استطاع حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال أن يرمي حجراً في البركة الراكدة للحكومة، من خلال المذكرة الموجهة أساساً إلى رئيسها عبدالإله بنكيران، وإلى بقية أحزاب التحالف على سبيل العلم بالشيء . ومن المؤكد، أن بنكيران لن يضع القطن في أذنيه، ويمضي في طريقه وكأن شيئاً لم يقع، إذ لا بد أن يقف وقفة رجل واحد أمام هذا "الزلزال" الذي يخفي في طياته زلازل أخرى ارتدادية . ومعروف أن الهزات الارتدادية قد تكون أكثر عنفاً، وتأتي على ما تبقى من تماسك "القشرة" والتي هي هنا، القشرة الحكومية، التي طالها تصدع كبير، يعيد عقارب الساعة إلى الوراء وينذر بعواقب الأمور . الجهات الرسمية تنظر إلى أداء حكومة بنكيران، على أداء بلونين، أبيض وأسود، والتلفزيون العمومي مارس حقه في النقد، وخصص، نشرات إخبارية للوقوف على "حصيلة" سنة أولى من عهد بنكيران . والنتيجة أن مذكرة شباط ليست عمل "حاطب ليل"، بل إن توقيتها يأتي في سياق يمهد جملة وتفصيلاً إلى أجواء تعديل حكومي مرتقب، لا راد له، قد يكون موعده الأسابيع القليلة المقبلة، أو بالتساوق مع مناسبة وطنية قريبة جداً هي مناسبة 11 يناير/كانون الثاني الحالي التي تخلد لوثيقة المطالبة بالاستقلال . فالمذكرة تطالب بالسرعة في الأداء الحكومي وتعتبره أمراً عاجلاً، ولا يمكن والحالة هذه، لبنكيران إلا أن يركب قطار السرعة نفسها في الرد أولاً على المذكرة الموجهة إليه، وثانياً، في الاستجابة لمطالب حليفه الرئيسي في مباشرة ما يراه "إصلاحات على وجه السرعة" . ومن المطالب التي حملتها مذكرة حميد شباط، ما يتصل بمستوى تنفيذ ميثاق الأغلبية، وطالب بوضع مربع استراتيجي للأغلبية لتركيز الجهود الحكومية على أربعة إصلاحات أساسية وهيكلية ذات بعد أفقي (التعليم، والصحة، الإدارة، والقضاء) . وسجل شباط أنه ميثاق العمل هذا في صيغته الحالية لم يتم الالتزام والتقيد به رغم النواقص التي تعتريه، فعلى مستوى تفعيل الدستور لم تبادر الأغلبية إلى إعطاء الإطار الدستوري لعمل الحكومي من خلال القانون التنظيمي الخاص ببعده الإجرائي، ومما جاء في المذكرة "ما يدعو للاستغراب، خاصة أننا في كل المذكرات المطالبة بالإصلاح الدستوري كنا نطالب بدسترة المجلس الحكومي وإعطائه المكانة التي يستحق كإطار للتداول في قرارات السلطة التنفيذية التي تم توسيعها في الدستور الجديد، فإذا لم يكن هذا الأمر أولوية في اتجاه تحقيق مزيد من الإصلاحات وبناء الدولة الديمقراطية ؟ فكيف يتم تحديد الأولويات بالنسبة للأغلبية؟ والشيء نفسه يقال حول القانون التنظيمي الخاص بطريقة تسيير لجان تقصي الحقائق، وهو ما عطل هذا الاختصاص المنوط بالبرلمان لسنة كاملة، وهو ما يمس في العمق سلطة الرقابة على السلطة التنفيذية والفصل بين السلطة والتعطيل العملي لنصوص الدستور ويتناقض جملة وتفصيلاً مع ما جاء به ميثاق الأغلبية عندما تحدث عن " الإسهام في الرفع من شأن المؤسستين التشريعية والتنفيذية ومصداقيتهما ونجاعة عملهما وإنتاجهما " . . . بل إن الحكومة ذهبت أبعد من ذلك عندما أصدرت بلاغاً رسمياً تنتقد فيه إبداء نواب من الأغلبية لآرائهم في القانون المالي لسنة ،2013 وهو ما اعتبرناه في حينه مساً غير مقبول بفصل السلطة وباختصاصات البرلمان وبمنطق الأغلبية السياسية وليس العددية" . خروج عن ميثاق الأغلبية تسجل مذكرة حزب الاستقلال ملاحظات حول طبيعة العمل المشترك من داخل الأغلبية وحدود تنفيذ البند العاشر من ميثاقها الذي ينص على "إرساء رؤية موحدة ومنسجمة ومندمجة للعمل الحكومي تتم صياغتها وفق مقاربة تشاركية"، إذ يشهد الواقع أنه خلال السنة الأولى من عمر الحكومة كانت الأغلبية في واد والحكومة في واد آخر، وأن الأغلبية كإطار سياسي لم يكن لها دور في كل ما تم اتخاذه من قرارات ومبادرات كانت موضوع تقديرات متباينة من طرف مكونات الأغلبية