كارثة وشيكة ستجتاح اليمن خلال شهرين.. تحذيرات عاجلة لمنظمة أممية    تعز تشهد المباراة الحبية للاعب شعب حضرموت بامحيمود    وفاة امرأة عقب تعرضها لطعنات قاتلة على يد زوجها شمالي اليمن    عاجل..وفد الحوثيين يفشل مفاوضات اطلاق الاسرى في الأردن ويختلق ذرائع واشتراطات    مليشيا الحوثي تعمم صورة المطلوب (رقم 1) في صنعاء بعد اصطياد قيادي بارز    انتحار نجل قيادي بارز في حزب المؤتمر نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة (صورة)    إعلان عدن التاريخي.. بذرة العمل السياسي ونقطة التحول من إطار الثورة    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    "مشرف حوثي يطرد المرضى من مستشفى ذمار ويفرض جباية لإعادة فتحه"    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    "القصاص" ينهي فاجعة قتل مواطن بإعدام قاتله رمياً بالرصاص    "قلوب تنبض بالأمل: جمعية "البلسم السعودية" تُنير دروب اليمن ب 113 عملية جراحية قلب مفتوح وقسطرة."    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    غضب واسع من إعلان الحوثيين إحباط محاولة انقلاب بصنعاء واتهام شخصية وطنية بذلك!    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بزوغ فجر النُّخب الجدد في الولايات المتحدة

كتاب حديث بالإنكليزية لكريستوفر هايس عن القادمين الى السلطة في أميركا
ماذا يبقى من الولايات المتحدة الأميركية إذا انتقلت برمّتها من كنف الدولة المدنية الى "مكان" افتراضي تشكّل ملامحه طبقة من الموظفين البيروقراطيين، يُسمّون اعتباطاً "النخبة الجديدة"؟ إن إجابة خالية من الضغينة والتحيّز عن هذا التساؤل، تستدعي، في هذا السياق، نقاشاً متشعباً شاملاً ومرهقاً، قاتماً وحزيناً، يتخطى بالضرورة حدود الإجابة الى فتح الملفات الشائكة للامبراطورية التي أنهكها الذهاب بعيداً في متاهة الحداثة. ومع ذلك، ليس مستبعداً، في إجابة أولية، أن تبقى أميركا، في شكلها الامبراطوري التقليدي، وفي أسوأ الأحوال، القديم. فتصبح في نهاية المطاف، نموذجاً مشوهاً للقارة الأوروبية العجوز، أو مكرراً مبتذلاً، في أحسن الأحوال. الولايات المتحدة داخل القبضة اللّينة للنخبة الجديدة. ولأن الأمر كذلك، على الأرجح، أو على شيء من هذا القبيل، على نحو مؤكد، لا يجد الكاتب الشهير والصحافي الكبير، كريستوفر هايس، مفراً من التجرّؤ على اقتحام المعاقل الخلفية لهذه النخبة المتنفذة بغية استدراجها الى مجهر الرأي العام الأميركي. لم تكن هذه النخبة قبل صدور هذه الدراسة مكشوفة بالقدر الذي أصبحت عليه بعده. الكتاب بعنوان "بزوغ فجر النخب: أميركا بعد النخبوية" الصادر عن منشورات "برودواي بوكس"، 2013.
ينطوي الكتاب، في طبيعته الداخلية العميقة، على نقد راديكالي، إذا جاز التعبير، لما آلت إليه التجربة السياسية في تجلياتها الإدارية. والأهم، في هذا الإطار، يجتهد المؤلف، وهو يقترب حثيثاً من مواقع التخبط في المؤسسات الحكومية، في إجراء قراءة تحليلية للذهنية السياسية الاجتماعية التي باتت تتحكم اليوم في تكوين خارطة السلطة البيروقراطية خصوصاً في أعقاب الانهيار المالي الذي لا يبدو أنه أعاد الولايات المتحدة الى أرض الواقع. والأغلب أن هذا الزلزال الذي استهدف الخاصرة الاقتصادية الرخوة للامبراطورية، أفقدها صوابها موقتاً ولم يفقدها طموحاتها الكونية المتأصلة في ذاكرتها.
