أول خطوة تدخل بها الحكومة الموريتانية العام الجديد ،2013 هي "القرار الأخضر" بحظر استخدام الأكياس البلاستيكية الذي حوله المدونون إلى صدارة اهتمام الرأي العام باعتباره تارة حرباً على الفقراء، ووجها آخر من "الزبونية" في صفقة مع تاجر موال، وباعتباره من جهة أخرى قراراً عبثياً يعطي الأولوية المظهرية للحفاظ على بيئة يدمر إنسانها بكل السبل والوسائل، فيما يراقب الأمن من وراء الشاشات، أول انتخابات إلكترونية في تاريخ البلاد يجريها اتحاد المدونين الموريتانيين، إنها موريتانيا التي "تتمرد" يوماً بعد آخر على "ثقافة الرمال والجمال"، حتى إن أحد الشعراء خرج متهماً سياسيي "بلاد الملثمين" بالمتاجرة في موسيقا مشية النوق، وبذلك تخرج ألف صيغة لملف استنزاف الثروات الذي لم يخل منه خطاب أو مجلس منذ اندلع صراع الكراسي بنخبته الحالية . معارك جانبية أخرى كثيرة، لم تسلم منها كلمات النشيد الوطني الموريتاني وضرورة إعادة النظر فيه، إذ يتمسك "المحافظون" من محاربي "النشيد الديني" (الحالي) بالأصالة والأفكار والأبعاد الروحية والتاريخية التي يمثلها النشيد، بينما يخرج السناتور محمد ولد غده زعيم "تيار الفكر الجديد" وناشطون وكتّاب آخرون داعين إلى "نشيد وطني"، وتخرج فئة ثالثة محذرة من أن معارك "البلاستيك" و"النشيد" ليست إلا زوابع لا قيمة لها أمام أولويات التحديات المطروحة، في وقت تحشر فيه "موريتانيا/ الشعب" بين سندان الفقر ومطرقة التطرف العرقي والشرائحي، وكل ذلك في جحيم الأزمة السياسية المؤمنة من الحل، فيما تحاصر القوى الغربية "موريتانيا/الوطن" بإجبارية التجنيد في "حروب الوكالة" التي يجري التحضير لها في شمال مالي . هكذا تتعدد "مجسمات" التمويه في هامش المعركة السياسية التقليدية، وتبزغ جبهة جديدة على صفحات التواصل الاجتماعي، آخر "فتح" في الصراع السياسي في بلاد الرمال المتحركة . . تحليلات وخواطر ونكت لا يفوتها السياسيون وهم يتتبعون المدونين لاستجلاء صورة أوضح عن الواقع المعيشي، وعن جوع الأجيال الشابة إلى "حالة ليست هذه" على حد تعبير أحدهم، إذ لم تجد كل المحاولات حتى الآن في إخراج القاطرة عن سكة الأزمة، ولا يبدو أن المؤتمرات الحزبية الأخيرة، ولا اجتماعات زعماء المنسقية، ولا "المجلس الأعلى للأمن القومي" (مجلس الجنرالات)، ولا الاجتماعات الخصوصية بالقصر الرمادي (القصر الرئاسي)، قد خلصت إلى تغيير أسلوب الصراع أو الاكتفاء من الارتواء بسلبياته، وخطورته على مستقبل الأجيال التي تتفرج منذ سنوات على حلبة شتائم وسياط قمع . لماذا قررت منسقية أحزاب المعارضة الموريتانية العودة للنزول للشارع اليوم الخميس (10 يناير/كانون الثاني ،2013 وفق ما أعلن)، مفتتحة السنة الجديدة بمهرجانات الرحيل بعد ثلاث سنوات من النزول للشارع من دون أن يلوح في الأفق أن المنسقية اقتربت من تحقيق أهدافها، أو امتلكت آلية حاسمة للتأثير في مواقف نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز في ما يخص تسوية الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد . قبل نزولهم للشارع، كثف قادة المعارضة هجماتهم السياسية والإعلامية المركزة على صورة الرئيس ولد عبد العزيز، وكرر الزعماء نفس العبارات "الرئيس لا يمكن أن يكون جزءاً من الحل"، و"المنسقية ترفض أي حوار لا ينتهي بخروج الرئيس من الحكم"، "والفساد شملته الخوصصة"، و"الجنرال هو أبشع ديكتاتور حكم البلاد"، و"المعارضة ملت محاولات إصلاح حكم العسكر"، و"ثروات البلاد نهبت، وارتفاع الأسعار مستمر"، هذه العبارات تكرر منذ ثلاث سنوات، وكأن المراقبين هنا باتوا يستمعون لاسطوانات ذاتية الإعادة . جاء الإعلان الجديد عن النزول للشارع عقب اجتماع لزعماء المعارضة توصلوا فيه إلى أن مرحلة النضال الماضية كانت ناجحة وعرت السياسية الاجتماعية والاقتصادية والأمنية للنظام . وخلص القادة إلى ضرورة استمرار التظاهرات والمسيرات والاعتصامات حتى حصول "التغيير السلمي"، ولهذا الغرض أقروا "خطة تصعيد استراتيجية" جديدة لم يكشف النقاب عن أغلب نقاطها، وإن كان يرجح أنها لن تخرج إلا من مشكاة سابقاتها . الميزانية والمبادرة رغم ثلاث سنوات من الشتائم الشخصية والنعوت السيئة، لا يبدو أن قيادات المعارضة الموريتانية أشفت غليلها من تلطيخ صورة "الجنرال" (الرئيس)، ولا يبدو أن بإمكانها أحسن مما كان، فالرئيس الذي قيل إنه "يفكر بعقل دبابة"، ما زال يحكم البلاد، ويديرها كما شاء، ولم يتنازل عن بوصة واحدة من طريقة إدارته للحكم، حتى وهو على فراش المرض ورصاص الثالث عشر أكتوبر في بطنه . يمرر الرئيس الموريتاني هذا الأسبوع عبر البرلمان ميزانية العام الجديد (400 مليار أوقية)، من دون تعديل سوى ملياري فقط، يثبت الرئيس أن أغلبيته البرلمانية طيعة، يتلقى المزيد من الأموال العربية والغربية دعماً للميزانية، يضع الرئيس برنامج رحلاته الخارجية للأيام القادمة لتشمل أربع دول في أول زياراته الرسمية منذ رحلة العلاج، يوسع دائرة اتصالاته بالشخصيات الدينية الدعوية والسياسية لتحصين حكمه من "الإخوان" الذين "ما كانوا يطيقون النطق بكلمة العربي إلا حين قرنت بربيعهم . . .!" . يتصرف الرئيس وكأن لا وجود لأزمة، فيوعز للحزب الحاكم بتجديد تصريحاته حول عدم تسلمه مبادرة حل الأزمة السياسية التي تقدم بها رئيس البرلمان، وهي المبادرة الأكثر رواجا على ألسنة الأفرقاء الموريتانيين حالياً، وجاء هذا الموقف بعد لقاء جمع الرئيس برئيس البرلمان ولا يبدو أن مضمونه كان إيجابياً بدليل التكتم على فحواه، بينما كان يمكن لأي نتائج إيجابية أن تسحب ورقة التظاهر من المنسقية أو تقلل من حماسة الجمهور المناوئ إذا علم أن المؤسسة الرئاسية عاكفة بالفعل على قبول الحلول التفاوضية . ومن جانبه، كان الرئيس الدوري لمنسقية المعارضة الموريتانية أحمد ولد سيدي باب قد أعلن أن منسقية المعارضة لم تنظر في مبادرة الحل التوافقي لأن رئيس الجمهورية رفضها أصلاً، وبالتالي لم تعد محل نقاش . وهذا ما لم تتفق معه فيه معاهدة أحزاب المعارضة المحاورة التي ترى أن الوقت لم يحن بعد لإعلان وفاة المبادرة، وإن كان يستشف من قيادات في "المعاهدة" أن المبادرة قد تعرف بعض التعديلات التي تجعلها قابلة للتمرير من طرف الرئيس محمد ولد عبد العزيز، خاصة فيما يتعلق بتشكيل حكومة موسعة دون اشتراط حكومة توافقية، وهو ما يعني أن الرئيس قد "يوسع على آل بيته" في الاحتفاء بمزيد من المناورات السياسية في المرحلة المقبلة . عند هذا الحد تبدو لعبة الأطراف الموريتانية في هذه المرحلة أشبه بالأحجية العبثية، إذ لا يعقل أن الرئيس "الأقوى" في هذه الفترة سيقبل الحلول التي تؤدي إلى رحيله، ولا يتصور أن المعارضة تقبل الشراكة مع الرجل الذي تصفه بأبشع ديكتاتور، وبأنه رمز للفساد والأحادية وعدم القابلية للإصلاح، بتعبير أحمد ولد سيدي باب الرئيس الدوري للمنسقية . تبرير إن منسقية المعارضة الموريتانية لا تشعر أنها فشلت في "ثورتها السلمية"، وقد كان صالح ولد ولد حننه، عضو رئاسة المنسقية، أول من حاول تبرير إخفاق المنسقية في نقطة رحيل النظام، فأعلن هذا الأسبوع أن "الجهد الذي قامت به