نفسها،وكانت محط سجال عبر وسائل الإعلام، ومنها على وجه الخصوص دفاتر تحملات قطاع السمعي البصري، حتى إن الأمر في النهاية تطلب نقل الملف من الوزير الوصي على القطاع إلى وزير السكنى والتعمير وسياسة المدينة، ويمكن العودة إلى ما تم تداوله في تلك الفترة من تصريحات متباينة حول الموضوع، الشيء نفسه يمكن قوله بخصوص نشر لوائح رخص النقل والمقالع، دون أية مشاورات حول رؤية الحكومة للريع وغيرها من المبادرات التي تفتح أسئلة عريضة لدى الرأي العام لكنها تبقى بلا أجوبة . وانتقدت المذكرة قرار الزيادة في أسعار المحروقات، وما تبعه من رفع لأسعار عدد من المواد الاستهلاكية، وهو ما مسّ بالقدرة الشرائية للمواطنين، وإن قدرة المواطنين على تحمل هذه الزيادات مرده لما تم تحقيقه على مستوى رفع الأجور في عهد الحكومة السابقة وليس لأي اعتبار آخر، وأن الاستمرار في استنزاف الزيادات التي تحققت بالنسبة للأجور في الحكومة السابقة سيشعل الشارع بصورة غير مسبوقة، والإعلانات المنفردة والحاسمة بخصوص إصلاح صندوق المقاصة، من دون تداول في الموضوع داخل الأغلبية، ومن دون تقديم ما تركته الحكومة السابقة من سيناريوهات الإصلاح ووجدتها الحكومة الحالية جاهزة، بينما يتم تداولها على أنها من إنجازات الحكومة الحالية . ووضع مخطط تشريعي من دون تداول داخل الأغلبية لتحديد الأولويات كما ينظر إليها كل طرف داخل الأغلبية، وهذه مسألة جوهرية وليست ثانوية كما يعتقد البعض . إضافة إلى قرارات أحادية لعدد من الوزراء يتم تقديمها للإعلام على أنها قرارات حكومية وليست قطاعية، من دون أن تكون الأغلبية بحثت أهميتها وآثارها ونتائجها وجدواها وطريقة إخراجها (القرارات المتعلقة بعمل موظفين عموميين في القطاع الخاص خاصة في قطاعي الصحة والتعليم . . .) والعودة للتراجع عنها سواء بصفة صريحة أو مبهمة أو العجز عن تنفيذها وهذا ما يمس بمصداقية الحكومة . وأكدت المذكرة أن سبب عدم نجاعة الحكومة يعود إلى التردد والتسرع والغموض في مجموعة من القطاعات وبطء وتيرة العمل والغموض في مقاربة اقتصاد الريع من خلال التشهير بمنطق الرخص والاستمرار في منحها سواء في قطاع النقل أو المقالع والتعيين في المناصب السامية، حيث غياب رؤية موحدة بين القطاعات الحكومية في وضع شروط الولوج اليها وتوسع البعض في تفسير تحديد الشروط التي أوكلها المرسوم التطبيقي لكي تتحول إلى شروط على المقاس تتنافى مع تكافؤ الفرص وعدم الوضوح بالنسبة لإعلان تخفيض أسعار الأدوية وصفقات اللقاحات . كما أن الحكومة الحالية بأغلبية مطلقة تعتبر امتداداً للحكومة السابقة، غير أنها ترفض تنفيذ الالتزامات السياسية والاجتماعية للحكومة السابقة وخاصة في ملف حاملي الشهادات العاطلين من العمل . هندسة جديدة للحكومة وبالنسبة للهندسة الحكومية، فانطلاقاً من الواقع الدستوري والانتخابي للمغرب والقائم على نظام التمثيلية النسبية والهوية البرلمانية، فإن حزب الاستقلال يعي جيداً معنى الاشتغال في ظل حكومة ائتلافية، وهو نظام لا ينفرد به المغرب بل هو ما يسود في عدد من الدول العريقة في الديمقراطية كبلجيكا وسويسرا وهولاندا وفينلندا والهند وإيطاليا والسويد والدنمارك واليونان وغيرها، إضافة إلى بعض البلدان شبه الرئاسية كفرنسا في فترات معينة، بل حتى في الدول ذات نظام الثنائية الحزبية تضطر في لحظات انتخابية وسياسية معينة إلى تشكيل حكومة ائتلافية، وقد أثبتت التجربة أن عدد الأحزاب المشكلة للتحالف لا تؤثر في نجاعته وفعاليته عندما تتضح قواعد العمل المشترك، وباعتبار تحالف عدة أحزاب لتشكيل الحكومة أمراً واقعاً بالنسبة لبلادنا سواء في هذه المرحلة أو في التجارب السابقة، وبالنظر إلى ما راكمه حزب الاستقلال من خبرة في هذا المجال فإنه حرص على وضع ميثاق للأغلبية يسهم في تجسير الهوة بين مكوناتها إن وجدت، ويمنح العمل الحكومي الفعالية والاجرائية