يلقي المؤلف باللائمة على طبقة النخبويين الجدد، الذين عثروا، في وظائفهم الإدارية، منذ ستينات القرن الماضي، على ما يحدو بهم إلى بذل محاولاتهم المدروسة جيداً للقبض على المفاصل الحيوية في جسد الدولة. يعزو الكاتب إفراغ المؤسسات من مضمونها المدني الحديث الى هذه الطبقة التي مُهد لها السبيل لاستحداث تغييرات بنيوية في الفضاء الثقافي الاجتماعي العام. وهو يخشى من أن يستمر هؤلاء في خطف السلطة الى حيث تتحول الدولة أداة مقصورة على الرؤية السياسية التي يسعون إلى إحلالها وتوظيفها على نطاق واسع. والأخطر، في سياق التصورات التي تشتمل عليها هذه الدراسة، التحولات التي أخذت تطفو على سطح الذاكرة الثقافية في مجتمع لا يزال يفتقر الى ذاكرة تاريخية صلبة لم يُقيض له تكوينها بثبات في القرون الخمسة الماضية. يفتح المؤلف هذا الملف المعقد بخجل، ولكن بشيء كثير من المرونة الأميركية البراغماتية التي لا تقطع في أمر بل تبقيه مشرعاً على احتمالات شتّى.
ومع ذلك، تمضي هذه النخب الجديدة في تعقّب أقدارها الجديدة. لعلّها تؤمن بما يشبه اليقين أنها هي قدر الامبراطورية في نموذجها الأحدث. بدليل أن عناصر هذه الطبقة الذين ينقلبون طغمة مغلقة على نفسها، لا يتزحزحون عن تصوراتهم الآيلة، على الأرجح، إلى تشكيل الصورة الاجتماعية الثقافية على مقاسهم.
ما هي طبيعة هذا المقاس؟ الجواب: الامبراطورية لا تقودها إلا النخبة. وبالتحديد تلك الأفواج الغفيرة من المتفوقين الجدد الذين لا يكترثون للإمساك بالسلطة من ذروتها في أعلى الهرم السياسي. يفضّلون بدلاً من ذلك الإحاطة بها من أسفلها. لماذا؟ لأن المرتكزات والأسس تُبنى من الأسفل الى الأعلى. فليأتِ الى السلطة من فوق من يشاء. أما في الأسفل، فالسلطة للنخب.. فقط.
مشهد آخر يفتتحه الكاتب والسياسي الكبير، كريستوفر هايس، ورئيس تحرير مجلة "نايشون" الأميركية (الأمّة) الأوسع انتشاراً وتأثيراً في الولايات المتحدة. لعلّ هذا المشهد، بصيغته "الدرامية" المشوّقة لم يتوقف عرضه على المسرح السياسي الثقافي، منذ ستينات القرن الماضي. جمهوره الرأي العام بفئاته كافة. ولأنّ الأمر كذلك، فقد تحوّل تقليداً صامتاً، على الأرجح، يدسّه القيّمون عليه في الذاكرة اليومية، إذا جاز التعبير، من دون صعوبة تُذكر. أسوةً بالقانون الأخرس الذي يفعل كثيراً. يتسلّل عميقاً في البنية الثقافية الاجتماعية. يغيّر ملامح راسخة. يعبث بنسيجها الداخلي العريق. يتلفها بتؤدة. ثم يرسي مكانها ملامح أخرى مستهجنة تتغدّر رؤيتها بالعين المجرّدة لأنّها تتكدّس كالنفايات الناتجة عن الأشباح. يؤكد واضع الدراسة أن "الخدعة" التي استخدمت، في العقد السادس من القرن الماضي، على نحو من التجريب الاعتباطي، غدت اليوم أحد المرتكزات الصلبة التي تساهم في بناء واستمرار المؤسسات الأميركية، على الصعيدين الحكومي والخاص.
