عاش العربي البدوي مواجهة مباشرة مع الموت، فلم يكن يحول بينه وبينها حائل ولا يحصنه منها حصن، وكانت تأتيه في شكل عدو بشري أو حيوان مفترس أو كارثة طبيعية، وقد أدت تلك الوضعية إلى اختراع وسائل خاصة يتغلب بها على الموت ولو بشكل رمزي منها الموت، يكافحه بالإقدام والشجاعة والكرم والصبر والصلابة، ليترك ذكرى خالدة تستعصي على عاديات الزمن، ولم يكن من علامة الرجولة أن يبكي الرجل أو يضعف في حين ينزل به الموت أو بأحد من أهله، لكنّ أبا ذؤيب الهذلي وهو شاعر مخضرم بين الجاهلية والإسلام يسطر لنا في قصيدته هذه تجربة خاصة من تجارب المواجهة في بعدها الإنساني العميق، حيث هول المصيبة يتجاوز كل إمكانات العقل لكبح جماح المشاعر الدافقة، فالشاعر فقد خمسة من أبنائه في عام واحد بسبب الطاعون، وبين غلبة المشاعر وشكيمة العقل في مواجهة المصيبة، بين الضعف البشري الطبيعي أمام فجيعة الدهر (ولسوف يولع بالبكا من يجزع)، وبين دواعي الحياة البدوية وقيم الرجولة التي تقتضي الصبر في مواجهة الموت . وعدم التضعضع لحوادث الدهر، تتردد القصيدة كما تتردد أنفاس أبي ذؤيب، وتصطرع المعاني حول ثنائية التفجع والتجلد، فكان التفجع يغوص بعيداً في عمق المأساة، عبر تلك اللغة التي تقطر ألما يقطع القلوب، وكان التجلد يقف عند نهايات تلك المشاعر لينقل صوت العقل ويستل الحكمة الجليلة من رحم الفجيعة، ومن خلاصة تجارب شيخ طاعن خبر الزمان وعركته حوادثه، حتى كأنه صخرة تكسرت على حواشيها الصخور الأخرى فثلمتها، ولكنها لم تزدها إلا صلابة، وهو بتلك الحكم يعلل نفسه قبل غيره لترعوي عن "سفاهة" البكاء، ويسعى لإقناعها بأن ما وقع هو من حدثان الدهر (مصائبه) التي لا يقوى على دفعها أقوى الأقوياء، ويضرب لها ثلاثة أمثلة تفصيلية على أولئك الأقوياء الذين صرعهم الموت، وهم حمار الوحش السمين المفتل العضلات، والثور ذو القرنين الحادين القاتلين والبطل الشجاع المدرع، فلو أن شيئاً ينفع في دفع المنية لدفعت قوة هؤلاء عنهم، وفي تكرار الأمثلة وتكرار اللازمة "الدهر لا يبقى على حدثانه" دلالة على الشرخ العميق الذي أصاب نفسه، وكذلك إصراره على إقناعها بالتسليم بالأمر الواقع، وبغلبة الدهر . أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ قالَت أُمَيمَةُ ما لِجِسمِكَ شاحِباً مُنذُ اِبتَذَلتَ وَمِثلُ مالِكَ يَنفَعُ أَم ما لِجَنبِكَ لا يُلائِمُ مَضجَعاً إِلّا أَقَضَّ عَلَيكَ ذاكَ المَضجَعُ فَأَجَبتُها أَن ما