الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار في الولايات المتحدة.. لحظة للقيامة في زمن الاحتضار

"الحالمون الأميركيون" كتاب حديث بالإنكليزية للباحث مايكل كايزن
اليسار الأميركي في لحظات احتضاره الأخيرة. ليس الأمر كذلك، على الأرجح، وإن بدا أنه يفتقر إلى الرؤية التي من شأنها ان تعيد وصل ما انقطع مع شرارة اللهب التائهة في الفضاء الغامض للولايات المتحدة. لعلّ في هذا التصوّر الاستباقي لانهيار اليسار في منتصف الطريق، شيئاً كثيراً من تعفّن الحياة الفكرية الثقافية في "الامبراطورية" المرتدة على ذاتها بعد أن ارتدت على الآخرين. ليس دليل عافية بلوغ اليسار في أميركا، نهاية يُراد لها ان تكون محتومة. حتى الرأسمالية نفسها المنتفخة بتضخم الأنا "التاريخية" لا تضمر لليسار هذا الشرّ القاتل. تتوسم فيه خيراً انتهازياً باعتبار أنه صمّام أمان يقيها شرور انجرافها الغريزي نحو مصادرة العالم دفعة واحدة. بالمثل لا يبتغي اليسار في الولايات المتحدة موتاً صاعقاً للرأسمالية بأشكالها المتعددة. يتوسم فيها أيضاً صمّام أمان لسيناريوهاته المحتملة التي يتطلع إليها لإنقاذ الولايات المتحدة من نفسها.
هذه نتف من الأفكار والتصوّرات التي ينطوي عليها كتاب المفكر اليساري الأميركي الكبير مايكل كايزن الصادر حديثاً عن "دار نوبف" بعنوان "الحالمون الأميركيون: كيف غيّر اليسار أمّة".
اليسار الجديد والراديكالي في الولايات المتحدة يسير على طريق الحلم منذ تكويناته المبكّرة في القرن التاسع عشر. لعلّه يحلم بتعثره ، بتفككه، بتحلّله قبل أن يحلم ويستغرق في أحلامه حول الكيفية المستحيلة التي تقوده إلى السلطة السياسية. ولأن الأمر كذلك، على الأغلب، يدرك اليسار أنه من نسيج الحلم أكثر من كونه نسيجاً للواقع السياسي والاجتماعي. كلما اصطدم مشروعه بالأفق المقفل على ذاته، توسعت أحلامه في الذاكرة وتقلصت، في الوقت عينه، في الفضاء الأميركي المختنق بدخان أزماته. ومع ذلك، يعوّض اليسار هزائمه وخساراته وإنكساراته على مساحة "الامبراطورية" المنهكة باختراقات لن يحققها غيره: المساهمة الفاعلة في إعادة تشكيل المناخ الفكري، الفلسفي، السياسي والثقافي قبل ان تحيل الرأسمالية المتوحشة الولايات المتحدة صحراء تشرب العطش من رمالها الحارقة. اليسار في أميركا لحظة للقيامة في زمن الاحتضار.
يفترض مؤلف هذا الكتاب الأحدث عن اليسار الأميركي أن التأثير الذي خلّفه هذا الأخير على مكوّنات الأمّة خلال القرنين المنصرمين كان كبيراً في الحجم عظيماً في الشأن. ومع ذلك، فقد عُرف هذا الباحث المرموق بآرائه الراجحة وسمعته الأكاديمية الرزينة كاستاذ للتاريخ في جامعة جورجتاون العريقة، ورئيس مشارك لتحرير مجلة "الانشقاق" (ديسنت) واسعة الانتشار في صفوف الفئات الراديكالية في الولايات المتحدة. والأهم، في هذا السياق، ان مقارباته التي توصّل إليها واستنتاجاته التي خلص إليها تحظى بتقدير كبير لاعتبارات مختلفة، من بين أكثرها جاذبية لليمين واليسار أنها تتوسم العقلانية في الحكم على الأمور.
