بيروت - "الخليج": عاد مسلسل التفجيرات الانتحارية لينشر الدمار والموت، لكن الإجراءات الأمنية المشددة حالت دون تمكين الانتحاريين من تحقيق أهدافهم، واللجوء إلى التفجير العشوائي بعد افتضاح أمرهم، إذ بعد ثلاثة أيام على تفجير حاجز ضهر البيدر عند طريق بيروتدمشق الجمعة الماضي، استهدف تفجير انتحاري ثان منتصف ليل الاثنين/الثلاثاء، منطقة الطيونة عند مدخل الضاحية الجنوبية الشمالي لبيروت، قرب حاجز للجيش اللبناني ومقهى أبو عساف الذي كان يكتظ بشبان يتابعون مباريات كأس العالم، وأوقع 19 جريحاً وشهيداً واحداً هو المفتش الثاني في الأمن العام عبد الكريم حدرج الذي اختفت آثاره بعد حصول التفجير، لكن نتائج فحص الحمض النووي DNA، التي أجريت على بعض الأشلاء من مسرح جريمة التفجير أظهرت أنها تعود له، فيما تعود الأشلاء الأخرى للانتحاري الذي يتم العمل على تحديد هويته . وحاول منفّذ الهجوم الدخول عكس وجهة السير، محاولاً تفادي حاجز الجيش في الشياح، قبل أن يوقفه عنصران من الأمن العام بلباس مدني هما حدرج وعلي جابر ويطلبان منه الاطلاع على الأوراق الثبوتية، بعدما تذرّع بأن مفتاح سيارته كُسر إثر توقيفه في وسط الطريق، ووضع حدرج مسدسه في رأس الانتحاري، فيما توجه جابر الجريح الآن بفعل الشظايا وخضع لعملية جراحية في رجله، باتجاه حاجز الجيش البعيد 50 متراً للاستعانة به على الشخص المجهول الذي تأكد أنه كان يتحدث بلهجة سورية بعدما أثار الشبهات، لكن ما إن ابتعد جابر 10 أمتار عن السيارة، حتى سارع الانتحاري إلى تفجير نفسه، ما أدى إلى استشهاد حدرج . وأعلنت قيادة الجيش في بيان أن وحدات من الجيش فرضت طوقاً أمنياً حول المكان المستهدف، وحضرت وحدة من الشرطة العسكرية، وعدد من الخبراء المختصين الذين قاموا بالكشف على موقع الانفجار، حيث تبين أن السيارة كانت مفخخة بنحو 25 كلغ من المواد المتفجرة . واستنكر رئيس الوزراء تمام سلام انفجار الطيونة ووصفه بأنه "عمل إرهابي بشع"، داعياً اللبنانيين إلى "اليقظة والوعي لقطع الطريق على العابثين بأمن البلاد ومحاولات زرع بذور الشقاق بين اللبنانيين"، وأشار إلى أنّ "هذا العمل الإجرامي الذي استهدف مدنيين أبرياء في منطقة سكنية آمنة، هو محاولة مكشوفة لزعزعة استقرار لبنان وضرب وحدته الوطنية، بل والعبث بأسس الكيان، عبر استيراد الفتنة المذهبية التي تدور رحاها للأسف في جوارنا الإقليمي"، مشدداً على أن "لبنان ليس صندوق بريد لأحد، ولن يكون ساحة للعبث الطائفي أو المذهبي، وهذه المخططات ستبوء حتما بالفشل بفضل حكمة اللبنانيين وقواهم الفاعلة" . ودعا رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان "الجيش وقوى الأمن الداخلي إلى رفع جهوزيتهما وتكثيف الجهود لإحكام السيطرة على الإرهابيين بانتماءاتهم كافة والقضاء عليهم"، ورأى رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي أنه "في هذه اللحظات الدقيقة من تاريخ لبنان، لا يكفي استنكار ولا إدانة ولا التذكير بسياسة النأي بالنفس التي انتهجناها وطالبنا كل الأطراف بالتزامها، بغية إغلاق أبواب الجحيم عن لبنان، ولا تكفي مناشدة الأطراف الابتعاد عن الخطابات المتشنجة وإطلاق الاتهامات من هنا وهناك بل المطلوب تفعيل عمل الحكومة تحت سقف الدستور والاستعجال بانتخاب رئيس جامع وتعزيز الحيطة الأمنية والتنسيق بين الأجهزة الأمنية كافة" . وأعرب رئيس كتلة المستقبل النيابية فؤاد السنيورة عن "إدانته واستنكاره الشديد لجريمة التفجير الإرهابية التي استهدفت الآمنين والأبرياء في منطقة الطيونة"، معتبراً أن "الإرهاب لا دين له، بل هو وباء وآفة يجب القيام بكل الإجراءات والاحتياطات والتدابير لمواجهتهما واستئصالهما وملاحقة المخططين والمرتكبين وسوقهم إلى العدالة" . ودان رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط التفجيرات الإرهابية التي ضربت مجدداً لبنان، وأكد وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق أن الأمن ما زال ممسوكاً والدليل الإرباك في التفجيرين الأخيرين، واستنكر رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الانفجار، مشيراً