها مغلفة بطريقة انيقة.. هل لا زالت؟؟    لم يحفظ أبناء اليمن العهد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مختارات من نصوص التراث(9) بقلم ياسين الشيخ سليمان
نشر في الجنوب ميديا يوم 12 - 02 - 2014


تحياتي للقراء الأكارم،
درجنا كما درج أباؤنا وأجدادنا وسوف يدرج أبناؤنا على ذم الزمان ونعته بالفساد؛ ظنا منا أن ما سبقنا من الأزمنة كان خيرا من زماننا. فالفساد من المفترض أن يأتي بعد صلاح؛ ولكن هل صلح الزمان يوما؟! فلنقرأ المقالة التالية:
الإنسان حيوان محارب (بتصرف واختصار)(1)
بهذا العنوان وما يعنيه فاضت خواطر المرحوم المفكر والأديب الكبير "أحمد أمين"، فقال : " لقد خُدع المناطقة بالبريق الذي يلمع في الإنسان من عقل وتفكير، فعرّفوه بأنه حيوان ناطق. وخُدع أرسطو بمظهر حب الإنسان للاجتماع، فقال: إنه مدني بطبعه. ولو أنصفوا جميعا لقالوا: إنه حيوان محارب بطبعه." ثم بيّن الأديب الكبير تسلسل قصة الإنسان من بداية خلقه، وكيف تساءلت الملائكة عن الحكمة في خلق من يسفك الدماء، ثم سكنى الإنسان الجنة حيث الأمان والطمأنينة، ثم عصيان أمر خالقه فيما نهاه عنه،" ولو أحب السلام لأطاع ولو أطاع ما كان قتال". ثم قتل ابن آدم أخاه" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)" سورة المائدة؛ قُتل المُسالم وبقي على الأرض المُقاتل.". ويتابع الأديب فيذكر الحروب بين الأمم المتتابعة، ثم يمر على أشعار الغزل العربية فيقول: " وأقام الناس دولة الغزل والنسيب، وهو باب من الذ الابواب وأحبها إلى النفوس، وأدعاها للسرور والطمانينة، فإذا بالأدباء ، وهم أبعد الناس عن الحرب، يستعيرون كل الفاظ الحروب والقتال في التعبير عن خطراتهم ومعانيهم، فنظرات الحبيب سهام:
أواه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعُهنّ أليم (2)
وحمرة خده من دم المُحب:
هذا دمي في وجنتيك عرفته ... لا تستطيع جحودَه عيناك (3)
وهو يرمي ولا يخطئ، ويَقتُل ولا يُقاد:
تعرّضن مرمى الصيد ثم رميننا ... من النّبل لا بالطائشات الخواطفِ
ضعائفُ يقتلن الرجالَ بلا دمٍ ... فيا عجباً للقاتلات الضعائفِ (4)
وهكذا ملئوا هذا الباب البديع اللطيف دماً وقتلاً وسهاماً ونبالاً وفتكاً وصرعاً ودِيَةً وقوَداً، ونقلوا كل أدوات القتال حيث لا قتال؛ ولكنه الإنسان المغرم بالقتال".