فهو يسلّم، على سبيل المثال، بأن اليساريين الراديكاليين كانوا بمنأى عن المسّ بمعتقداتهم السياسية السائدة بما في ذلك الناس الذين يخيّل إليهم أنهم بمقدورهم ان يحرّروهم. غير أنه يستدرك، في إطار مناقشاته، بأن الراديكاليين الأميركيين قد بذلوا جهوداً مضاعفة في محاولاتهم تغيير الأخلاقية الثقافية للأمة أكثر منها التوجهات السياسية. وعلى الرغم من إحجامه عن إضفاء الطابع الرومانسي على اليسار، فإنه في الوقت عينه، لا يتردّد في اعتبار بعض الأفكار اليسارية المتداولة من المسلّمات التي يتعذر الطعن فيها خصوصاً في ما يتعلق بالسياسة الأميركية التي أفضت إلى التغيير. وقد يندرج في هذه المسلّمات منظومة من الفرضيات من بينها السؤال: من يهيمن على الحياة السياسية في الولايات المتحدة. والمقصود بذلك، على الأرجح، ما بات يُعرف بالنخبة السياسية التي يصفها الكاتب بتلك الشرنقة من الخيوط المتداخلة للثروة والبيروقراطية التي تتربع على عرش السلطة. وهو يشير إلى هذا المفهوم بمصطلح "المؤسسة" أو "النخبة الحاكمة". ويرى أنه ما لم تصطدم هذه النخبة محدثة هزة عميقة في أركانها، فإنها ستظل متباطئة للغاية في تقويم الخلل الاجتماعي. ويضيف أنه ما لم يبادر بعض أعضاء هذه النخبة من الفئات الأكثر تنويراً، إلى الأخذ من الإرث الانساني لليسار فإن هذا الأخير بشكله الراديكالي مرشح للبقاء في غربته السياسية طويلاً.
[ يبشرون في الظل
يتوسع الكاتب في استجلاء أوضاع اليسار الراديكالي من دون أن يتورط في التحزّب له. يعتبر أنه في أفضل أحواله نجاحاً وزهوا بهذا النجاح، فإنه لن يحرز في أي تآلف يقوده إصلاحيو "المؤسسة" إلاّ مواقع ثانوية في شراكة من هذا القبيل.
وسرعان ما يجري استبعاد اليساريين في اللحظة عينها التي يقدم فيها الليبراليون على تفعيل برامجهم المحدودة تمهيداً ليحصدوا الفوائد المتوخاة. أنبياء هم اليساريون في الولايات المتحدة، وفقاً لرؤية الكاتب، غير أنهم يبشّرون برسالتهم في الظلّ المغلّف بالصمت. يفتقرون إلى ما يتطلعون إليه من ثناء يجزمون بأنهم يستحقونه بامتياز.
ومن أسف أنهم، نتيجة لذلك، يأخذون بالانغلاق على أنفسهم. يتحصّنون بذواتهم. يعتدون بها. لا يتنكرون لها حتى ولو اضطرهم احساسهم العميق بالعجز للانسحاب إلى الضفاف المنتشرة على الخطوط الخلفية للهوامش. هناك يستغرقون، بتأييد من زملائهم الراديكاليين، في تعقب أحلامهم الوردية بانتظار أن تحدث المعجزة وتتكدس في الأفق القريب نذر عاصفة اجتماعية أخرى تطرق بعنف أبواب "المؤسسة".
[منظومة هشّة
في تحليل مثير للجدل يتجاوز الشكل إلى الحقائق في مضمونها الكئيب، يرى الكاتب ان معظم هذه الفئة "الحالمة" من المجتمع الأميركي المعاصر، تتكون، في الأساس، من منظومة هشّة ومفيدة في آن من الأفكار التي تكدست في الفضاء السياسي والثقافي خلال العقود الأربعة الماضية. يبدي المؤلف ميلاً واضحاً إلى الاعتقاد بأن اليسار الأميركي يشتمل على تلك الشريحة من المواطنين التي دأبت، صادقة، على تحقيق مسار متماسك في المساواة على المستويين السياسي والاجتماعي. ويندرج، في هذا الإطار، العمال في صيغة غامضة من البروليتاريا الصناعية، والدعاة إلى إزالة الفروق العنصرية بين السود والبيض على اختلاف هوياتهم، والمصنفون في خانة التوجه الاشتراكي، والمدافعون عن حق المرأة في الاقتراع والمشاركة السياسية، والبوهيميون، والفوضويون، والمستنفرون، على الدوام للذود عن الحقوق المدنية. ويقتبس المؤلف مثالاً من التاريخ دلالة على البنية السياسية الثقافية لهؤلاء الحالمين، مفاده أنه في أعقاب الحرب الأهلية التي شهدتها الولايات المتحدة، في منتصف القرن التاسع عشر، سعت فئات كثيرة من الراديكاليين إلى الذهاب أبعد كثيراً أو قليلاً من تحرير الأميركيين السود من نير العبودية الاجتماعية والقمع السياسي.
