تتجه حكومة عبدالإله بنكيران في المغرب إلى العودة مجدداً إلى دائرة الضوء من خلال إقدامها على نشر قوائم المستفيدين من مقالع الرمال، بعد أن كانت تراجعت عن ذلك في أوقات سابقة، مخافة أن يؤدي هذا النشر إلى انعكاسات سلبية وإلى مخاوف من توجه الحكومة التي يقودها الإسلاميون إلى تحويل مخططها في محاربة الريع من مخطط مشروع، إلى عملية انتقامية من رجال المال والأعمال ومن المستثمرين في القطاعات ذات الصلة . طلب بنكيران من وزرائه في الحكومة أن يلتزموا الحذر حيال القوائم التي تشير إلى استفادة عدد من الأشخاص من مختلف انتماءاتهم السياسية والمهنية والإدارية من امتيازات في عهد الحكومات السابقة، وأصبحت تلك الامتيازات بمنزلة حق مشروع يجري توارثه أباً عن جد خارج أي ضابط قانوني ينظم مثل هذه القطاعات بين الدولة والمستفيدين، كما هو الحال بالنسبة إلى رخص النقل العمومي ورخص الصيد في أعالي البحار ورخص مقالع الرمال وغيرها من التراخيص التي كانت تمنح في الأوقات السابقة بناء على العلاقات الشخصية والموقع داخل أجهزة الدولة، وأحياناً تقدم على شكل مكافآت من الدولة إلى هؤلاء الأشخاص بسبب خدمات قدموها، لينتهي الأمر في النهاية إلى تكوين طبقة واسعة من المستفيدين ومن المحتكرين يستغلون امتيازات وإمكانات الدولة من دون يقدموا لها أي مقابل يذكر، وليست لهم تجاهها أي التزامات مالية أو ضريبية . إعلان بنكران الدخول في المرحلة الثانية من كشف قوائم المستفيدين، بعد فرملة أعاقت نشر لوائح رخص الصيد في أعالي البحار لوجود شخصيات من عيار ثقيل في قوائمها، يؤكد استرجاع حكومة بنكيران جزءاً من المبادرة الذاتية في المضي قدماً في طريق محاربة الاحتكار والتصدي لبقع الفساد ومحاولة التعامل مع الضغوط التي تمارس عليها، من هذا الطرف أو ذاك بنوع من الذكاء السياسي، فالحكومة التي يشكل قطب رحاها الإسلاميون تدرك جيدًا أنه كلما خفت رياح الربيع المغربي وتلاشت، عادت الوجوه القديمة إلى الاستقواء، وصعب مشروع محاربة الفساد . لقد خلا الشارع المغربي أو كاد من المسيرات والمظاهرات التي حملت "العدالة والتنمية" إلى الحكم ورافقتها في محطات تشكلها وبداية عملها، وواجتها ببعض الشعارات الحادة في فترة علمها الأولى، لكن حركة الشارع ممثلة في 20 فبراير المغربية سرعان ما تراجعت، وهدأ الشارع نسبياً ليفسح المجال بالطول والعرض لبنكيران لممارسة لعبته السياسية . فرئيس الوزراء، أعلن على الملأ وفي التلفزيون الرسمي، أنه جاء لمحاربة الفساد، ثم زاد عليه في مرحلة ثانية فأعلن أنه محارب من طرف قوى تملك النفوذ، وهذه القوى لا تريده أن يذهب بعيداً في مشروعه الإصلاحي، وبين لهجة سياسية عالية واستنجاد بالشارع وتهديد بعودة الربيع يجد بنكيران نفسه في موضع غير محسود عليه . فمن جهة، لا تسمن اللغة السياسية العالية النبرة ولا تغني من جوع، فانتظارات المواطنين المغاربة كبيرة، والسقوط في التدبير القطاعي المعزول أكبر خطأ يمكن أن تقع فيه التجربة الحكومية الحالية، مالم تتمكن من صياغة رؤية حكومية شاملة لتدبير الشأن العام . ومن جهة أخرى، فإن الحكومة الحالية ليست فقط وزراء العدالة والتنمية، بل هي أيضاً القطاعات الوزارية الأخرى، إذ تشرف عليها الأحزاب الأخرى، لقد استشعرت الأحزاب الحليفة وجود نوع التراتبية الحكومية في صفوفها، ولهذا دعت رئيس الحكومة إلى العودة إلى العمل بميثاق الأغلبية الحكومية، وهو ميثاق يجعل الحصاد الحكومي في جانبيه الإيجابي والسلبي متقاسماً بين جميع الفرقاء . ولعل بنكيران يكون قد وعى هذه الحقيقة، حينما عاد على وجه السرعة إلى لم شتات أغلبيته والتقليص من حالة التشرذم التي كانت على أهبة أن تنال منها، في وقت ارتفعت عقيرة "حزب الاستقلال" الحزب