أقول أنا ياسين: وظل شعر الغزل على هذا المنوال يجري من القدماء ومن بعض من عاصرهم أحمد أمين؛ فهذا أحمد شوقي يقول في قصيدته التي أولها مقادير من جفنيك حوّلن حاليا:
نفذنَ عليّ اللبّ بالسهم مُرسلاً ... وبالسحر مَقضّياً وبالسيف قاضيا
وينتهي إلى جرح قلبه فيقول:
ولم يندمل من طعنة القدّ جُرحُهُ ... فرفقاً به من طعنة البين داميا (5)
ويتابع احمد أمين القول بميل الإنسان إلى القتال حتى في اللعب، فيذكر لعبة الشطرنج وما فيها من جنود وفيلة وملوك وقلاع ووزراء حتى تنتهي ب "كِش" "مات" ، ثم يذكر لعبة كرة القدم وأنها من جيشين وساحة حرب يصولان فيها ويجولان.. ثم ينتقل أمين إلى قدماء الفلاسفة والحكماء وأن دعواتهم إلى السلام ذهبت أدراج الرياح ، ثم إلى الأديان فيقول: " وجاءت الأديان الكبرى تريد الدعوة بالحسنى ، فاشتق الإسلام اسمه من السلام، ثم كان تاريخ المسلمين حروبا لا تنتهي؛ وجاءت النصرانية تدعو إلى أن من ضربك على خدك الأيمن فأدِرْ له خدك الأيسر، " ثم لم يُرَ في تاريخ العالم أممٌ تحب القتال وتتفنن فيه، وتدعو إليه، وتفتك أشد فتك وأروعه وأحمأه، كما تفعل أمم النصرانية بعضها مع بعض، وبعضها مع غيرها.". ويتابع الأديب أحمد أمين القول: " بل أكثر من هذا عجبا أن انقلب الدين نفسه (عند الناس) سببا كبيرا من أسباب الحرب؛ فالمؤمنون والزنادقة، والمؤمنون والكافرون، والمذاهب الدينية بعضها إزاء بعض، ومحاكم التفتيش، والتبشير المسلح كل هذا يملأ في تاريخ القتال صفحات لا تقل شأنا عن صفحات القتال للغنيمة أو الفتح."..." ثم أحزاب سياسية تتناحر وتتنابز، وتتراشق بألفاظ السباب والاتهام بالخيانة، وكلما دخلت أمة في الحكم لعنت أختها."..." ونظام اجتماعي بني على أساس حربي؛ فطبقات يتربص بعضها ببعض، وغني يستغل فقيرا، وفقير ينهب غنيا، وجانٍ ومجنيٌّ عليه، وخصوماتٌ أشكالٌ وألوان. ثم تحرّ عن أعمال الإنسان من عهد طفولته وهو يبكي، إلى عهد نضوجه وهو موظف كبير أو تاجر كبير او سياسي كبير، وحلل البواعث عليها تجد أن اكثرها مهما اختلفت الآراء فيها يعود إلى شيء واحد، وهو حبه الغريزي للحرب.". ويختم أحمد أمين مقاله بجملة تراثية: " والله ما فسد الناس ولكن اطرد القياس" . وهي جملة ذكرتها بعض كتب التراث منسوبة إلى بديع الزمان الهمذاني في رده على لوم شيخه ابي الحسين بن فارس، الذي قال ما معناه: " إن البديع قد نسي حق تعليمنا إياه وعقّنا، وطمَحَ بأنفه عنا، فالحمد لله على فساد الزمان وتغير نوع الإنسان." . ولما بلغ بديعاً ما قاله شيخه كتب إليه معتذرا : " نعم أطال الله بقاء الشيخ الغَمام، إنه الحمأ المسنون، وإن ظُنت به الظنون، والناس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وتركّبت الأضداد، وأخلاط الميلاد، والشيخ الإمام( يعني شيخه) يقول: فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحاً؟ ...". ولمن يرغب في مطالعة رسالة بديع الزمان يجدها في التذكرة الحمدونية لابن حمدون، وفي نهاية الأرب للنويري وغيرها من الكتب على الموسوعة الشعرية. ولعل هذه الرسالة في معناها هي ما جعل المرحوم احمد أمين يتفطن إلى كتابة مقاله في أن الإنسان حيوان محارب.
تناكح الإنس مع الجن:
"وَقَدْ يَتَنَاكَحُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَيُولَدُ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ وَهَذَا كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ وَكَرِهَ أَكْثَرُالْعُلَمَاءِ مُنَاكَحَةَ الْجِنِّ."(6)
"وَفِي بعض المسانيد عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا أَتَاهُ، وَقَالَ: إِن امْرَأَتي استيقظت، وَكَأن فِي فرجهَا شعلة نَار، قَالَ: ذَاك من وطىء الْجِنّ. قَالَ: فَمن أَوْلَادهم؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ المخنثون."(7)
و" قال الطرطوسي في كتاب تحريم الفواحش: باب من أي شيء يكون المخنث؟ حدثنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن محمد القاضي حدثنا ابن أخي ابن وهب حدثني عمي عن يحيى عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: المخنثون أولاد الجن قيل لابن عباس: كيف ذلك؟ قال: إن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم نهيا أن يأتي الرجل امرأته وهي حائض فإذا أتاها سبقه إليها الشيطان، فحملت فجاءت بالمخنث والله أعلم".(8). وكم نسبوا لابن عباس رضي الله عنه من أقاويل!