[ مسار تراجيدي
... ومع ذلك، يتعاقب المسار "التراجيدي" لصورة الامبراطورية المنتفخة بذاتها، فصولاً. صورة متوهمة، تظهرها الى العلن مرآة مضللة. اعتاد المواطنون على النظر اليها. واعتادت الذاكرة على تقبلها والاستجابة لسحرها الغامض لخلوها من البدائل المتاحة. ما هي طبيعة هذه الظاهرة التي باتت تتدحرج ككرة الثلج من قمة الفردوس إلى قعر الجحيم؟ يتولّى المؤلف شرحها والاستفاضة في تحليل طبيعتها والكشف عن مكوناتها الملتبسة في قرابة الأربعمئة صفحة من القطع الكبير. يستجلي محدداتها بدءاً من نمو جذورها الأولى بالقول: إن النخب السياسية المالية التي شقّت طريقها بنجاح الى مصاف السلطة في الولايات المتحدة، عقدت العزم منذ الستينات المنصرمة على الإتيان بذوي المواهب والكفاءات الاستثنائية، رجالاً ونساء، لملء المواقع الهامة والحساسة في المؤسسات الرسمية المختلفة. جاء اختيار هؤلاء، في الأساس، بناء على اقتناع مشبوه، منذ البداية، يفيد بأن هذه النخبة الجديدة الصاعدة تستحوذ، وفقاً لمهاراتها العلمية والفكرية الفذة، على أفضلية مطلقة على سواها من النخب التي تتدفق تباعاً من الجامعات والمعاهد، خصوصاً تلك التي لا يتخرّج منها إلا المتفوقون. وقد زُرع في أذهان هذه النخب المتعطشة للانضمام الى "معسكرات" السلطة، أن قدراتهم المكتسبة تجيز، بالضرورة، هذه الأفضلية، وتشرّع، في الوقت عينه، سوء تطبيق القوانين وانتهاكها إذا أمكن، أو سن قوانين مغايرة لتسهيل عملية "تجنيدهم" في المؤسسات الرسمية.
يبدو جلياً، في سياق المقاربة، أن زمرة السياسيين المتنفذين الذين يخيّل إليهم، بالفعل، أنهم يهيمنون على روح الإدارة ومفاصلها ويمتلكون مفاتيحها ويحرسون أبوابها ونوافذها، قد أقرّوا، في ما بينهم، على نحو من التوافق المسبق، أن هذه النخبة الصاعدة المتنقاة هي خير من يرث نهجهم السياسي الإداري في السلطة. قد لا يرثونهم في مواقعهم السلطوية الخطيرة. غير أنهم سيحتفظون لأسيادهم الذين جاؤوا بهم من الحضيض، بأهمية "استراتيجية"، إذا جاز التعبير. تتمثل في الإبقاء على نفوذهم في الإدارة، من جهة، وعدم المسّ بمكانتهم، على صعيد الوساطة والسمسمرة والأثرة والكلمة النافذة. نمط سائد في الولايات المتحدة، منذ خمسين سنة، على الأقل، لا يختلف في المضمون عن آلية التسلّم والتسليم العائلية والحزبية والقبلية والأيديولوجية والدينية في بلدان العالم الثالث. ولكن مع فارق جوهري هو: أن هذه النخبة المستجدة في أميركا تندرج في خانة المتفوقين الذين أمضوا سنوات على مقاعد الدراسة في الجامعات المخصصة لصفوة التلامذة من ذوي المواهب الاستثنائية.
ويلفت المؤلف، بشيء كثير من الحزن والأسف على ما آلت اليه الأمور، أن أفراد هذه النخبة الذين انفتحت لهم صناديق الحظ في الستينات، كانوا يُستدرجون، وقتئذٍ بأعداد قليلة، بحيث لم يخلّف هؤلاء وراءهم شكوكاً تدعو الى الحذر والريبة. واستمروا على هذا المنوال خلال السنوات العشر التي تعاقبت بعد هذا التاريخ. ثم راحوا يتدفقون الى المؤسسات الحكومية والخاصة بأعداد أكبر نتيجة للتوسع الكبير الذي طرأ على نشاط الدولة وأعمالها في الداخل والخارج على حدّ سواء.