المنسقية إذا كان لم يؤد إلى الرحيل ولم يقنع النظام بضرورة الدخول في إصلاحات حقيقية بنية صادقة قادرة على إخراج البلاد مما هي فيه، فقد أظهر بكل جلاء عجزه وفشله سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً وأمنياً" . وقال ولد حننه إن "النظام عمل على تجاوز المنسقية، متوهماً أنه بذلك سيتخلص منها، لكن التفاف شعبنا الأبي حولها في طول البلاد وعرضها وعلى مدى عدة أشهر سرعان ما أجهض ذلك المسعى وأظهر النظام عاريا وعلى حقيقته أمام الرأي العام الداخلي والخارجي"، وفق تعبيره، مضيفا أن استراتجية التصعيد ضد النظام أظهرت حجم المعارضة الحقيقي وقدرتها على تحريك الشارع وحشد الجماهير" . وأكد أن موريتانيا "في أخطر منعطف عاشته"، وأن "رأس النظام لا يمكن أن يكون جزءاً من الحل وأن مطلب الرحيل بات أكثر إلحاحا من أي وقت مضى" . وشدد ولد حننه الذي كان يتحدث في "خطاب ناري" بنواكشوط أمام المجلس الوطني لحزبه على "أن النضال السلمي لإسقاط النظام أضحى الخيار الوحيد في ظل الوضعية الراهنة" . إن اعتراف ولد حننه بأن ثورة المنسقية لم تؤد إلى رحيل النظام، لا يتوقع أن يكون بداية لمراجعة خطاب المنسقية ولا لمواقفها، وإن كان يكشف عن حجم الإحراج الذي بات يواجه زعماء المنسقية بعد الفشل في ترجمة شعاراتهم على أرض الواقع، فيما يرى أنصار نظام ولد عبد العزيز أن التفاوت في حشود المنسقية خلال مهرجاناتها الأخيرة ينذر بخطر تراجع شعبيتها . عودة الحراك الاحتجاجي إلا أن ما لا خلاف عليه هو تلازم حجم شعبية المنسقية والجمهور المناوئ لسياسات النظام او المتضرر من الواقع المعيشي . فما إن أعلنت منسقية المعارضة عن خطة التصعيد الجديدة والنزول للشارع، حتى سبقتها حركة الاحتجاجات المطلبية التي كان النظام يعتقد أنه تجاوزها، فخرج سكان "قرى العطش" في تظاهرات احتجاجية تجوب الشوارع، وسكان هذه القرى الداخلية هم الأكثر حساسية، نظراً لكمهم الانتخابي وبعدهم القبلي والاجتماعي، وارتباطهم التشعبي بكبار الناخبين القاطنين في أكثر من ولاية ومقاطعة . ومن تظاهرات العطش، إلى المسيرات القياسية، ففي وقت قال فيه النظام بأنه وضع تسوية قانونية نهائية تضع حدا لمعاناة الأغلبية الساحقة من عمال البلاد، وهم من يعرفون ب"عمال الجرنالية" الذين يبلغون أكثر من 60% من الشغيلة الموريتانية وخاصة في قطاعات المناجم والشركات الاستثمارية، أعلن ممثلو هؤلاء العمال يوم السبت الماضي عن إطلاقهم مسيرة ال 750 كيلومتراً التي ستستمر سيراً على الأقدام شهرا من مدينة "أزويرات" (شمال) إلى القصر الرئاسي بنواكشوط لإبلاغ الرئيس أن وضعية هؤلاء العمال لا تزال كما هي، وأنهم، كما قالوا ل"الخليج"، ما زالوا تحت وصاية "مصاصي الدماء" من شركات تأجير العمالة التي يديرها أبناء وطنهم والشركات الاستثمارية الأجنبية . ما الذي أيقظ مارد الحركات الاحتجاجية في هذا التوقيت، ثمة أكثر من سبب، فهناك رائحة المعارضة بذراعها النقابي القوي الذي يحرص على ملازمة الحراك المعيشي مع الحراك السياسي المناوئ، حتى لا يبقى هذا الأخير "ترفا" تمارسه المعارضة في بلد ديمقراطي حر يرضى مواطنوه ويتذمر بعض سياسييه . وهناك "انتهازية" الحراك المطلبي الذي يبحث مؤطروه عن فضاء السخونة والإحراج حتى يكون صوتهم مسموعاً، وحتى تبادر القطاعات المعنية إلى تسوية أوضاعهم، أو إسكاتهم بطريقة أو بأخرى، خوفا من تحول ذلك الحراك إلى رافعة لتظاهرات الرحيل، ذلك أن صورة عربة البوعزيزي الخالدة لن تغيب عن مخيلة المسؤولين في بلدان التجويع والإفقار . ومن غير الخافي