كل أهل عصر لديهم ثقافتهم:
وإن تعجب فعجبك لا ينقضي من ابن تيمية رحمه الله، وهو العالم العلامة المجتهد المجاهد بالقلم واللسان والنفس، كيف حكم بأن الجن والإنس يتناكحون ويولد لهم اولاد! والجواب عندي أن ابن تيمية من شدة تحرزه وتقواه اتخذ من أقوال أسلافه مثالا يحتذى؛ لكن العجب ربما يتناقص إذا علمنا أن ابن تيمية وفي عصره كثر من يزعمون الولاية والكرامات دون التزام كتاب الله وسنة نبيه، وقد سماهم أولياء الشيطان عزا تلك الكرامات إلى عمل الشياطين؛ فهو لم يكذبها تكذيباً بل عزاها إلى الاستعانة بالجن غير المسلم أو الشيطان، فكان يؤمن حتى بأن الجني يتشكل على صورته هو فيظنه الناس ابن تيمية نفسه (9)، وكان يؤمن بأن ممن يدّعون الكرامات من أولياء الشيطان قد يطير الواحد منهم في الهواء والشيطان هو من يحمله(10) ، وقد يطير به إلى جبل عرفات في موسم الحج...ولمن يرغب في الاطلاع أكثر عليه بمطالعة "مجموع الفتاوى" ، و "الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، وكلا الكتابين لابن تيمية.
وربما يعود أصل قصة تناكح الإنس والجن، وتناكح الإنس والسعالي(11) إلى عهد الجاهلية. وفي الإسلام وجدوا القرآن الكريم يذكر الجن في عدة من الآيات الكريمات، ويذكر الشيطان ويحذر منه مرارا وتكرارا، فقاموا بتأويل بعض الآيات بما يناسب معلوماتهم عن الجن من قبل، فتراهم يتأولون ، مثلا، الأية :" ...وشاركهم في الأموال والأولاد..." (الإسراء من آية 64) بأن الشيطان يجامع أمرأة الرجل الذي لا يسمي الله عند بدء الجماع ، وفهموا من الآية:" لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان"، (الرحمن،من آية 56) بمعنى " فلو كان الجانّ لا يفتضّ الآدميّات، ولم يكن ذلك قطّ، وليس ذلك في تركيبه، لما قال الله تعالى هذا القول."(12).
وبنو السعلاة من العرب هم بنو عمرو بن يربوع، الذي قيل إنه تزوج من السعلاة وولدت له. وحكى الجاحظ في "الحيوان" عن أبي اسحاق ابراهيم بن النظام، وهو استاذ الجاحظ، أنه كان يقول في الذي تذكره الأعراب من عزيف(صوت) الجنّان، وتغوّل الغيلان:" أصل هذا الأمر وابتداؤه، أنّ القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملت فيهم الوحشة . ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء، والبعد من الإنس استوحش. ولا سيّما مع قلة الأشغال والمذاكرين"... "وإذا استوحش الإنسان تمثّل له وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيم جليل"..." ثمّ جعلوا ما تصوّر لهم من ذلك شعرا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيمانا. ونشأ عليه الناشئ، وربّي به الطّفل، فصار أحدهم حين يتوسّط الفيافي، وتشتمل عليه الغيظان( لعلها الغِيضان جمع غيضة، وفي معجم الصحاح: الغيضة: الأجمة، وهي مغيض ماء يجتمع فينبت فيه الشجر، وجمعها غِياض وأغياض) في اللّيالي الحنادس( شديدات الظلمة كما في اللسان)؛ فعند أوّل وحشة وفزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى، وقد رأى كلّ باطل، وتوهّم كلّ زور، وربما كان في أصل الخلق والطبيعة كذّابا نفّاجا(الذي يفخر بما ليس عنده كما في لسان العرب) ، وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشّعر على حسب هذه الصّفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان! وكلّمتُ السّعلاة! ثمّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتَلتُها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتُها ثمّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوّجتها!! قال عبيد بن أيّوب :
فلله درّ الغول أيّ رفيقة ... لصاحب قفر خائف متقتّر" (13)
وعودة إلى عمرو بن يربوع الذي تزوج السعلاة وأولدها بنيناً؛ وقد نبهَتهُ إلى أنها إذا رأت وميض البرق من جهة بلادها فلا يمكنها إلا الرجوع إلى موطنها؛ فكان ابن يربوع كلما ومض البرق غطى على عيينيها حتى لا ترى الوميض؛ لكيلا تهجره وتهجر بنيه. وعلى مر الأعوام ودوام الألفة نسي ابن يربوع ما نبهته إليه زوجته السعلاة حين أومض برق ديار الغيلان والسعالي، فامتطت ناقة بكراً وأوصته ببنيها وذهبت إلى غير رجعة. وهذه القصة مبسوطة في كالعديد من كتب التراث.