[ لغز محيّر
والأغلب، في هذا الإطار المشوب بضباب كثيف، أن هناك لغزاً محيّراً يحوم في الأفق، على استحياء، من دون أن يظهر الى العلن لأنه يفتقر الى الحجج الدامغة والبراهين الساطعة. وسيظل يدور في هذه الحلقة المفرغة حتى إشعار آخر ما دامت "الامبراطورية" تنتقل من هزّة داخلية الى أخرى خارجية وبالعكس. لعلّ المقصود بهذا اللغز: أن الانزلاق التدريجي للإدارة، بسائر مؤسساتها، نحو الترديّ المروع تمهيداً للوصول الى الإخفاق المؤجل، لم يعد أمراً يمكن العودة عنه في لحظة من صحوة ضمير. أو الرغبة في خلط أوراق على طاولة المكاشفة. أو التفكير المنطقي في وجوب إجراء جرد لحسابات الربح والخسارة. أو حتى التأمل في أهداف سامية، أو أخلاقية، تعود بالفائدة على الدولة والمجتمع والأفراد. وهذا الأخير من الاحتمالات التي لم تعد قابلة للتحقق. ولأن الأمر كذلك، وفقاً لاستنتاجات الدراسة، تحولت هذه الأفواج من النخب المستجدة التي يُؤتى بها تباعاً الى شرنقة الإدارة، أكثر تشبثاً بمواقعها في الهرمية السياسية والاقتصادية والمالية. لماذا؟ لأنها، على الرغم من ذهنيتها المغرقة في الفساد وتجاهلها المتعمد للخراب الإداري الناتج من عدم المساواة، ومضيّها المتوحش في القضاء على الشخصية الاعتبارية للدولة، لا تزال هي وحدها المؤهلة لتشغيل عجلة الإدارات والمؤسسات، على اختلافها وتنوعها. ولعلها أصبحت أكثر تجذراً في بؤرها حيث هي، لأن "تجنيد" أفواج جديدة من النخب التي تنتظر أدوارها في النفق الطويل، أمر بها دون سواها. علماً أنها لا تزال تحظى برعاية أسيادها القدامى الذين ورّثوها مهمة تقاسم جسد الامبراطورية وهي لا تزال على قيد الحياة أو شيء من هذا القبيل.
يضاف الى ذلك، أن المسّ بهذه النخبة المتجددة، من قريب أو بعيد، قد يسفر، في طبيعة تداعياته، عن أشكال مستهجنة من الفوضى، والفضائح السياسية والمالية، والنيل من السمعة، أو الثأر منها. ناهيك بمحاولات التنقيب في أرشيفات الماضي وسجلاته ووصماته السوداء رغبة في الانتقام المتعجل من هذا أو ذاك. مشهد من الخرافة العنيفة يُذكّر بساعة الحشر يوم تهبّ الجثث من مدافنها هاربة الى العدم. لن يتجرأ أحد في الولايات المتحدة قاطبة، على التحرش بأوكار هذه النخب، أياً كانت الأسباب التي تدعوه الى هذه المغامرة القاتلة. ولو سوّلت له نفسه الإقدام على التسلل الى هذه الأوكار من أروقتها الخلفية، على سبيل المثال، وفي ظنه أنه يستطيع بذلك محاصرتها أو القبض عليها عنوة، لأتهم، عندئذٍ، بميوله اليسارية المتشددة، أو وجهت إليه الإدانة بالتواطؤ على إدارة هذا الرئيس أو ذاك للانتقاص من شرعيته. السيناريوات المعدّة سلفاً للتصدي لهذه "المباغتة" أكثر من أن تُحصى. بعضها قد يؤدي بمن تحلّ عليه "اللعنة" الى الجحيم ببطاقة ذهاب واحدة.
