دينا درويش إذا كانت ألوان مؤشر البورصة عادة تتراوح بين اللون الأخضر والأحمر، صعودا أو هبوطا، (فالبورصجية) أى المستثمرون والمضاربون فى سوق المال، يختارون حاليا اللون الأسود ليصفوا به يوم الأحد 25 نوفمبر الماضى، كواحد من أسوأ أيام عاشها العاملون بهذا المجال. يعيش المجتمع الذى يدور فى فلك البورصة أياما عصيبة، من نادى المستثمرين إلى مقاهى البورصة بوسط القاهرة مرورا بشركات السمسرة يهتز القطاع بشدة مع كل الفاعليات السياسية. «منذ بداية ثورة يناير، وأنا أعيش كارثة حقيقية. فقد هبطت قيمة أسهمى إلى عشر قيمتها لتصل إلى 11 ألف جنيه بدلا من 120. وفى يوم الأحد الماضى، خسرت حوالى ثلث نقودى»، هكذا يقول عاطف عبد الفتاح، المدرس الأربعينى الذى دخل سوق الأوراق المالية منذ 12 سنة كمضارب. يجد عاطف نفسه اليوم بين فكى الأسد، فهو لا يستطيع أن ينسحب من البورصة بعد أن ضاعت نقوده بسبب اهتزازات مؤشراتها الماجنة فى أعقاب الثورة. كما أنه لا يستطيع الاستمرار فى شراء أسهم جديدة لأن ضبابية الأوضاع لا توحى بأى صعود فى البورصة. وهو ينتظر حاليا أن تشهد السوق نوعا من الانفراج حتى ينسحب بشكل نهائى دون خسائر فادحة، فقد أضاع بالفعل ثمن شقة باعها ونصيبه من ميراث أبيه، وذلك بعد أن دعته نداهة البورصة منذ مطلع عام 2001. لكن عاطف لم يقطع الأمل نهائيا رغم تغير نمط حياته اليومية. فبعد أن كان يتردد يوميا على نادى المستثمرين ليتابع أخبار تداول الأسهم، بل وكان أحيانا يتسرب من عمله لينتهز فرصة صعود الأسهم ويبيعها، أصبح اليوم لا يرتاد النادى سوى مرة أو مرتين فى الأسبوع، «فقد تجمدت السوق»، على حد تعبيره. فى نادى المستثمرين بشارع الجمهورية الذى خصصته البورصة لاستقبال المضاربين يتضاءل يوما بعد يوم عدد رواد المكان. فهم اليوم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة بينما كان يصل عددهم إلى أكثر من خمسين زائرا يوميا فى أوقات رواج السوق. كشاف ضعيف متقادم تراكمت عليه الأتربة يقوم ببث ضوء خافت على شاشة مهتزة تعرض حجم التداولات. بضعة أرائك مريحة تتوسط صالة العرض فى النادى، بينما تتراص الجرائد اليومية على طاولة متهالكة. يقول محمد البدرى، طبيب أربعينى وأحد المستثمرين: «لقد فقد النادى مع تردى أوضاع البورصة الكثير من الخدمات التى كانت تقدم لمساعدة المستثمرين على متابعة ودراسة حركة السوق لاتخاذ القرارات السليمة بصدد البيع والشراء. فقد كانت إدارة «الإفصاح» تأتى لتعرض حجم أرباح الشركات المختلفة، كما كان هنالك آلة «تيكرز» تقدم خدمة وكالة رويترز للاطلاع رواد النادى على آخر الأخبار الاقتصادية العالمية، هذا فضلا عن وجود نشرات شهرية تقدمها البورصة. كل ذلك لم يعد موجودا، بل وحتى أدوات العرض الحالية قد تُصعب من مهمة المستثمر لأن الرؤية عبر هذه الشاشات تبدو صعبة جدا لانعدام الصيانة». أيام المكسب والخسارة أجواء النادى كانت عادة تتميز بالحيوية، إلا أن هذه الأيام تسود حالة من الاحتقان ويحتدم النقاش بين المستثمرين بعد أن أصبحت الخسارة عملة رائجة. وتضيع أحلام الاستقرار بين مظاهرات ميدان التحرير وجامعة القاهرة، بل إن بعض المستثمرين انسحب بالفعل من سوق الأوراق