إن العبرة المستفادة من القصة الأسطورية السالفة هي أن الديار والاوطان تُقدّم حتى على الأبناء، وأن الحنين لا يختص به بنو آدم وحدهم.
وبما أ ن الشيء بالشيء يذكر في العادة، فإني تذكرت ما طالعته مرة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد عن المعري رحمه الله وهو في بغداد، وقد أضناه الشوق إلى المعرة، فنظم قصيدة رائعة في الحنين إلى وطنه استخدم فيها أسطورة السعلاة على أحسن ما يكون الاستخدام. وقد اخترت منها الأبيات التالية من أجل الاختصار(14):
طَرِبْنَ لضَوْءِ البَارِقِ المُتَعالي ..ببَغدادَ وهْناً ما لَهُنّ ومالي؟!
تمنّتْ قُوَيْقاً والصَّراةُ حِيالَها ..تُرابٌ لها! من أيْنُقٍ وجِمالِ
وأنشدنَ من شعر المطايا قصيدةً..وأودَعْنَها في الشوق كلَّ مقالِ
إذا لاحَ إيماضٌ سَتْرُت وُجوهَهَا ..كأنّيَ عَمْروٌ والمَطِيُّ سَعالي
وكم هَمَّ نِضْوٌ أن يَطيرَ مع الصَّبا ..إلى الشامِ لولا حَبْسُهُ بعِقالِ
لقد زارني طَيْفُ الخَيالِ فَهاجَني ..فهل زارَ هذي الإبلَ طَيْفُ خَيالِ؟!
فيا بَرْقُ ليس الكَرْخُ داري وإنما..رَماني إليه الدهرُ مُنْذُ لَيالِ
فهل فيكَ من ماء المَعَرّةِ قَطْرَةٌ... تُغيثُ بها ظَمآنَ ليسَ بسالِ؟!
يقول المعري عن إبِله: إنها انفعلت وشجيَت وهي ببغداد عندما رأت برقا عاليا في السماء لاح من جهة وطنها في جزء من الليل ، ويتساءل متألماً: ما لهذي الإبل ومالي حتى أثارت فيّ حنينا جارفا إلى المعرة! الله الله يا أبا العلاء!
وشعرُ المطايا على أي وزن هو؟!أهو على وزن بحر الخبب؟! ربما.(15) فكأن المطايا أنشدن:
نادى قلبي طوعا حسبي دمعي قاني مثل العندم
أو:
زُمّت إبِلٌ للبيْنِ ضُحىً .. في غورِ تهامة قد سلكوا
أو:
الشّحطُ خليطُك إذ بكروا .. ونأوْا فمضى بهم السفرُ
أو:
مُضناكَ جفاه مرقدهُ .. وبَكاهُ ورحّمَ عُوَّدُهُ
والشّحط هو البُعد. وكأني بذي الإصبع العدواني (شاعر جاهلي شجاع حكيم) وهو يسمع ما أتحدث به عن حنين أبي العلاء ومطاياه ، فيقول صارخا:
يا من لقلبٍ شديد الهم محزونِ .. أمسى تذكر ريّا أمّ هارونِ
أمسى تذكرها من بعدما شحَطت .. والدهر ذو غِلظةٍ حيناً وذو لينِ.
وقانا الله وإياكم أيها القراء الكرام، مرارة البعد وألمَ الفراق، وأن يجيرنا بفضله وعفوه وكرمه من أهوال يومٍ تلتفّ فيه الساق بالساق.