والوظيفية التي يحتاجها وهو ما يجب على الأحزاب المغربية والفاعلين الحزبيين والإعلام الانتباه إليه على اعتبار أنه سيحكم التحالفات الحكومية في المغرب لسنوات مقبلة، وذلك حتى نتجاوز كل الحساسيات التي يثيرها هذا الأمر وانعكاساتها على تدبير الشأن العام، بل إن الكثيرين ينظرون إلى الحكومات الائتلافية بنظرة إيجابية، لأنها تحقق التوازن داخل الدولة وتحمي النظام الديمقراطي من النزعة الأحادية في إطار ما بات يعرف بالديمقراطية التوافقية . وتتساءل المذكرة: هل تركيبة وهندسة الحكومة الحالية يساعدان على قيام تحالف حكومي يتسم بالاستقرار؟ وتجيب: "الجواب هو بكل تأكيد النفي، فلا توزيع المقاعد داخل الحكومة خضع لمعايير عادلة ونزيهة، وهي عادة وفي كل الدول الديمقراطية مرتبطة بحجم الكتلة النيابية لكل حزب في التحالف من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الائتلاف الحكومي لم يستحضر أهمية التوزيع المتوازن للقطاعات الوزارية من سياسية واقتصادية واجتماعية، ولا في الوضع الدستوري والاعتباري والبروتوكولي للوزراء الممثلين للأحزاب السياسية المشاركة في التحالف، أما من جهة الهندسة الحكومية فإننا بعيدون كل البعد عن هدف بناء أقطاب حكومية كما نص على ذلك التصريح الحكومي، ببساطة لأننا اخترنا منذ البداية وضع العربة أمام الحصان، فكيف يمكن لحكومة أن تخلق أقطاباً حكومية بعد أن وزعت الحقائب والقطاعات الحكومية قبل وضع التصريح الحكومي نفسه؟ ففي التجارب الديمقراطية المقارنة تتفق الأحزاب المشكلة للتحالف بداية على ميثاق للعمل المشترك وعلى برنامج للإنجاز، قبل الانتقال إلى وضع هندسة حكومية كفيلة بتحقيق البرنامج المتفق عليه، ونعتبر أنه من المفيد التذكير بالتجربة البلجيكية عندما تأخر تشكيل الحكومة تسعة أشهر بعد إعلان نتائج الانتخابات، نتيجة الاختلافات العميقة التي كانت بين أطراف التحالف الحكومي حول البرنامج المزمع تنفيذه .(التصريح الحكومي كتبته الإدارة) إننا في حزب الاستقلال عندما نسائل الهندسة الحكومية فإننا على وعي تام بأن مراجعة هذه الهندسة مسألة ملحة مطروحة للنقاش بين أطراف التحالف، وأنه يصعب توقع نتائج إيجابية لعمل الحكومة ببنية لا تساعد على ذلك". نتائج الاختلالات تجمل المذكرة نتائج اختلالات الأداء الحكومي في تآكل القدرة الشرائية للمواطنين نتيجة للقرارات الحكومية التي تقلص من آثار الزيادات التي عرفتها الأجور في عهد الحكومة السابقة، وهو ما يساهم في تأجيج الشارع . واستمرار وتوسع الحركات الاحتجاجية بنفس المطالب في كل ربوع المملكة وتقديم التوازنات الماكرواقتصادية كمبرر لاتخاذ قرارات لا شعبية، في حين أن الواجب يحتم بحث سبل رفع النمو وتحريك عجلة الاقتصاد، والتقيد برؤية محاسباتية ضيقة للمالية العامة، وفرض ضرائب جديدة بأسماء مقنعة تستهدف بدرجة كبيرة الطبقة الوسطى التي هي بمثابة صمام أمان للمجتمع، والحديث عن إصلاح صندوق المقاصة من دون عرض الموضوع على أحزاب الأغلبية والمعارضة والمجتمع المدني، واستمرار التعاطي مع الموضوع باعتباره مشروعاً قطاعياً وتقديم كلفته كمبرر وحيد لخوض مغامرة غير محسوبة العواقب تتجلى في الدعم المباشر، في حين أن كلفة الصندوق وتعميم حالة من الارتباك والخوف والانتظارية لدى فئات واسعة من المواطنين ورجال الأعمال المغاربة والأجانب، لا يساعد على خلق مناخ جيد للأعمال، وتوالي الاضرابات القطاعية وتوسعها كنتيجة طبيعية لغياب الحوار الذي هو من مسؤولية الحكومة وتماهي الخطاب لدى بعض الوزراء وبعض مكونات الأغلبية مع الخطابات التي يروجها من جاءت بهم الثورات إلى مواقع المسؤولية . والحال أن المغرب قادت فيه الانتخابات التغيير الذي حافظ على ثوابت الأمة وشكل حلقة جديدة من تراكم العمل النضالي الذي قادته الأحزاب الوطنية الديمقراطية بتوافق مع الملك، وذلك طوال السنوات الماضية .