الرئيس المساند له بالدعوة إلى إجراء تعديل حكومي لخلق مزيد من الانسجام في عمل الحكومة وإضفاء الدينامية عليها . مستشارو الملك حل وعقبة تطويق بنكيران للخلافات الداخلية بين مكونات أغلبيته الحكومية، هو طريق سالك قد يسهم في إضفاء نوع من الفاعلية الحكومية على قطاعات استراتيجية، لكن ذلك وحده ليس كفيلاً بإخراج العمل الحكومي الحالي من حالة الاحتباس التي يعيشها، فهناك جانب آخر سياسي، هو أكثر أهمية، ويتلخص في كتيبة مستشاري الملك التي تكاد تشكل حكومة ظل لحكومة بنكيران، وفي هذا الإطار يرى أستاذ العلوم السياسية محمد الساسي أنه "من حق الملك طبعاً، مثل جميع رؤساء الدول، أن يتوافر على مستشارين يختارهم من الشخصيات التي يأنس فيها القدرة على تقديم المشورة والمعلومة والرأي والاقتراح، ودراسة الملفات، والمساعدة في تنظيم النشاط الملكي، وإنجاز الأبحاث، وتبليغ الرسائل، وإجراء الاتصالات، وجمع المعطيات . للملك صلاحيات ووظائف دستورية، ومن حقه أن يعين فريقاً من الرجال والنساء لمساعدته على أداء تلك الصلاحيات والوظائف على الوجه الأكمل . ويلاحظ أن هناك حرصاً من طرف الملك على ضمان التنوع في تركيبة فريق المستشارين، فهناك امرأة ضمن الفريق، وهناك مواطن من ديانة يهودية، وهناك تعدد في المجالات المعرفية ودوائر انشغال المستشارين وتخصصاتهم، وهناك تساكن بين أجيال مختلفة: فهناك مستشارون اشتغلوا إلى جانب الملك الراحل وظلوا يواصلون العمل بجانب الملك محمد السادس، وهناك أيضاً شباب التحقوا بطاقم المستشارين من دون أن تكون قد أُسندت إليهم في عهد الملك الحسن الثاني مسؤوليات سامية" . ويسجل الساسي أنه بعد الاستفتاء على دستور ،2011 كان من الطبيعي أن يُطرح التساؤل عمّا إذا كان المستشارون الملكيون سيواصلون القيام بذات الوظائف التي مارسوها في الماضي، أم إن جديداً سيطرأ على وضع هؤلاء المستشارين؛ كما كان من الطبيعي أن يُطرح التساؤل أيضاً عما إذا كان تقليص بعض صلاحيات الملك الذي جاء به الدستور الجديد، سيعني تقليصاً لحجم طاقم المستشارين . ويؤكد الساسي أنه سرعان ما لاحظ الناس أن الطاقم المذكور تعزز بمزيد من الوجوه، وأن هذه الوجوه تضم، من جهة، أسماء كانت تتحمل مسؤولية حقائب وزارية في ظل الحكومة التي سبقت تعيين حكومة بنكيران، وتضم، من جهة أخرى، أسماء لها خصومة سياسية حادة مع اللون السياسي لرئاسة الحكومة الجديدة، بل إن ممثلي هذا اللون خاضوا الحملة الخاصة بالانتخابات التي قادتهم إلى رئاسة الحكومة، تحت شعار مناهضة أدوار وممارسات تلك الأسماء، واعتبروها المسؤولة عن الكثير من عاهات وأمراض الحالة السياسية المغربية . إلحاق الأسماء المعنية بفريق المستشارين يعني وجود الحاجة إليها لأداء وظائف خاصة أملتها ربما متطلبات مرحلة مغرب ما بعد انتخابات 25 نوفمبر . فما هي هذه الوظائف بالضبط؟ هل يتعلق الأمر بالبحث عن تحقيق توازن يُخشى أن تكون نتائج تلك الانتخابات قد أخلت به، أو بالبحث عن ضمان تقويم اختلالات يُتَوَقعُ أن تترتب عن النتائج المذكورة؟ ويقف المحلل السياسي على صلب المشكلة، حينما يؤكد أن "مشكلة المستشارين الملكيين في المغرب هي أنهم يتولون القيام بأدوار تفوق تلك المنتظرة منهم في نظام الملكية البرلمانية، وأنهم يتسببون في حصول الازدواجية التي تحدث عنها عبد الرحمان اليوسفي بين "سلطة الدولة" و"سلطة الحكومة" . المستشارون الملكيون يمثلون "سلطة الدولة"، ويشكلون نواة حكومة موازية، تسمو على الحكومة الرسمية وتباشر سلطة رئاسية، فهم لا يكتفون بتقديم المشورة والمساعدة للملك، بل يتعدون ذلك إلى إعطاء تعليمات للوزراء، والإشراف العملي أحياناً على تدبير قطاعات حكومية دون المرور بالضرورة عبر الوزير الأول