أن الخطاب الرسمي و"الأغلبي" في موريتانيا، بل وما تحقق فعلا من إنجازات ملموسة، لم يستطع التغطية على هموم جيوش العاطلين عن العمل التي تزداد باضطراد وتعبر عن نفسها بأكثر من وسيلة، ولم يخفف من قائمة انتظار المتظلمين، بقدر ما لم يستطع ذلك الخطاب إطفاء نار الأسعار أو تحسين الواقع المعيشي لآلاف المواطنين الموريتانيين، ولا التخفيف من جو الاحتقان والتوتر، وتبقى ذكرى الاحتجاجات الماضية قريبة بمن سقطوا فيها خلال السنتين الماضيتين من شهداء قضوا برصاص الأمن وآخرين "قضاء وقدراً"، ثم الذين قضوا نحبهم بإضرام النار في أجسادهم . هذا وتؤكد معلومات "الخليج" أن الحركة الاحتجاجية المطلبية أكثر إثارة لقلق النظام من حراك المعارضة، بدليل أن النظام يحدث باستمرار خططه الأمنية الرامية للتغلب على كل موجة من هذه الاحتجاجات، في حين لا تزال مواجهة المعارضة منوطة بمفوضيات الشرطة منذ أول اعتصام للرحيل السنة الماضية . إلا أن مراقبين يرون أن الموجة الجديدة من الحراك المطلبي أقل "ارتفاعاً" من الموجات السابقة، إذ لا تتعلق بإضرابات العمال والطلاب، أو أي من الملفات الحساسة هذه المرة، كما أن خريطتها أضيق - حتى الآن- من مساحة الحراك المطلبي في موجاته السابقة، وإن كانت في كل الأحوال ستكون مجالا للأخذ والرد في صميم الأزمة السياسية القائمة . * * * "حركة تحرير أزواد" إلى الملجأ الموريتاني رغم أن "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" (طوارق وعرب) هي من أطلقت الرصاصة الأولى في حرب أزواد الأخيرة وهي من خاضت المعارك الرئيسة لطرد الجيش المالي من إقليم أزواد، إلا أن الحركة فوجئت بخروج الحركات السلفية وسيطرتها على الإقليم، وبالتالي قطفت ثمار التمرد الانفصالي، وأسرع من ذلك ما أظهرته الحركة من عجز عن مواجهات الجماعات السلفية، وكانت المعارك القليلة الدامية بين الطرفين كفيلة بإقناع أنصار الاستقلال بعدم تكافؤ ميزان القوة، وهكذا انقسمت الحركة ميدانياً بين من التحقوا ب"حركة أنصار الدين" السلفية، وبين "العلمانيين" الذين انسحبوا إلى الصحراء بعيداً عن المدن لتفادي المواجهة، فيما ظل قادة الحركة موزعين بين الإقامة في نواكشوط وفرنسا في انتظار ما ستؤول إليه التطورات القادة في الإقليم . وجاءت خطوة هذا الأسبوع بسماح موريتانيا للعشرات من مقاتلي الحركة وقادتها بدخول الأراضي الموريتانية وتسليم أسلحتهم للجيش الموريتاني، لتقرأ على أن الحركة خرجت ميدانيا من لعبة تصميم الأحداث في الشمال المالي المضطرب، وهو خيار يصب في المقترح الجزائري الموريتاني الرافض لاستقلال الإقليم والدعوة لحل سياسي توافقي يمنح الإقليم بموجبه حكماً ذاتياً، على أن تتجنب دول المنطقة حرباً إقليمية لا يتحكم في نتائجها . في هذه المرحلة مما لا شك فيه أن نواكشوط تملك قرار "الجبهة الوطنية لتحرير أزواد"، هذا إذا تجاوزنا الاتهام الذي تروجه بعض الدوائر الإفريقية بأن الجبهة صنيعة النظام الموريتاني الذي هيأ بذكاء ووسائل محدودة "عقاراً" لسلفيي الساحل خارج الأراضي الموريتانية التي كانت الهدف الأصلي للفرع الصحراوي للقاعدة . وتزامن دخول مقاتلي جبهة أزواد إلى الأراضي الموريتانية مع وصول رئيس الوزراء المالي الجديد إلى نواكشوط ولقائه الرئيس ولد عبد العزيز، حيث تم ترتيب حوار سري بين مالي والجبهة التي يرى محللون هنا في نواكشوط أن بإمكانها العودة إلى ميدان المعركة ولعب دور مرجح سلماً أو حرباً وفقاً لإرادة القوى الإقليمية والدولية التي تحرك الآن قطع الشطرنج على تراب "وزير ستان الساحل" .