أصرّ هؤلاء، في قرارة أنفسهم على محاولة ضمان المساواة السياسية والاقتصادية لأولئك الذين كانوا يصنفون في السابق، في خانة الرقيق. وعلى نحو مماثل، كان هؤلاء المسترقون يتوقون في قرارة أنفسهم كذلك، إلى الاستحواذ على الحقوق المدنية عينها التي كانت متاحة بوفرة للمواطنين البيض. بدت هذه الآمال ثورية إلى حد كبير ولكن من دون أن يقيّض لأصحابها توظيفها في انتفاضة ثورية كاملة تستهدف محاولة إنجاز الوعود البرّاقة للرأسمالية الليبرالية. وفي خضمّ شعبية هذا التوجه الذي لامس حدود التحوّل الصاخب من حالة اجتماعية متدنية إلى أخرى أرقى، فشل الحزب الاشتراكي خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، في أن يعيد تشكيل صفوفه على غرار حركة جماهيرية فاعلة.
يعزو المؤلف هذا التعثّر المخيّب للآمال إلى أسباب دفينة في الطبيعة الأميركية مردّها على نحو خاص، إلى نمط مضلل على الأرجح من القيم الأميركية الطاغية التي تشدّد على الفردية العابرة للاستقطاب الطبقي. ضرب من الامتلاء العميق بإحساس مفرط بفردية غامضة تزعم أنها بمنأى عن الإصابة بلوثة الطبقية. كان من جراء هذه الفكرة الميتافيزيقية، إذا جاز التعبير، أن تقهقر التوثب الاشتراكي، وانحياز العمال إلى ما يسمى سياسة "الخبز والزبدة". وهذه من المصطلحات العمالية في الولايات المتحدة التي تعني انكفاء الطبقة العاملة إلى نقاباتها بغية النضال العنيف من أجل الحصول على ما يفيض عن النظام السياسي من أعطيات ومكتسبات وحوافز في حدودها الدنيا أو القصوى. ولعل في هذا التصوّر ما ينطوي على احساس بالمرارة ومن ثم بالهزيمة نظراً إلى اضطرار اليسار ومثيله الراديكالي إلى استبدال الحلم بالواقع المنقوص والاكتفاء بالفجيعة بدلاً من الكارثة.
يضيف المؤلف تصوراً آخر أكثر مدعاة للتذمّر والإحباط هو ان الراديكاليين الأميركيين، ومن بينهم الاشتراكيون، ظلّوا عاجزين عن التملّص من إيديولوجيا دوغمائية متجذّرة عميقاً في بنيانهم الأخلاقي السياسي. حملهم غرورهم بمبادئهم الإنسانية "السامية" على الاعتقاد بأنهم هم وحدهم من ينبغي الإقرار بصوابيتهم الأخلاقية، والآخرون في ضلال. ناهيك بأن تناقضاتهم العرقية ومشاجراتهم الحادة التي كانت تتدحرج نحوهم ككرة الثلج أدت، مراراً وتكراراً، إلى نسف حملاتهم الانتخابية في الصميم. ولعلهم بدوا، في هذا السياق، منفصلين عن الواقع البراغماتي للولايات المتحدة، ملتصقين بالجاذبية السياسية الإنسانية الثقافية التي كانت تنطوي عليهم نظرياتهم في الاشتراكية الأميركية.