سابقاً، ويسهرون على إصدار وتنفيذ قرارات لم تكن موضوع تداول في المجالس الحكومية، رغم أنها تهم مجال السلطة التنفيذية، ويرتبطون بمسؤولي الإدارة الترابية والأمانة العامة للحكومة والأجهزة الأمنية ووزراء السيادة ومديري مؤسسات استراتيجية، في إطار بنية تشكل جوهر السلطة وحقيقتها على الأرض والتعبير الأعلى عن الدولة . الازدواجية بين سلطتي الدولة والحكومة تتسبب في غياب الوضوح المؤسساتي، وتؤدي إلى تداخل الاختصاصات وترسيخ اللامسؤولية وتعقيد شروط المحاسبة والجزاء . ولهذا كان من الواجب أن تتصدى الوثيقة الدستورية لمعالجة مشكلة المستشارين الملكيين، كالتنصيص -مثلاً- على منعهم من إعطاء تعليمات للقطاعات الحكومية أو التدخل في مهام هي من صميم عمل الوزراء أو الإدارات العمومية . وبهذه الطريقة، كان يمكن تعطيل بعض الأعراف بواسطة التقنية الدستورية" . فراغ دستوري ويذهب الساسي إلى أن الدستور والحكومة الجديدين لم يضعا حداً لعقود من الممارسات التقليدية في هذا المجال، وظل المستشارون يحتفظون بمجال واسع للتحرك، وقد يُتوسل بها لتبرير الأدوار المُسندة، تقليدياً، إلى المستشارين الملكيين في النظام السياسي المغربي إلى الكفاءة، أي أن الوزراء قد لا تتوافر فيهم الكفاءة المطلوبة، فيتدخل المستشارون لسد النقص، أو المتابعة، أي وجود الحاجة إلى نفس الأشخاص بحكم متابعتهم السابقة لملفات بعينها، وحسن اطلاعهم عليها، وعلاقاتهم القديمة بشركاء أجانب . والحال أن ذلك لا يمكن أن يكون على حساب رأي الناخب الذي اختار فريقا آخر لتأمين استمرارية المرفق العمومي؛ وهناك أيضاً مبرر الأزمة، أي أن لحظات الأزمات الاقتصادية الخانقة تقتضي التحرر من بطء الفريق الحكومي القائم، والتدخل لإنقاذ الوطن، ومنها أيضاً المجالات المحفوظة، أي أن المستشارين يتدخلون باسم الملك كسلطة رئاسية في المجالات المحفوظة للملك، كتلك المتعلقة بشؤون الجيش والأمن والخارجية والدين . إلا أننا إذا ما حاولنا تعداد القضايا التي قد تكون لها صلة بهذه المجالات، يمكن في النهاية أن ندْخِلَ فيها، عمليا، كل القضايا تقريباً . إضافة إلى ذلك، المؤسسات والهيئات الخاصة، أي أن المستشارين يجب أو يُستحسن أن تناط بهم مهمة الإشراف المباشر أو غير المباشر على الصناديق واللجان والمؤسسات والمجالس العاملة "بجانب" الحكومة، والتي نشأت بمبادرة ملكية، مادامت تمثل هيئات أو مؤسسات ملكية أو سيادية . هذا المنطق لا ينتبه إلى أن وجود هذه الهيئات والمؤسسات بالطريقة التي وُجدت بها يشكل، في حد ذاته، مشكلة من الزاوية المؤسسية، ويتطلب حلاً أصلياً . وأخيرًا، التأويل "غير الديمقراطي" للدستور، ففي الماضي، حسب الساسي، كان يتم اللجوء إلى الفصل 19 لتبرير تدخل الملك المباشر، وتدخل المستشارين باسمه، في تدبير أي وجه من أوجه الحكم والسلطة . واليوم، يقع اللجوء -مثلاً- إلى صفة "الممثل الأسمى للدولة" لتبرير نوع التدخل الذي باشره المستشارون باسمه في الجولة الخليجية . والحال أن الصفة المذكورة يجب أن تعنيَ -حسب تأويل ديمقراطي للدستور- أن توقيعه أو تمثيله للدولة المغربية هو الأسمى في الترتيب البروتوكولي من أي توقيع أو تمثيل آخر، وليس معنى ذلك أن للمستشارين، عند وجودهم بجانب الملك في الخارج، حق مباشرة أدوار تعوض أو تتجاوز تلك الموكولة إلى الوزراء . هذه التحديات وغيرها هي ما يواجه حكومة عبدالإله بنكيران، وإذا ما نجحت في التغلب عليها أو في التطبيع معها، فإنها ستكون قد ربحت شقاً من المعركة في انتظار تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة، والتي تتطلب ترسيخ المزيد من الثقة مع الفاعلين الاقتصاديين ولوبي المال والأعمال، والتخلي نهائياً عن التلويح بمحاربة طواحين الهواء .