برشلونة الاسبانية، وجه إسبانيا الأوروبي بامتياز، تتمازج فيها الهويات العرقية والحضارات المتناقضة، تعيش بين جمال عماراتها وإرث ناديها الكروي المستمر، وتتحسر على عجزها عن التغيير كما غير العرب حكامهم. عبدالله ولد محمودي: عدا عن الحيرة إزاء تجليات إبداع غودي في فن العمارة ببرشلونة، فان أكثر مدن إسبانبا أوروبية تبدو عادية، وذلك سر تميزها. فلا زحمة مرورية فيها كما في مدريد، ولا احتقان في الصراع على الهوية بين المهاجرين والسكان الأصليين كما في مدن إسبانية أخرى. ونجحت الحكومات الكاتالونية المتعاقبة في عدم تخصيص مناطق مقفلة خاصة لفئة من دون أخرى من المهاجرين، لذا بدا مدير بلاندوليت، الصحافي في القناة الاسبانية الثالثة مزهوًا وهو يقول بفخر إن إحدى الساحات المليئة بالرسامين والزوار نهارًا تتحول في الليل إلى ملعب للكريكيت، تتنافس فيها فرق من الباكستانيين. لا برقع النقطة السوداء الوحيدة في سجل التعايش مع الأقليات في عاصمة كاتالونيا هي الحديث عن النقاب والبرقع. مجهولٌ هو الذي جلب ذلك السجال الذي ينفّس فيه السياسيون الفرنسيون عن عدم قدرتهم جلب أفكار جاذبة في التنمية والحياة، تنفع في الانتخابات في زمن الأزمة والخيبات. قال بلاندوليت إنه بحث طويلًا، ووجد أن النقاب ليس من الضرورات. ومن دون الغوص في حديث فقه الأقليات، الذي يدرك الكاتالوني تمام الادراك عجزه عن الافتاء فيه بشكل مقنع، إلا أن الجميع متوافق على أن لا حاجة للبرقع في شوارع برشلونة، كما أن لأهل السياسة شأنًا أفضل من تسجيل صورة نمطية غير واقعية عن الإسلام. مدينة تتنفس ثقافة هنا، في هذه المدينة، تركوا لذلك المهندس الفنان كامل حريته ليبني العمارة بحسب خياله الجامح. فالعمارات تأخذ أشكالًا بهلوانية، ترتسم كالأشجار، كالاوراق برسوم وألوان مختلفة. غودي ونادي فريق برشلونة ليسا وحدهما من يساهم في وهب المدينة جاذبيتها، وهي التي اختارتها مجلة فوربس واحدة من أفضل المدن في العالم لمناخ الأعمال. لم يتطرق بلاندوليت كثيرًا للنادي، وإن كان الجدل الدائر اليوم الذي يشغل بال الجميع هو كون مؤسسة قطرية هي الراعي الأهم للفريق الكروي الشهير. فأحدٌ لا يدري قدر هذه الحساسية وأسبابها، لكن ما يعرفه الجميع أن ثمة حاجة للمال في زمن الأزمة، والمال العربي يثير الجدل أينما حل، بشرط أن يقع في أيدي الجهة المنافسة في الغرب، في السياسة كما في الرياضة. لا محرمات في جامعة رامون يؤول، التي أخذت اسمها من احد المثقفين الكاتالونيين في القرن الثاني عشر، فريق العمل مختلف، والحرية مطلقة في الحديث من دون محرمات أو ممنوعات، من أي شكل كان. بدت أسئلة الشبان، الذين سيكونون قريبًا جزءًا من قبيلة الصحافيين، مليئة بالحيرة جزءًا من التكوين، وهو ما أكده ناظر الكلية في ما بعد، حين قال: "نريد دائمًا أن نشوش أذهان الطلاب، إذ الشك في النهاية هو أقصر طريق إلى الإيمان". العرب أفضل في برشلونة، عاد كيم أمور للتو من القاهرة وبيروت لتصوير فيلم وثائقي عن واحد من اقدم واشهر المراسلين الإسبان في العالم العربي، هو توماس الكوبيرو. لم يفقد كيم أريحيته وحسه الفكاهي الذي غذته السنوات الخمس التي قضاها مراسلًا في القاهرة لجريدة البريوديكو. فقد راكم الصحفي تجاربه، وبدا فرحًا ومتحمسًا للثورات العربية، وقال: "العرب أفضل منا؟ فقد غيروا حكامهم في ثورة حقيقية، أما نحن الإسبان فقد انتظرنا فرانكو حتي يموت لنقول إننا غيرنا كل شيئ". متعة المدينة الخلاف مع كيم لا يطول، فالاتفاق في النهاية معقود، وهو المشدوه بالصحراء وحياتها الأسطورية في خياله الغربي. احتكم لمحرك بحث غوغل إرث الجغرافي، فقال له بلغة الصورة إن الصحراء التي شاهدها آخر مرة قبل خمسة عشر عامًا امتلأت بالبيوت المتناثرة تخلو الآن من موطئ قدم لإسباني حالم. برشلونة جميلة، وشعبها مضياف، عبارات كالبرقيات التي يرسلها الرؤساء وهم يعبرون أجواء دول أخرى، ولا يكلفون أنفسهم حتى عناء الإطلال من الفضاء. لكن التمعّن محد فعلًا، لأن مطالعة المدن مثل قراءة الكتب الجميلة... متعة حقيقية لمن يعايشها فقط.