[ خارج الأطر السياسية
ومع ذلك، يسارع المؤلف إلى القول ان المقاربات المتداولة حيال الفشل السياسي للراديكالية، كما يظهر منذ عقود عدة، إنما تعزى في جزء منها إلى ذلك التعتيم المتعمّد الذي يغلف مسيرة اليسار في الولايات المتحدة. من بين الحقائق التي ينبغي البوح بها، ان اليساريين، على الرغم من حرمانهم من الحصول على النفوذ السياسي، أو على الأقل من الاستمتاع بلقب القديسين في التبشير برسالة الاشتراكية فإنهم ساهموا، بشكل أو بآخر، في جعل الولايات المتحدة مجتمعاً أكثر إنسانية، وذلك من خلال الجهود المضنية التي بذلوها خارج الأطر السياسية المتعارف عليها. والأغلب أنهم اجتهدوا كثيراً في تكوين ما يمكن وصفه بثقافة التمرد. ويستدل الكاتب على هذا المنحى الصامت، إذا جاز التعبير، بتلك الوفرة من الروائيين والشعراء والمسرحيين والمخرجين السينمائيين وشعراء الأغنية وصائدي الفضائح من المراسلين والصحافيين والمؤرخين ذوي التوجه اليساري. يتقاطع هؤلاء جميعاً وسواهم ممن ينزعون إلى اليسار السياسي، في نقطة محددة، على الأرجح، توحي بأنهم قد احتلوا أمكنة لهم في بؤرة من الاغتراب السياسي والاجتماعي. وقد طبع هؤلاء بطابعهم أجيالاً متعاقبة في الولايات المتحدة على نحو يفوق النجاحات المحتملة التي حققوها في مجال الدعوة إلى الفكر الاشتراكي بصيغته الأميركية على الأقل.
ويؤكد المؤلف جازماً، هذه المرة، ان المخيلة الراديكالية التي تشتعل في أذهان هؤلاء المبدعين، تحولت في زمن قصير نسبياً، السلاح الأمضى والأخطر من حيث أهميته الاستراتيجية في إرساء المرتكزات السياسية والاجتماعية لجماعة اليسار والراديكاليين في الولايات المتحدة. وإذا خطونا، في هذا الاتجاه، خطوات أبعد وأسرع وأكثر استكشافاً لاعتبرنا، والحال هذه، ان الراديكالية الأميركية في تجلياتها الإنسانية قد ساهمت في تغيير الأمة على نحو أقل في مجال الاقتراع، وعلى نحو يفوق التصوّر في ما أغنوا به الثقافة الأميركية من أدوات فكرية وأدبية وفلسفية ونقدية وموسيقية تلهب الخيال والعقل. والأهم أن إرثاً مغايراً كهذا في الثقافة الإنسانية المعاصرة، شكّل واحدة من اللبنات في الحداثة السياسية والفلسفية التي قلّصت، إلى حدّ ما، من حجم العزلة الأميركية عن العالم. ولعلّه بثّ في الفضاء الجغرافي الشاسع للولايات المتحدة روحاً مبكرة لمخاض في الثقافة المستحدثة، المتحوّلة، القادرة على اختراق الجدران المنيعة لحصن الرأسمالية الأميركية نحو حقائقها الكامنة خلفها.
[ الحزب الشيوعي
يفرد المؤلف صفحات وفيرة لإعادة قراءة الحزب الشيوعي الأميركي في سياقه الداخلي أكثر منه في محاكاته نموذجه السوفياتي، وتحديداً في عقد الستينات من القرن الماضي. يقارب هذه المسألة التي يعتريها الغموض في الأدبيات السياسية، من زاوية أن الحجم الحقيقي للحزب أمر يتعذّر تبيانه في ما لو جرى الاكتفاء فقط بإجراء جرد حسابي مبسّط لعدد الأعضاء الذين ينتسبون إليه، وهؤلاء لا يزيدون على خمسة وسبعين ألفاً في أحسن الأحوال. وللمفارقة يرى المؤلف أنه كلما أمعن هؤلاء في التذرع بايديولوجيتهم الماركسية، وبشكل خاص الستالينية بمقاييس الخمسينات والستينات من القرن العشرين، هبطت أسهمهم واستقبلهم الناس بالشك واللامبالاة، والاحتقار في أحيان كثيرة. وفي المقابل، كلما امتنعوا عن التمثّل بالنظرية الماركسية واستبعدوا من خطابهم السياسي ستالين وزمرته، أبلوا بلاء حسناً. ومع ذلك، يسلط المؤلف أضواء كاشفة، هذه المرة، على الإنجازات الفكرية والثقافية التي انبرى هؤلاء إلى التعبير من خلالها عن مواقفهم الاجتماعية والسياسية، وتصديّهم لمزاعم السلطة التي بدت أنها تحكم حصارها من حولهم. تحولت هذه الإنجازات، رويداً رويداً، ترجمة هي الأهم والأصدق، والأكثر تعبيراً عن البنية الذهنية والفلسفية التي كانوا يسترشدون بها في صراعهم الصامت والصاخب مع "المؤسسة" السياسية وملحقاتها ومتفرعاتهما.