إلى أنه "لم يطل أطراف الضاحية فقط بل المناطق اللبنانية كلها" . ولافتاً إلى "أن مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية تقوم بجهود كبيرة ولكنها ليست كافية وحدها إلا إذا تلاقت وتُرجمت في السياسة ببُعدين من خلال: أولاً تطبيق إعلان بعبدا، وثانياً عبر استكمال عمل المؤسسات الدستورية وفي طليعتها رئاسة الجمهورية" . ونددت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بشدة بالتفجير الإرهابي، وأكدت أن هذه الجريمة هي محاولة أخرى، لاستهداف السلم الأهلي وزعزعة الاستقرار والأمن في لبنان، وخاصة في ظل التطورات الخطرة التي تشهدها المنطقة العربية، ودعت الأطراف اللبنانية إلى ضبط النفس والاجتماع من أجل دعم مؤسسات الدولة . ودان المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان ديريك بلامبلي، بشدة الانفجار الانتحاري، وأكد "ضرورة الحفاظ على وحدة الصف في لبنان في مواجهة التهديد الإرهابي"، مشيداً بكل ما تقوم به القوى الأمنية من أجل حماية الأمن والاستقرار في البلاد . إلى ذلك، طلب قاضي التحقيق العسكري عماد الزين عقوبة الإعدام للموقوف السوري محمود كعيكي والفلسطيني الفار من وجه العدالة أحمد طه لانتمائهما إلى "جبهة النصرة"، وقد ضبط في منزل كعيكي في عرسال في البقاع الشمالي حزام ناسف وأمامه سيارة بيك آب جاهزة للتفجير، وأصدر مذكرة إلقاء قبض في حقهما، كما سطر مذكرة بلاغ بحث وتحر في حق أربعة آخرين مشتركين في الجرم، وأحال الملف إلى المحكمة العسكرية الدائمة للمحاكمة . عبدالكريم حدرج الشاب الشجاع الذي أحبط مخطط الانتحاري قبل دقائق من حصول التفجير في الضاحية الجنوبية لبيروت منتصف ليل الاثنين/الثلاثاء، اعترض العنصر في الأمن العام اللبناني عبدالكريم حدرج (20 عاماً) سائق السيارة المفخخة بعد الاشتباه به، فأقدم الأخير على تفجيرها، ما تسبب بمقتل الشاب الشجاع، وتجنيب المنطقة كارثة محتملة . وقضى حدرج الشاب ذو الشعر الأسود والعينين الثاقبتين والملامح الطفولية، في التفجير الانتحاري الذي وقع قرب حاجز للجيش اللبناني في منطقة الشياح، وعلى بعد أمتار من مقهى مكتظ بعشرات الشبان الذين كانوا يتابعون مباراة ضمن كأس العالم لكرة القدم، ويقول زوج عمته "عبدالكريم حمى المنطقة ونجاها من مجزرة كانت ستودي بعشرات"، مشيراً إلى أن "المقهى كان مكتظاً بنحو مئتي شخص" . وقال مسؤول في الأمن العام "الأمن العام يعتبر أن حدرج افتدى سكان المنطقة"، حيث يقيم مع أهله، "لو أتيح للانتحاري أن يصل لوقعت كارثة" . كان عبدالكريم عائداً إلى منزله بسيارته برفقة زميله في الأمن العام علي جابر قرابة الساعة الثانية عشرة ليلا، ويروي المسؤول في الأمن العام أنه لدى وصولهما إلى المبنى الذي يقطنه، "اشتبها بسيارة تتقدم عكس السير قبل أن تتوقف في منتصف الطريق، ويترجل منها شخص، فأوقفاه وسألاه عن سبب توقفه بهذا الشكل، فأجابهما أن مفتاح السيارة انكسر ولم يعد قادراً على تشغيلها"، لكنهما لم يقتنعا، وطلبا منه أوراقه، وينقل أحد رفاقهما عن جابر الذي يعالج من جروح أصيب بها في الانفجار، قوله إن "حدرج كان ينظر إلى الأوراق، وبقي مع الرجل ليحول دون هروبه، بينما توجهت إلى حاجز الجيش القريب لطلب مساندة"، وبعد لحظات، وقع الانفجار . ويقول ايلي، رفيق الشابين وخريج دورتهما في الأمن العام، "كان عبدالكريم حسن الخلق، يحب الناس والناس يحبونه، كان يحب الحياة، ومتحمساً لعمله، لكن عبدالكريم لم يكن في مهمة، بل كان في يوم عطلة يرتدي ملابسه المدنية، ويقول قريبه الذي فضل عدم كشف اسمه "في وضع كهذا نعتبره بطلا، ونفرح له، كان يمكن أن أكون أنا أو ابني أو غيرنا في المكان الذي كان الانتحاري ينوي استهدافه، لكننا نجونا بفضل عبدالكريم" . ووقف فضل حدرج، والد عبدالكريم، خارج قاعة العزاء يدخن سيجارة تلو الأخرى، وقد احمرت عيناه الزرقاوان بفعل الدموع التي ذرفها، وتحلق بصمت حول الرجل الذي ارتدى قميصاً كحلياً وسروالاً من الجينز، أقارب وأصدقاء، إضافة إلى ضباط ورفاق سلاح من الأمن العام . (أ .ف .ب) الخليج الامارتية