يقول أبو العلاء: لقد تمنت هذه الإبل ان تعود لترتوي من نهر قويق( بحلب) مع أن نهر الصراة ببغداد أصفى منه ماءً، وهو بإزائها، فبُعداً لها من نياقٍ وجِمال! وهو يدعو عليها ليرينا مقدار حنينها إلى وطنها وتفضيله على غيره من الاوطان ولو كان وطنها أقل شأنا.فتأمل أيها القاريء الكريم مبلغ هذه العبارة.
ويقول: وعندما يظهر سنا البرق من جهة الوطن أغطي وجوهها حتى لا تراه، فهي إن رأته لا بد وتفرّ إليه، وأنا بهذا كأني عمرو بن يربوع حينما كان يغطي وجه زوجته الغولة؛ خوفا من هجر زوجها وأبنائها ورجوعها إلى ديارها؛ حبّا في بلادها ومسقط رأسها.
ويمضي قائلا: وكم مرةٍ همّت تلك الإبل المهزولة المُضناة من فراق الديار أن تطير إلى ديارها مع هبّة من هبّات ريح الصّبا القادمة من الشرق؛ لكنها مقيدة فلا يمكنها ذلك. وأبو العلاء أقام ببغداد برهة من الزمن وهو في حنين مستديم إلى المعرة. ويقال إن أبا العلاء اشتهى شربة ماء من بئر القراميد في المعرة، فأمر الخليفة بعض القوافل بإحضار الماء من المعرة دون ان يخبروا ابا العلاء ، فلما شرب منه قال: هذا الماء طعمه مثل طعم ماء بئر القراميد.(16) ومصداق هذه القصة، البيت:
فهل فيكَ من ماء المَعَرّةِ قَطْرَةٌ... تُغيثُ بها ظَمآنَ ليسَ بسالِ؟!
والسّلُوّ أو السُّلْوان: النسيان، كما في لسان العرب. فالسّالي هو الناسي. ولعبد الوهاب أغنيّة باللهجة الدارجة يقول ناظمها: واللهْ ما نا سالي يا اللي سليتوني، لو تِعرَفوا حالي كنتو تواسوني، وهي جميلة وحزينة.
ويقول المعري: لقد ألمّ بي طيف خيال من وطني فهاج حنيني، فهل يا ترى زار هذا الطيف الإبل أيضا حتى هاجت مثل ما يهيج الإنسان أو أشدّ؟!
والكرخ شطر بغداد من غرب دجلة، والرصافة شطرها الشرقي كما هو معلوم. فبغداد ليست وطن أبي العلاء الأول ، وما رماه إليها إلا الدهر بأفاعيله ولياليه الحالكة الظلام.
والرصافة تذكرنا بعلي بن الجهم الشاعر البغدادي، والذي اشتهر له من قصائده الرقيقة القصيدة التي أولها:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ .. جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن .. سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
واخيرا،
لقد أبدع أبو العلاء في انتهازه أسطورة ابن يربوع والسعلاة أيما إبداع، فجزاه الله خيرا وغفر لنا وله.
رعاكم الله، وإلى لقاء بعونه تعالى.
1 " الإنسان حيوان محارب " عنوان مقال للمرحوم أحمد أمين دونه مع مقالات أخرى في كتاب بعنوان: (فيض الخاطر). والكتاب من ثمانية أجزاء . والناشر: "كلمات عربية للترجمة والنشر"، القاهرة". واحمد امين(1886 1954) مصري، من كبار المفكرين والأدباء والمؤرخين العرب. من مؤلفاته الكثيرة: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام...
2 البيت لابن الرومي وأوله (ويلاه بدلا من أواه) في الموسوعة الشعرية من قصيدة مطلعها:
قلبي من الطرف السقيم سقيمُ ... لو أن من أشكو إليه رحيمُ
3 البيت من قصيدة لعلي الجارم (ت 1949) وترجمته في الموسوعة الشعرية. وهو أديب ولغوي ومُربٍّ مصري ، وكان عضوا في المجمع اللغوي؛ معاصر لأحمد أمين. ومطلع القصيدة:
مالي فتنتُ بلحظك الفتاك ... وسلوت كل مليحة إلاّكِ . وقد غنت أم كلثوم سبعة أبيات منها.