لِجِسمِيَ أَنَّهُ أَودى بَنِيَّ مِنَ البِلادِ فَوَدَّعوا أَودى بَنِيَّ وَأَعقَبوني غُصَّةً بَعدَ الرُقادِ وَعَبرَةً لا تُقلِعُ سَبَقوا هَوَىَّ وَأَعنَقوا لِهَواهُمُ فَتُخُرِّموا وَلِكُلِّ جَنبٍ مَصرَعُ فَغَبَرتُ بَعدَهُمُ بِعَيشٍ ناصِبٍ وَإَخالُ أَنّي لاحِقٌ مُستَتْبَعُ وَلَقَد حَرِصتُ بِأَن أُدافِعَ عَنهُمُ فَإِذا المَنِيِّةُ أَقبَلَت لا تُدفَعُ وَإِذا المَنِيَّةُ أَنشَبَت أَظفارَها أَلفَيتَ كُلَّ تَميمَةٍ لا تَنفَعُ فَالعَينُ بَعدَهُمُ كَأَنَّ حِداقَها سُمِلَت بشَوكٍ فَهِيَ عورٌ تَدمَعُ حَتّى كَأَنّي لِلحَوادِثِ مَروَةٌ بِصَفا المُشَرَّقِ كُلَّ يَومٍ تُقرَعُ لا بُدَّ مِن تَلَفٍ مُقيمٍ فَاِنتَظِر أَبِأَرضِ قَومِكَ أَم بِأُخرى المَصرَعُ وَلَقَد أَرى أَنَّ البُكاءَ سَفاهَةٌ وَلَسَوفَ يولَعُ بِالبُكا مِن يُفجَعُ وَليَأتِيَنَّ عَلَيكَ يَومٌ مَرَّةً يُبكى عَلَيكَ مُقَنَّعاً لا تَسمَعُ وَتَجَلُّدي لِلشامِتينَ أُريهِمُ أَنّي لَرَيبِ الدَهرِ لا أَتَضَعضَعُ وَالنَفسُ راغِبِةٌ إِذا رَغَّبتَها فَإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ كَم مِن جَميعِ الشَملِ مُلتَئِمُ الهَوى باتوا بِعَيشٍ ناعِمٍ فَتَصَدَّعوا فَلَئِن بِهِم فَجَعَ الزَمانُ وَرَيبُهُ إِنّي بِأَهلِ مَوَدَّتي لَمُفَجَّعُ وَالدَهرُ لا يَبقى عَلى حَدَثانِهِ في رَأسِ شاهِقَةٍ أَعَزُّ مُمَنَّعُ وَالدَهرُ لا يَبقى عَلى حَدَثانِهِ جَونُ السَّراةِ لَهُ جَدائِدُ أَربَعُ وَالدَهرُ لا يَبقى عَلى حَدَثانِهِ مُستَشعِرٌ حَلَقَ الحَديدِ مُقَنَّعُ حَمِيَت عَلَيهِ الدِرعُ حَتّى وَجهُهُ مِن حَرِّها يَومَ الكَريهَةِ أَسفَعُ بَينَا تَعَنُّقِهِ الكُماةَ وَرَوغِهِ يَوماً أُتيحَ لَهُ جَريءٌ سَلفَعُ يَعدو بِهِ نَهِشُ المُشاشِ كَأَنّهُ صَدَعٌ سَليمٌ رَجعُهُ لا يَظلَعُ فَتَنادَيا وَتَواقَفَت خَيلاهُما وَكِلاهُما بَطَلُ اللِقاءِ مُخَدَّعُ مُتَحامِيَينِ المَجدَ كُلٌّ واثِقٌ بِبَلائِهِ وَاليَومُ يَومٌ أَشنَعُ وَعَلَيهِما مَسرودَتانِ قَضاهُما داودُ أَو صَنَعُ السَوابِغِ تُبَّعُ وَكِلاهُما في كَفِّهِ يَزَنِيَّةٌ فيها سِنانٌ كَالمَنارَةِ أَصلَعُ وَكِلاهُما مُتَوَشِّحٌ ذا رَونَقٍ عَضباً إِذا مَسَّ الضَريبَةَ يَقطَعُ فَتَخالَسا نَفسَيهِما بِنَوافِذٍ كَنَوافِذِ العُبُطِ الَّتي لا تُرقَعُ وَكِلاهُما قَد عاشَ عيشَةَ ماجِدٍ وَجَنى العَلاءَ لَو أنَّ شَيئاً يَنفَعُ أبو ذؤيب الهذلي