المالية مع بداية الثورة وأكتفى بالمجىء للنادى بحكم العادة لرؤية الأصدقاء. مارك، موظف فى الثلاثين من العمر، كان قد حقق مكاسب باهظة من البورصة، وهو يفضل حاليا أن يحتفظ «بتحويشة العمر» فى خزنته الخاصة بالمنزل، ولا يريد أن يغامر بوضعها فى أحد البنوك لأنه لا يدرى ما هى توجهات الدولة فى الفترة المقبلة. كما أنه بدأ يفكر جديا فى الهجرة إلى كندا. يقول مارك: «فكرت أن أشترى بعض الأسهم المنخفضة حتى أحقق ربحا فى وقت لاحق، لأن أسعار الشراء وصلت إلى أقل حد ممكن، فلن تخسر أكثر من ذلك. لكنى أخاف ألا استطيع إخراج نقودى من البلاد، خاصة إذا ما ساء الوضع أكثر من ذلك». يصمت مارك لبرهة ثم يستكمل حديثه: «البورصة نفسها بدأت تتلون بصبغة إسلامية إلى حد ما، فمنذ عامين وحركة البيع فى الجلسة الواحدة أصبحت غير مسموحة وهذا يتماشى مع أفكار بعض المستثمرين المتشددين الذين يجدون فى ذلك شيئا من (الحرمانية) لأن الأرباح التى يتم تحقيقها فى الجلسة الواحدة لا تأتى كنتيجة لإنتاج حقيقى». يطرح سعد زغلول، مدير تحرير مجلة البورصة، تساؤلا: «من الذى سيغامر بين المستثمرين بالدخول فى البورصة خلال هذه الأيام المظلمة؟». وطبقا لتصريحات المصدر نفسه فإن عدد المستثمرين الذين لديهم رقم حساب (كود) فى البورصة يبلغ حوالى 2.5 مليون مستثمر، من بينهم حوالى 600 ألف مستثمر ناشط فعليا، ولا يتعدى هذا الرقم حاليا المائة ألف. لأن حجم التداول فى سوق الأوراق المالية انخفض من 2 مليار جنيه قبل الثورة إلى 200 مليون جنيه فى الوقت الحالى، فليس من المتوقع أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية بشكل ملحوظ على المدى القريب. فاحتياطى النقد الأجنبى لا يتعدى 15 مليار، فى مقابل 30 مليارا قبل 2011. والاستثمار الأجنبى كان يصل إلى 12 مليار جنيه بينما نتمنى حاليا أن يصل خلال هذا العام إلى 2 مليار جنيه. والشىء نفسه ينطبق على العائدات السياحية، إذ كانت تصل إلى 15 مليار جنيه قبل الثورة فى حين يتطلع العاملون فى القطاع أن يصلوا بهذه العائدات إلى 10 مليارات جنيه، طبقا لتصريحات الأستاذ سعد زغلول. رغم نبرة التشاؤم هذه التى تسيطر على رواد نادى المستثمرين، إلا أن البعض يرى وميضا من الأمل. مثلا أحمد عيد، أحد قدامى المستثمرين، يعتقد أن البورصة قد مرت قبل ذلك بأوقات عصيبة وتمكنت من العبور بسلام. وهو يروى قائلا: «عندما وقع مبارك فى مجلس الشعب وسرت الشائعات حول موته اهتزت البورصة بشكل عنيف، هذا فضلا عن الأزمة العالمية العنيفة عام 2008 والتى امتدت عدواها إلى الاقتصاد المصرى بطبيعة الحال. فى المقابل ارتفعت البورصة مرة أخرى بعد الثورة عقب الانتخابات الرئاسية وكذلك الإعلان الدستورى. فالشغب هو ما يؤثر على البورصة وليست القرارات السياسية». يستطرد أحمد عيد: «المشكلة أن الأعلام يسكب الزيت على النار ويستغل جهل عموم الجمهور بالبورصة كى ينشر الفزع. فعندما تقول وسائل الإعلام وبصفة خاصة برامج التوك شو أن البورصة قد خسرت 30 مليار جنيه أى ما يوازى قرض صندوق النقد الدولى فهذا نوع من التضليل يروج له مجموعة من المنتفعين لأن هذه الخسارة ليست حقيقية، وإنما تعنى خسارة ورقية»، فالبورصة على حد تعبير