4 البيت لعُمارة ابن عقيل، وهو حفيد الشاعر الشهير جرير.(الموسوعة الشعرية)
5 هذه القصيدة الشوقية لحّنها وغنّاها محمد عبد الوهاب.
6 ابن تيمية، مجموع الفتاوى (ج19ص39 40).
7 تفسير السمعاني (ج3 ص 259)
8 الشبلي، محمد بن عبد الله الدمشقي الحنفي( ت : 769ه ) ، آكام المرجان في أحكام الجان ، تحقيق إبراهيم محمد الجمل ، الناشر : مكتبة القرآن - مصر – القاهرة.
9 مجموع الفتاوى ج1ص360. قال ابن تيمية: "وَأَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ وَقَائِعَ كَثِيرَةً فِي أَقْوَامٍ اسْتَغَاثُوا بِي وَبِغَيْرِي فِي حَالِ غَيْبَتِنَا عَنْهُمْ فَرَأَوْنِي أَوْ ذَاكَ الْآخَرَ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ قَدْ جِئْنَا فِي الْهَوَاءِ وَدَفَعْنَا عَنْهُمْ وَلَمَّا حَدَّثُونِي بِذَلِكَ بَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِي وَصُورَةِ غَيْرِي مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ لِيَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَاتٌ لِلشَّيْخِ فَتَقْوَى عَزَائِمُهُمْ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِالشُّيُوخِ الْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا أَشْرَكَ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ.".
10 ابن تيمية، الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ج1ص83. قال ابن تيمية: " لوْ ذَكَرَ الرَّجُلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا مَعَ غَايَةِ الزُّهْدِ وَعَبَدَهُ مُجْتَهِدًا فِي عِبَادَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ - وَهُوَ الْقُرْآنُ - كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُ فِي الْهَوَاءِ." .
11 السّعلاة: أنثى الغيلان، وقيل أخبث الغيلان. معجم الصحاح، مادة سعل، ولسان العرب.
12 الجاحظ،كتاب الحيوان ج1ص123 تحقيق محمد باسل عيون السود. والكتاب على الشبكة للتحميل بصيغة الشاملة.
13 نفس المصدر ج6 ص ص 445، 446
14 القصيدة على الموسوعة الشعرية.
15 الخَبَبُ: ضَرْبٌ من العَدْوِ؛ وقيل: هو مِثْلُ الرَّمَلِ؛ وقيل: هو أَن يَنْقُل الفَرَسُ أَيامِنَه جميعاً، وأَياسِرَه
جميعاً؛ وقيل: هو أَن يُراوِحَ بين يديهِ ورجليهِ، وكذلك البعيرُ؛ وقيل: الخَبَب السُّرْعَة؛ وقد خَبَّت الدَّابَّة
تَخُبُّ، بالضَّمِّ، خَبّاً وخَبَباً وخَبِيباً، واخْتَبَّتْ، حكاه ثعلب. (لسان العرب). ومن العروضيين المحدثين من يعده بحرا مستقلا عن بحر المتدارك. والأبيات الثلاثة الأولى من شواهد العروض عليه والثالث منها ينسب إلى امريء القيس. أما البيت الرابع فهو مطلع قصيدة شهيرة لأحمد شوقي على بحر الخبب، وقد زادها شهرة تلحينها وغناؤها من محمد عبد الوهاب.
16 ابن عبيد الله(1883 1956)، العود الهندي عن أمالي في ديوان الكندي . والكتاب من كتب الموسوعة الشعرية.
متصفحك لا يدعم الجافاسكربت أو أنها غير مفعلة ، لذا لن تتمكن من استخدام التعليقات وبعض الخيارات الأخرى ما لم تقم بتفعيله.
ما هذا ؟
Bookmarks هي طريقة لتخزين وتنظيم وادارة مفضلتك الشخصية من مواقع الانترنت .. هذه بعض اشهر المواقع التي تقدم لك هذه الخدمة ، والتي تمكنك من حفظ مفضلتك الشخصية والوصول اليها في اي وقت ومن اي مكان يتصل بالانترنت
للمزيد من المعلومات مفضلة اجتماعية
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.