جمال بن حويرب المهيري سألني أحد الأصدقاء: هل للعقوق من آثارٍ سلبيةٍ على المجتمع، لأنّه أمرٌ خاصٌّ بين الوالد وولده والأسرة ونجلها؟ فأجبته: إذا كان "عقوق الأبناء" قليلا وليس ظاهرة يراها الجميع، فسيكون أمراً منكراً منبوذاً تعاديه القلوب وتحاربه بنجاحٍ كلّ النفوس الطيبة المتراحمة لأنّها الغالبية التي لا تُغلب، ولن تترتب عليه آثار سلبية على المجتمعات الآمنة المترابطة، ولكنّه إذا كان منتشراً ويزيد مع الأيّام فهنا يجب على المجتمع أن يَرفع من درجة الإنذار بالخطر إلى اللون الأحمر، لأنّهم سوف يواجهون أخطاراً حقيقية قد تقضي عليهم وعلى كلّ مكتسباتهم، خاصة في المجتمعات الإسلامية ذات الطابع المحافظ على القيم والعادات. ويمكن تلخيص هذه الأخطار في الآتي: انفصال الجيل الجديد عن الجيل الذي سبقه، مما يؤدي إلى انقطاع الخبرة والحكمة وحسن التصرف. الابتعاد عن قلوب الآباء المخلصة في التوجيه والنصيحة، يؤدي إلى وقوع الابن العاق في الحُفَر المهلكة والمصائب. سهولة اصطياد العاقّين من قبل المفسدين والضالين والمحرّضين على الفساد والظلم. يخرج هذا الابن من رضى الله إلى غضبه فلا يكون موفّقاً في حياته. يتمّ توريث هذا العقوق لأبنائه، فينتقل المرض العضال لأنّهم سيفعلون مثل ما فعل بوالده. عادةً ما يكون هذا العاقّ عبئاً وخطراً على الدولة والأمن القومي، لأنّ من ليس فيه خير لوالده ووالدته فهل سينفع وطنه وأمنه! ظهور أحفاد مشوّهين فكريّاً وأخلاقيّاً ودينيّاً إلا من رحم الله. كلُّ هذه الأمراض الخطيرة التي تفتك بالمجتمعات منشؤها من عدم ترابط الأسر فيما بينها، وأكثر ما يفرّقها "العقوق"، وهو داءٌ كما ذكرت أمس ينتشر مثل انتشار النار في الحطيم، وقد كثُر جداً حتى بلغ عدداً خيالياً لم نكن نتوقّعه في بلادنا الحبيبة، التي يُعرف أهلها بالكرم والطيب والشهامة وحب الدين والأخلاق الحميدة منذ القدم، فما هي الأسباب والظروف التي هيأته؟ ولماذا كلُّ هذا العقوق المخيّب للآمال والمضيّع للأوطان، وفضل الله علينا عميمٌ وشعبنا في رفاهية ونعمة؟ قد يكون الجواب طويلاً إذا درسنا هذا الداء الخطير من كلّ جوانبه، ولهذا سأخبركم بأهمّ ما رأيته سبباً لهذه الزيادة الكبيرة والغريبة في نسبة "العقوق"، الذي لم يظنّ أحدٌ ينتمي إلى هذه الدولة المعطاء أنه سيزداد زيادة كبيرة تجعلنا نقع في حيرةٍ وخوفٍ من المستقبل، ولكنّي أظلُّ أكرر أنّ علاج هذه الظاهرة وإن كان متأخراً، لكنّه لم يتأخر جدّاً فمعرفة الأسباب تُعين على إيجاد الدواء المناسب، وهي: انشغال الآباء والأمهات عن التربية الصحيحة لفلذات أكبادهم، فلا يعطونهم الجرعة الكافية من الحنان والرحمة والتآلف. ترك الأبناء مع "خدم البيوت" طوال الوقت، فيأخذ الطفل من ثقافتهم الغريبة علينا في سنّ مبكرة وهي التي تتمُّ فيها الزراعة. إدخال الأطفال إلى مدارس خاصة أجنبية لا تعرف الدين ولا الأخلاق، فينبهر الطفل بهذا المجتمع الغريب عليه ويبدأ في تقليده. كثرة مشاهدة الأفلام التي تحتوي على كثير من "العقوق" وعدم احترام الآباء من الصغر، فتترسخ هذه القيم في عقل الطفل الباطن. لا يحرص الآباء على جذب أبنائهم إلى مجالسهم ومحاولة السفر معهم والقرب منهم كما كان يفعل الأولون، بل يتركونهم يكبرون بعيدا عنهم. قلة الاهتمام بزرع الوازع الديني والخوف من الله، ولهذا تجدهم يعقّون آباءهم ولا يحفلون بالدينٍ ولا بنقد المجتمع لهم. اهتمام الإعلام ضعيف جدا بتوعية الناس - إلا قليلا - عن مخاطر ظاهرة "العقوق" وخطرها على المجتمعات. تفرّق الأسرة وعدم تعاونها على تربية النشء وتوجيههم التوجيه الصحيح، أدى إلى زيادة هذا المرض الخبيث. عشق الأطفال والمراهقين لمواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت والألعاب، جعلهم يكوّنون عالماً جديداً بعيداً عن آبائهم مما يمهّد للقلوب القاسية. وهناك أسباب أخرى يمكن أن نضيفها في مقالةٍ أخرى، ولكنّ المهمّ أن نبدأ سريعاً بعلاج هذه الظاهرة بكافة الوسائل المتاحة، وعدم تركها لتفسد المجتمع ثم تؤدي إلى انهياره من جميع الجوانب، وأسال الله العفو والعافية لي ولكم وأن ييسر لنا برّ والدينا آمين.