[ أزمة ثقة
يحرص المؤلف على التوسع في تحليلاته السياسية الأخلاقية الثقافية المتعلقة بتدهور الثقة بين الحكومة بمؤسساتها المتكاثرة من جهة، والمواطنين بمختلف طبقاتهم وانتماءاتهم الحزبية والعقائدية، من جهة أخرى. يصفها، أحياناً، بالمتعثرة، وأحياناً أخرى بالمتدهورة، وأحياناً ثالثة بالمتآكلة نتيجة لانفراط "العقد التاريخي" بين الطرفين. والمفارقة المذهلة، على هذا الصعيد، أنه كلما أدركت هذه النخب أن ثباتها في مواقعها هو انحياز مبتذل الى المصالح الذاتية وتفاقم لعدم المساواة وولاء مريب للأسياد القدامى، أمعنت في ما هي عليه. واستشرست، في الوقت عينه، بالتهديد أو التلويح به، على الأقل، في إظهار أنيابها الحادة التي تتحول قاتلة في اللحظة المناسبة.
بات يُخيّل لهذه النخب التي تزداد عدوانية مع كل فوج جديد يُستجلب الى الإدارة، أنها لا تختلف في شيء عن عرابيها القدامى والجدد. باتت تقتبس ملامحهم. تتمثل بشخصياتهم وسلوكهم. تحاكيهم في طبائعهم وأمزجتهم وقراراتهم. ترتدي أقنعتهم. تمتلئ بعظمتهم التي لا تفتقر الى البطش عندما تدعو الحاجة الى ذلك. والأهم أنها لا تمتنع عن تقليد أسيادها حتى في الكيفية التي أدت الى إخفاقهم، أو افتضاح أمرهم، أو تشويه سمعتهم. صحيح أن هذه النخبة ليست بمنأى عن الإحساس بالخطر المداهم. ولعلها تستلقي يومياً الى جوانب كوابيسها القبيحة. غير أنها، وهي تقبع تحت الضغوط الآتية من المجهول والمعلوم، تقبل على ممارسة مهامها يحدوها اقتناع مدهش بالثقة العميقة بالنفس. وأنها تتكبد المشاق، وترهق نفسها ليل نهار، وتبذل أقصى ما في استطاعتها من أجل الدولة والمجتمع. ولأنها مقتنعة بأحقية وجودها في مواقعها، راحت تأخذها العزّة بالإثم. باتت معجبة بنفسها وبإنجازاتها. أصبحت هي عينها مرآة نفسها، لا تحتاج الى مرايا أخرى. مرآتها الذاتية تختصر سائر المرايا.
من قبل كانت تميل الى النظر الطويل في مرآة الأسياد. كانت هذه الأخيرة هي المقياس. اليوم حلّت المرآة الجديدة مكان نظيرتها القديمة. والأرجح، أن المرآة الجديدة قد أُسقطت إسقاطاً على القديمة. تذهب مرآة وتأتي مرآة، ثم تعقبها مرآة ثالثة ورابعة وهكذا دواليك. لعبة لإسقاط المرايا وارتداء الأقنعة في أجواء مسرحية عقيمة في سخريتها. كلّما احتدمت المخاطر من حول هذه النخب، ازدادت ثقتها بالنفس واستفحل أمرها، واستشرست، وأدركت أن درء الخطر لا يكون إلا بحماية الموقع من الخطر، والذود عنه من الخطر الآتي من ترّهات الناس. قد يقرّ النخبويون الجدد بأحقية مطالب المواطنين، خصوصاً في ظل الاختناق المالي الذي يُحكم قبضته على الولايات المتحدة. غير أنهم يضيقون ذرعاً بالانتقادات التي تطاولهم. يعتبرونها استهدافاً شخصياً لهم وانتقاصاً من جهودهم المكرسة للخدمة العامة والخاصة، وافتئاتاً عليهم، ورغبة في إزاحتهم عن مواقعهم. والأرجح أنه لم يعد بمقدور هؤلاء النخبويين الجدد أن يرسموا حدوداً فاصلة بين الانتقادات المشروعة للمواطنين، من جهة، وإحساسهم المرضي بأنهم هم المعنيون بهذه الانتقادات.
