GMT 21:00 2014 الثلائاء 8 أبريل GMT 20:24 2014 الثلائاء 8 أبريل :آخر تحديث عوالم لا تندثر، ماكثة في أقبية النظر والذاكرة. بين وهلة وأخرى تجيءُ، بغنائية عفوية. تمرّ أمام البال: أزقة ضيّقة، أبواب خشب مرصعة بنتوءات نحاس أو حديد. وفقاً لزخرفة هندسية أوعشواية. من هنا، حيث أكمن أراهم، تكتظ بهم، بقاماتهم البضة،الشناشيلُ المفتوحة، يتنقلون من شرفة الى أخرى ومن نافذة الى سواها. ارى كركراتهم المرصّعة بالفرح، وأجسادهم وسيقانهم الصغيرة الخارقة البياض، واقدامهم الحافية تنتهي باصابع رفيعة طرية. تارة يهبطون من عل ٍ، وأخرى يصعدون الى طبقة أعلى. وجوهٌ قمرية صغيرة ستكون غداً شخصيات مرموقة. من هذه الدروب الحلزونية ذات الايقاع البغدادي خرجوا، غدوا علامات حركّوا مقادير أيامنا. كنتُ ارى وجوههم تمرع في سنا الطفولة خللَ منمنمات ملونة متشظية وفق دوائر ومربعات ومستطيلات صغيرة، تحيط بالوجوه ضحكاً وكركرة وابتسامة فرح خافتة. لكنها لا تحجبها عن نظري. هذه الدروب العراقية تتشابه وتختلف في كلّ محافظاتنا، رأيتُ أمثالها في دروب كركوك: القورية، صاركهية، محلة المصلى وجقور. وكذا في أزقة القلعة. ولمثلها توائم في القشلة وفي العشار وشرايين البصرة القديمة. لكن أجملها ما رافق نهر العشار من ثانوية البنات حتي نهايات منطقة النظران.وثمة أزقة شبيهة بها في مدننا العراقية الأخرى التي أمدّت مجرى حياتنا بالمبدعين الخلاقين. وكلما مررت في درب تذكرتُ ذات الصورة. الوان منمنمات تغطي واجهة النظر. وأراني بعيداً في أطراف أخرى. شبه تائه اروم العود الى دروب الألفة. بيني وبغيتي مساحات جواباتُهم غامضة. ولطالما سالتُ هذا وذاك. بعضهم يرفع يده كما يطردني، وآخرون لا يجيبون عن كل اسئلتي، فتجيء مبتورة وعشوائية. أمر أمام دكاكين النجّارين، والجزّارين والحدادين وباعة الخضار والحلوى والمخبز المزدحم بالناس.فيرميني شارع الى سواه . استمرّت المعاناة زمناً لا يمكن ضبطه في منطق الحلم. قلتُ مع نفسي: سامضي ابحث عن طريق يوصلني الى ملاذي. صعدت حافلة ركاب، كان الجابي كريماً فدلّني على المكان، لكن ينبغي أن انتقل الى حافلة أخرى وأخرى. بعد دهر، والزمنُ في مثل موقفي هلامٌ يفتقد منطقه. اعترفُ أني احسست خلال هذه الرحلة العجائبية أني غشيتُ دروب كلّ مدائننا من زاخو حتي ممالح الفاو. ما زالت الصور / صور الطفولة والوانها الباذخة / تنتظرني في حنية ما. فواصلتُ مسعاي، في هذا العالم ليس ثمة تعبٌ ولا خضوع للوقت، هو طوع يديك. يتمدّدُ ويتقلصُ نزولاً عند الرغبة. فولجدتُ مدارس ومعاهد ومساجد وألتقيتُ اناساً ما سألتهم عن شيء ولا سألوني مَنْ أكون. أخيراً وجدتُني في مبتدأ جولتي. فذي ذاتُ الوجوه المزدانة بالكركرات والفرح اليومي.اراهم صاعدين ونازلين، وأرى أعمارهم البضة المتقاربة. ولوح ّ لي أكثرُ من يد. كنتُ عابر سبيل، لكن بدوتُ صديقاً لهم لكثرة مكوثي وانا اراقبهم أملأ سمعي بصورهم الضاجّة. غادرتُهم، بل غادرني المكان ورماني الى مصادفة أخرى ..... ... فتسوقني قدماي هذه المرّة الى صقع آخر، شارع طويل ما غشيته قبلاً، ولا أدري الى أين يفضي بنا نحن الثلاثة الألى جمعنا الطريق، فالذي على ميمنتي ليس صديقاً، بل زميلاً من ايام التعليم تبوّأ مناصب عالية. كان عبثيّاً هيبيّاً يُمضي جلّ نهاره مع ثلاثة آخرين في لعب القمارفلم يحظوا باحترامي. لكنّه الآن نصفُ آدمي يعرج في مشيته منحني الظهر. هو يحمل حزمة أوراق، فناولها الى زميلي على ميسرتي. فجاة توقف أمام محل لبيع الأقمشة: اذهبا أنتما وسالحق بكما. عندئذ اندلق من فوهة الدكان رجل له شكل افغاني، تابّط ذراعه وعادا ليدورا وراء الدكان فولجا باباً لم اره. ومضينا أنا وصاحبي من دون أن نتحدّث. توقفنا أمام باب، مدّ يده وناولني رزمة الورق: تستطيع قراءة بعض الأوراق ففيها نصوص مفيدة. اختفى الرجل وتهالكتُ متعباً على مقعد طويل. اروم تصفحها. ففي الورقة الأولى كتابات وخربشات تجريبية وعشوائية. وبصعوبة قرأتُ عبارة: قررتُ أن لا احلم بعد اليوم ولا اسجّل تفصيلاته.... استخففتُ بعبارته تلك، كيف بوسع المرء أن لا يحلم، الحلم جهة أخرى من الحياة. تجري الى جوارنا شئنا أم أبينا. اما الورقة الثانية والثالثة فقد كانتا رسالة طويلة من صديق له. لم اجرؤ على قراءتها، وقلبتُ اوراقاً حتى عنّت واحدة كانت كتابتها مميّزة واشد عتاماً من بقية الخطوط. تنطوي على نص شعري حداثي، ورُمتُ قراءتها، ثمّ انتهى وقتي واقصيتُ الى فراغ مجهول.لكنّ عينيّ التقطتا منها هذه العبارة: الصمتُ فضيلة لا يُدركها كلُّ أحد، ورديفُه الصبر. علينا أن نُصغي أكثر ممّا نتكلم..... ايلاف