[ نقلة نوعية
ومع ذلك، لا يبدو أن المؤلف يولي الجماعات الليبرالية، على تعددها واختلاف مشاربها ومساربها، الأهمية السياسية والثقافية التي تستحق. يقدم، بدلاً من ذلك، على استخلاص العبر التي أسفرت عنها تجربة اليسار الأميركي الجديد في التصدي لجنوح السلطة إلى الغرق البطيء في مستنقع الحرب في فيتنام، مستعيداً، في هذا السياق، القيم الراديكالية حيال المسؤولية الأخلاقية التي درج عليها اليسار في العقود القليلة التي سبقت التوّرط الأميركي في فيتنام. غير أنه وهو يرجّح كفّة اليسار واليسار الجديد على التيارات الليبرالية في الولايات المتحدة، أسدى خدمة جليلة في مجال إعادة قراءة المناخ الثقافي الفكري العام الذي أرسته الأجنحة اليسارية ومثيلتها الراديكالية في إطار تعزيز الانتفاضات الاجتماعية التي راحت تضغط بقوة لاستكمال عملية تحرير المرأة في الأعراف الاجتماعية والقوانين الوضعية. وقد غدت هذه الانتفاضات التي اتخذت طابع التمرد الراديكالي حافزاً لا مثيل له من أجل التوسع في رفد الحرية الفردية بمفاهيم حديثة لم تكن متداولة من قبل. وقد أدت هذه الأخيرة، في نظر المؤلف، إلى نقلة نوعية للغاية ارتقت بالتحولات الثقافية من مناخ إلى آخر أكثر احتداماً بالتفاعل مع اللحظة الفكرية الفلسفية القصوى للحداثة. لم يتسنّ لليسار بفروعه المختلفة، بعد ذلك، ان يستمر في نموه الطبيعي وفقاً لدينامياته الداخلية ومرتكزاته الفكرية والعقائدية التي كان أقامها قبل عقود خلت. في السنوات التي أعقبت محطة الستينات من القرن الماضي، أخذ اليسار يبدي ميلاً أكبر وأشرس تعبيراً عن تذمره من التيار الليبرالي ورفضاً لا مبرّر له للحالة الليبرالية برمتها. وقد حدا هذا التطور السلبي باليساريين للجوء إلى مقاربات عنيفة ولغة عدوانية، إلى حد كبير، في تقاطعهم مع الجماعات الليبرالية. واستفحل النزاع بين الفريقين إلى الحد الذي اندفع فيه اليسار الجديد إلى إعادة تبني ما سمّي وقتئذ باللينينية الجديدة التي راحت تستشري في صفوفه تحت الأرض ومن وراء الكواليس. ويؤكد المؤلف، في هذا السياق الحزين، ان اللحظة باتت مناسبة للإعلان عن موت سريري لليسار الجديد.
يقول: "لم يحدث في الأعوام المئة والخمسين الأخيرة، أن استحقت حركة راديكالية في الولايات المتحدة أن توصم بفقدان الذاكرة أكثر من اليسار الجديد بحيث ان تفاقم الخلل الفكري في بنيتها الداخلية حملها حتى على التنكر لتوظيف الحداثة في مجال تحرير المرأة. ومع ذلك، لعلّ في هذه المقاربة شيئاً كثيراً من التسرّع في الحكم على ما آلت إليه الأمور في صفوف اليسار الجديد. والأغلب ان الكاتب، وهو احدى المرجعيات الأهم في تتبع مسارات اليسار في الولايات المتحدة وتأريخ حركاتها ونضالاتها، يتغافل لسبب أو لآخر، عن النجاحات الكبرى التي تمكن اليسار من تحقيقها. من بينها: إنشاء صندوق حماية الطفولة، ومجلس الدفاع عن الموارد الوطنية، والحملات المتعاقبة للحؤول دون أن يمضي الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان في بناء الترسانة النووية المخيفة بذريعة الحدّ من تنامي الوحش النووي السوفياتي. ويتحسّر الكاتب على اصطدام هذه المحطات المشرقة بالحائط المسدود، وهو ينحو باللائمة على قصور فاضح في استراتيجيات اليسار التي ظهر عليها الإرهاق ومن ثم الإجهاد في منتصف الطريق. من أجل ذلك لا ينفك المؤلف يردّد لازمته الشهيرة في كتابه: إن دعاة الإصلاح من فوق يحتاجون إلى دعم ثابت ومتواصل من تحت، وتحديداً من قبل أجنحة اليسار. وكأنه يلمح إلى الاعتقاد بأن المهمة الرئيسية لليسار الجديد التي ينبغي الرهان عليها، تتمثل أولاً وأخيراً في قدرة اليسار الجديد على ممارسة الضغط من أسفل على أصحاب القرار في الأعلى بغية وضع الإصلاح في موضعه الملائم.