أحد المستثمرين الذى رفض ذكر اسمه لا يجب أن تستخدم كورقة ضغط فى اللعبة السياسية لأن هذا سيضر بالاقتصاد الوطنى بشكل كبير. لذا فإن هذا المصدر يعكف اليوم على لم الأسهم أى شراء الأسهم بلغة «البورصجية» حتى لا يأتى رجل أعمال خليجى مثلا ويشتريها بسعر بخس ويكون مصير العاملين فى هذه الشركات بين أيدى الغرباء يتلاعبون بهم كما يريدون. تشاؤم أكبر من نادى المستثمرين بشارع الجمهورية إلى إحدى شركات السمسرة الواقعة فى محيط البورصة، يزداد الضرر وتتصاعد نبرة التشاؤم. تلك الشركات تكاد تكون الخاسر الأول فى هذه اللعبة، فهى الحلقة الأضعف. يقول إسحاق الغيطانى، مدير مالى لأحد هذه الشركات ذات الباع الطويل فى مجال الأوراق المالية: «عادة ما تحصل شركات السمسرة على عمولتها من عمليات البيع والشراء، لكن عندما تتجمد الأوضاع وتقل حركة التداول فنحن لا نحصل على شىء. وهو الأمر الذى أصبحت تعانى منه بشكل كبير هذه الشركات. فمنذ عامين ونحن نحاول أن نتعايش مع الظروف. ونسعى جاهدين لنغطى مصاريف الشركة ونخلق نوعا من التوازن بين المصروفات والعائدات». و فى خضم الأزمة تقوم العديد من الشركات بتسريح العمالة وتقليل رواتبهم لأنها ببساطة لا تحقق أرباحا تذكر. كما تشير الأرقام الصادرة عن مجلة البورصة فإن عدد العاملين بهذا المجال فى أوقات الرخاء كان يتراوح بين 30 إلى 35 ألف شخص، وتقلص هذا الرقم اليوم إلى النصف تقريبا. ومما يزيد الأمر سوءا، أنه لا توجد نقابة تدافع عن حقوق هؤلاء «البورصجية» سوى بعض الجمعيات الأهلية التى تسعى لدفع السوق أكثر من تبنى قضية العاملين فى هذا الحقل. مقهى الهروب من المعركة على مقهى البورصة الشهير الذى كان يستقبل كل صباح رواد من المستثمرين ليتابعوا عن كثب أخبار سوق تداول الأوراق المالية، تبدلت الصورة. فالمكان يبدو خاليا من المستثمرين حتى من كبار «البورصجية» الذين تعودوا ارتياد المقاهى فى السابق، وكان يعرف بحبهم لهذا المقهى أو ذاك. يتحرك النادل برشاقة بين الطاولات، تتعالى أدخنة النارجيلة فى الهواء بينما الشاشات العملاقة تعرض أخبار التحرير وجامعة القاهرة، بدلا من أخبار البورصة وحركاتها فى السابق. يقول صبى القهوة: «لم يعد البورصجية يجلسون على القهوة، بل تركوا مقاعدهم لنشطاء التحرير الذين يأتون غالبا لتناول الطعام أو قسطا من الراحة بعيدا عن زحام الميدان أو هربا من تأثير الغازات المسيلة للدموع». لم يكن البورصجية المحترفين هم فقط المستفيدون من لعبة المال، فقد كانت الفائدة تعم على العديد من المهمشين الذين كان ينالهم من الحب جانب. كانت هذه حال عم م، الكهل الستينى النازح من صعيد مصر، فهو حارس بأحد العقارات القريبة من البورصة حيث مقر إحدى شركات السمسرة المهمة. وكان قد دأب على متابعة أخبار السوق عن قرب، ورغم أنه لم يضارب يوما فى البورصة، لكنه يؤكد أن الأحد الأخير من نوفمبر كان حالك السواد.. تسلل ذلك إلى مسامعه ليس فقط عبر وسائل الإعلام ولكن أيضا عبر رواد الشركة التى توجد فى العقار الذى يحرسه. ويوضح: «منذ عامين لم أذق بقشيشا مجديا يثلج صدرى كما كانت عادة بعض المستثمرين فى أوقات صعود البورصة!»، فالخير القادم للجيران كان يعم على الجميع