يكاد الكتّاب الذين يتم استفتاؤهم في الأسباب التي تدفعهم إلى الكتابة، يجمعون على أنهم يفعلون ذلك لأسباب غامضة ومجهولة، وأنهم يجدون أنفسهم مدفوعين دفعاً باتجاه الورقة البيضاء التي لا تكف عن استدعائهم من دون أن يكون لهم خيار آخر سوى القبول . وإذ يختلف المستفتون في الغالب على تعريف الأدب وقيمة النصوص الإبداعية ومعايير الحكم على جودتها فإنهم لا يختلفون كثيراً على طقوس الكتابة ودوافعها، وما يحيط بمزاولتها من خفايا وأسرار . وما الإجابة التي يكررها الكثيرون بأن الشعر هو الذي يكتبهم وليس العكس، سوى التعبير الساطع عن أن المبدعين لا يختارون مصائرهم بأنفسهم، بل تبدو هذه المصائر وكأنها قد رسمت سلفاً، وأن الفكاك منها أمر متعذر تماماً وغير قابل للتحقّق، فأن يكتب الإنسان وفق الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس، "يعني أن يجد نفسه في حفرة، في وحدة شبه تامة، ثم يشعر بأن الكتابة وحدها هي التي ستنقذه" . لا أتحدث هنا بالطبع عن الكتبة وعديمي الموهبة الذين يقررون بشكل مفاجئ، وعن سابق تصور وتصميم بأن يصبحوا شعراء وأدباء مرموقين . ولا عن الذين يعدون الكتابة وسيلة للارتزاق وتحقيق الشهرة الإعلامية التي تحولهم في فترة قياسية إلى نجوم، بل عن الممسوسين منذ صغرهم بجمرة الكتابة وفتنتها الصاعقة وإلحاحها الذي لا فكاك منه . ذلك أن هؤلاء الأخيرين يستسلمون بشكل طوعي لإملاءات الكتابة أو الفن، ويهبون حياتهم بالكامل لإغواء الكلمات، وهم يعلمون تمام العلم أن هذه الحياة التي أعطوها لن تعاش سوى مرة واحدة، ولن تتاح لهم فرصة أخرى للتعويض عما فاتهم من أطايبها وملذاتها . يمكنني كشخص معني بهذا الشأن، أن أعرف حجم المشقّات المضنية التي يقاسيها الشعراء، على سبيل المثال، في بحثهم أحياناً عن جملة حرون أو جملة لا تكفّ عن التمنّع ولا تستوي في سياق نهائي إلا بشق النفس و"طلوع الروح"، كما يقال في التعبير الشعبي الشائع، وقد سبق لجرير أن قال إنّ قلع أحد أضراسه هو أهون عليه في بعض الأحيان من كتابة بيت شعر واحد . ومع ذلك فالشاعر مستعد لقلع أضراسه مجتمعة لقاء إنهاء قصيدة واحدة تسرف في تمنّعها، فهو يعلم تمام العلم أن النعمة التي أعطيت له، ليست أعطية مجانية تمنح لحاملها دفعة واحدة، بل ثمة ثمن باهظ عليه أن يدفعه لقاء تنميتها وتظهيرها بشكل لائق . إن ما أعطيه هو مجرد قابلية لا شكل لها ولم تنتظم بعد في هيئة محددة، وهي لكي تكون كذلك تحتاج إلى تفرغ كامل وجهد دؤوب وعراك ضروس مع الرداءة أو الصمت . لكن بالمقابل، ما الذي يدفع كاتباً ما إلى تنكّب هذه المشقة التي تقتات من لحمه الحي وتنهش أضلاعه وتجعله ساحة مستباحة لكل أنواع الألم؟ لماذا يدير ظهره لنداء الحياة العاتي وللذائذ التي تتلمظ شفاهها قبالة عينيه وتدعوه بشكل دائم إلى وليمتها العامرة، ويؤثر الانكباب على كتبه وأقلامه وأوراقه آنية النهار والليل؟ وإذا لم تكن هناك إجابة حاسمة عن سؤال كهذا، فإن مقاربة متأنية لهذه المسألة لابد أن تفضي إلى فكرتين اثنتين، تتعلق أحداهما بمتعة الكتابة والفن نفسها، وتذهب الأخرى إلى فكرة الخلود التي تدغدغ أحلام الكتّاب والفنانين على اختلاف نزعاتهم ومشاربهم، فمن جهة أولى يستسلم الكاتب حين يكتب والرسام حين يرسم، فضلاً عن النحات والموسيقي والراقص والمغني، إلى نشوة الخلق ومتعة التأليف واكتناه أسرار الحياة الخفية . إنه يحاكي بما يفعله انفجارات الطبيعة وحركاتها وتحولاتها التي لا تهدأ، ساعياً إلى إعادة تشكيل الموجودات والعبث بجغرافيا الوجود الناجزة والبحث عن مناطق غير مكتشفة لخرائط الروح . كل مبدع بهذا المعنى هو كولومبس رمزي يفتش عن قارة جديدة لابد لها من "الإنوجاد"، وهو أمر لا يتحقق بغير المخاطرة وركوب الأمواج العاتية والوقوف على حافة الموت . أما فكرة الخلود فهي الحلم الذي يراود البشر منذ رحلة جلجامش السومري حتى يومنا هذا . فالإنسان يكتب ويبدع ظناً منه أن ما يفعله يمكّنه من القفز من سفينة العالم الهالكة، أو التحول إلى نجم في السماء كما حلم جون كيتس الذي مات في ريعان الصبا . هكذا يصبح الفن حياة بالوكالة، تنوب عن الزواج الذي يجمع هو الآخر بين المتعة من جهة، وبين رغبة البقاء عبر الإنجاب واستمرار الذرية من جهة أخرى . وإذا كانت متعة الإبداع متحققة في جميع الحالات، فإن هبة الخلود لا تمنح إلا للنخبة النادرة من المبدعين الخلاقين، في حين أن معظم الكتّاب والفنانين يؤولون بعد رحيلهم إلى زوال محقق . وهم بذلك يخسرون الدنيا والآخرة في آن، ويضحون بحياة يتيمة من أجل خلود خُلّبي لن يحصلوا عليه . فمن بين آلاف الأسماء التي نذرت نفسها لنداء الكتابة وتباريحها المؤرقة، لم يصل إلى بر الخلود سوى حفنة من المحظوظين . ومع ذلك فإن الأمر يستحق المجازفة والذهاب في الرحلة حتى نهايتها، فالطريق الى الهدف أجمل من الهدف نفسه .