لا يُعزى ذلك، على الأغلب، الى توجس من عقدة ذنب، بقدر ما يردّ الى شعور عميق بعقدة الاضطهاد. ومع ذلك، قد ينقلب الاضطهاد ذنباً، والعكس صحيح أيضاً في حالات محددة، من بينها: أن من يعاني من عقدة الذنب، سرعان ما يلقى نفسه مدفوعاً برغبة جامحة للخلاص منها، من خلال التوهم، على الأقل، بأن هناك من يتعمد اضطهاده لحمله على الاعتقاد بأنه اقترف إثماً كبيراً.
لعلّ هذا التصور، في سياق مناقشات الدراسة، ينطبق، بشكل أو بآخر، على النخبويين الجدد الذين تؤرقهم هذه الفكرة. ولذلك يلجأون الى البحث في ذاكرتهم المسطحة عن حلول ناجعة لاستعادة شيء من الطمأنينة التي يفتقرون إليها. فإذا بهم يخيّل إليهم أنهم مرشحون دائمون للتضحية بهم لأفعال لم يقترفوها. يستعجلون الخطى، على الفور، من أجل تصنيف أنفسهم في خانة المضطهدين ليتمكنوا، في المقابل، من إلحاق الأذى والاضطهاد بمن يدرجونهم في خانة من يستحقون التضحية بهم.
[ تسامح ونقيضه
ومن غرائب الأمور، كما يقول المؤلف ويرى، أن الأكثرية الساحقة من هذه النخب التي يتسلم بعضها من بعضها مفاتيح الدخول الى جنة السلطة، تشيع في ما بينها قيم التسامح، وغض النظر، وإشاحة الوجه عن الأخطاء والخطايا باعتبارها هفوات عارضة غير متأصلة في صاحبها، ولا تُحسب عليه أيضاً. بينما يتحول هؤلاء أنفسهم وحوشاً ضارية دفاعاً عن القوانين وأموال الدولة وكرامتها، وحقوق الناس، إذا ما قُيّض لهم أن يحاسبوا موظفين آخرين لا ينتسبون الى نادي النخبة. عندئذٍ، تقع الواقعة على رأس هذا الموظف وأمثاله، وتقوم القيامة ولا تقعد بذريعة سوء استخدام السلطة الوظيفية والعبث المقصود بمصالح الدولة وشؤون الناس. ومرد هذه الخصال الانتهازية، على الأرجح، الى عقدتي الذنب والاضطهاد آنفتي الذكر.
باعتبار أن هاتين النقيصتين مستنفرتان، على الدوام، لدى أصحابها. بكبسة زر واحدة في الذاكرة المأزومة، ينطلقان في اللحظة المناسبة، ثرثرة وقرقعة في مديح أجوف للأخلاق والمبادئ. غالباً ما تبتكر النخب مواقف مصطنعة كهذه، أو تخطط لها بدهاء لتوظيفها في مجال طمس الحقائق المستباحة من وراء المكاتب المعزولة على أصحابها المعتكفين على أنفسهم. وكأنهم من أصناف المعصومين عن الذنوب الذين لا تشوبهم شائبة ولا يمسهم رجس أو نجاسة.
بهذه الخلفية من التجرؤ على افتضاح "أسرار" هذه النخب، يختتم المؤلف دراسته وفي قلبه شيء كثير من هذه الفئة من كبار المسؤولين السياسيين والماليين في الولايات المتحدة. لا يتوقع تحولاً جذرياً في ما آلت إليه الأمور، ولا تحولاً جزئياً في سياساتهم التي لا يحيدون عنها. الرأي العام الأميركي مثقل بهواجس من ذلك النوع الذي لا شفاء منه.
كبار المسؤولين في الإدارة منهمكون في محاولات يائسة للاحتفاظ بالبقية الباقية من الصورة الكونية للامبراطورية التي باتت ترتدي ثياباً فضفاضة تفوق حجمها أضعافاً. البوصلة ضائعة والربان مكتئب والسفينة طوع الريح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.