ويستشهد على ذلك بالقول ان تقاعس اليسار، على هذا الصعيد، هو الذي أجهض الرئيس الأسبق بيل كلينتون وهو يستميت في محاولاته لتوظيف إصلاحاته السياسية الاجتماعية، وهو الذي انحرف بهذه الشخصية اليسارية الكبرى عن أن تصبح رمزاً تاريخياً للتحول في الولايات المتحدة. ويضيف المؤلف أن هذا التقاعس بالتحديد هو الذي عرقل الرئيس باراك أوباما في ولايته الأولى وجرّده من قدرته ومن نظرياته البراقة في الإصلاح وأحاله رمزاً للتعثر بدلاً من أن يصبح قدوة تاريخية أيضاً للارتقاء بالولايات المتحدة.
[ رالف نادر
وقد يؤخذ على المؤلف الاستسهال الذي عالج به ظاهرة يسارية شكّلت في حينها رأس حربة ضد النخبة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة. نصّب رالف نادر اللبناني الأصل نفسه عن حق محامياً هو الأبرز والأجرأ في الولايات المتحدة دفاعاً عن حقوق المواطنين وذوداً عن المستهلكين ودافعي الضرائب ومتوسطي الدخل والطبقات المتوسطة والفقيرة. ولعلّ الخطوة الأخطر التي خطاها نادر، في حياته السياسية القانونية، أنه شرّع لليسار الجديد في أميركا أبواباً كانت مغلقة عليه من قبل. كان بمقدور هذه الشخصية الكاريزمية ذات الاستقامة اليسارية والأخلاقية أن ينتقل باليسار الجديد من حال الى حال، من فضاء غامض ومتعثر الى فضاء مشرق في مجال القبض على النخبة الحاكمة وهي تنتهك بوقاحة أبسط الحقوق المكتسبة للمواطنين باسم الرأسمالية الليبرالية.
لا يستسيغ المؤلف هذه الشخصية لأسباب لا تمت بصلة الى مكوّناتها اليسارية وصدقيتها في العمل السياسي. يتهمها بالتخاذل عن القيام بتجييش الرأي العام في العام 2000 أثناء المنافسة المتأججة بين جورج بوش الابن وآل غور الديموقراطي. ولعلّ تهمة من الوزن الثقيل كهذه لا تستقيم في هذا السياق. كما يتعذر، في الوقت عينه، استخدام رالف نادر رمزاً يمكن التضحية به بهذه المجانية لتبرير انهيار اليسار في الانتخابات المشار إليها. يشتمل الكتاب، على الرغم من أهميته الفائقة في قراءة أوضاع اليسار في الولايات المتحدة، على شيء كثير من هذه الذرائعية التي يريد بها المؤلف وسواه من اليساريين الكبار في الولايات المتحدة أن يخففوا من وطأة الهزيمة والقهر والإرباك التي يعانيها اليسار بأجنحته الجديدة والراديكالية. وهذا مآل طبيعي، على الأغلب، يسلكه اليسار واليمين في زمن التقهقر والانحسار. ومع ذلك، لا أثر بارزاً على موت اليسار في أميركا. على النقيض من ذلك، ثمة يسار آخر يخرج من رحم اليسار الجديد الذي أنهكته ظروفه الصعبة وأرهقته الضربات المتتالية التي تلقاها من دهاقنة اليمين. يساعده في ذلك، التعثر الاقتصادي الذي بلغ حدود الكارثة في الولايات المتحدة. والأهم على الأغلب الخوف من المجهول والمعلوم الذي بات يلف "الإمبراطورية" من أقصاها الى أقصاها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.