بتواطؤ حوثي.. مسلحون يحرقون منزلاً في محافظة إب بعد نهبه    الدفاعات الإيرانية تدمر 12 طائرة مسيرة صهيونية في همدان    الحرس الثوري يطلق الموجة 19 من الطائرات الانتحارية نحو الكيان    استعدادات مكثفة لعام دراسي جديد في ظل قساوة الظروف    محافظ تعز يبحث مع مسؤول أممي أزمة المياه والحلول الممكنة    الرزامي يهاجم حكومة الرهوي: الركود يضرب الاسواق ومعاناة الناس تتفاقم وانتم جزء من العدوان    المقاومة العراقية تنعَى مسؤول وحدتها الأمنية في غارة صهيونية على الحدود    سريع يكشف متى ستستهدف قواته السفن والبوارج الامريكية في البحر الأحمر..؟    تدشين الدورة الآسيوية لمدربي كرة القدم المستوى "C" بالمكلا    ما وراء حرائق الجبال!!    حملة لازالة البساطين والعشوائيات في باب اليمن    برعاية طارق صالح.. الإعلان عن المخيم المجاني الثاني لجراحة حول العين في المخاء    نجم مانشستر سيتي في طريقه للدوري التركي    الرهوي يشيد بجهود وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية    الطوارئ الإيرانية: إصابة 14 من طواقم الإسعاف وتضرر 7 سيارات جراء العدوان الصهيوني    إحباط عملية تفجير غربي إيران واعتقال عنصر مرتبط بالموساد    ليفاندوفسكي يحدد وجهته بعد حقبة برشلونة    الشغدري يتفقّد مشاريع خدمية في دمت بالضالع    وزيرالكهرباء ومحافظ المحويت يناقشان أوضاع مشاريع المياه والصرف الصحي    إخماد حريق في منزل بمنطقة شملان    تشيلسي يقترب من إبرام صفقة مؤجلة    اسعار الذهب في صنعاء وعدن السبت 21 يونيو/حزيران 2025    الترجي التونسي يهدي العرب أول انتصار في كأس العالم للأندية 2025    فساد الاشراف الهندسي وغياب الرقابة الرسمية .. حفر صنعاء تبتلع السيارات    الاتحاد الأوروبي يقدّم منحة مالية لدعم خدمات الصحة الإنجابية في اليمن    على مركب الأبقار… حين يصبح البحر أرحم من اليابسة    من يومياتي في أمريكا .. بين مر وأمر منه    بين حروف الرازحي.. رحلة الى عمق النفس اليمني    قصر شبام.. أهم مباني ومقر الحكم    البحسني يكشف عن مشروع صندوق حضرموت الإنمائي    مقتل عريس في صنعاء بعد أيام من اختطافه    الأرصاد يتوقع هطول امطار على بعض المرتفعات ورياح شديدة على سقطرى ويحذر من الاجواء الحارة    مليشيا درع الوطن تنهب المسافرين بالوديعة    شبكة حقوقية تدين إحراق مليشيا الحوثي مزارع مواطنين شمال الضالع    نكبة الجنوب بدأت من "جهل السياسيين" ومطامع "علي ناصر" برئاسة اليمن الكبير    هجوم إيراني فجر السبت والنيران تتصاعد في موقع وسط تل أبيب    بوتين: روسيا تبني لإيران مفاعلين نوويين إضافيين في بوشهر    علي ناصر يؤكد دوام تآمره على الجنوب    بقيادة كين وأوليسيه.. البايرن يحلق إلى ثمن النهائي    الأحوال الجوية تعطل 4 مواجهات مونديالية    حشوام يستقبل الأولمبي اليمني في معسر مأرب    صنعاء .. موظفو اليمنية يكشفون عن فساد في الشركة ويطالبون بتشكيل لجنة تحقيق ومحاسبة جحاف    هذا أنا .. وفي اليمن روحي    «أبو الحب» يعيد بسمة إلى الغناء    بين ملحمة "الرجل الحوت" وشذرات "من أول رائحة"    علي ناصر محمد أمدّ الله في عمره ليفضح نفسه بلسانه    الأمم المتحدة تقلّص خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن وسط تراجع كبير في التمويل    ديدان "سامّة" تغزو ولاية أمريكية وتثير ذعر السكان    نجاح أول عملية زرع قلب دون الحاجة إلى شق الصدر أو كسر عظم القص    حين يُسلب المسلم العربي حقه باسم القدر    فعاليتان للإصلاحية المركزية ومركز الحجز الاحتياطي بإب بيوم الولاية    جماعة الإخوان الوجه الحقيقي للفوضى والتطرف.. مقاولو خراب وتشييد مقابر    كيف تواجه الأمة الإسلامية واقعها اليوم (2)    الخطوط الجوية اليمنية... شريان وطن لا يحتمل الخلاف    الصبر مختبر العظمة    شرب الشاي بعد الطعام يهدد صحتك!    الصحة العالمية: اليمن الثانية إقليميا والخامسة عالميا في الإصابة بالكوليرا    وزير الصحة يترأس اجتماعا موسعا ويقر حزمة إجراءات لاحتواء الوضع الوبائ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دون كيخوتة السلفي -
نشر في الجنوب ميديا يوم 17 - 01 - 2013


دون كيخوته بريشة بيكاسو
مواضيع ذات صلة
عندما اطلع الصاحب بن عباد أحد مثقفي المشرق العربي في القرن العاشر الميلادي على "العقد الفريد" لابن عبد ربه، قال قوله الشهير: "هذه بضاعتنا ردت إلينا"، في إشارة إلى أنه لم يجد جديدا يمثل عبقرية الأندلس، مما يعني أن المسافة الثقافية التي افترضها كانت أقصر بكثير مما هي عليه في الواقع، والصاحب بن عباد في قوله هذا لا يعبر عن نرجسية ثقافية بقدر ما يؤكد انتشار ظاهرة التأثر والتأثير في كل وحدة ثقافية تتسم بتواشج وتبادل في مكوناتها الثقافية وتراثها المشترك، وهي ظاهرة تسفر عن وجهها للمتلقي المعاصر الذي قيض له مطالعة سفر إبداعي فذ هو رائعة الكاتب الإسباني سرفانتس: "دون كيخوتة"
والقارئ الذي يدرك أن في تراثه الثقافي أعمالا سردية تتضمن ذات الخصائص السردية مثل "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" و"منطق الطير" وغيرها سيجد على الفور أن عمل سرفانتس هو أيضا "بضاعة ردت إلينا" فثمة حكاية هي الأساس وأخرى تستكمل أو تشرح أو تستطرد لتنتج في الأخير مزيجا معنويا لواقعية سحرية ممتدة من عالم سندباد البحري ومغامراته في ألف ليلة وليلة مرورا بالمحادثات الشيقة بين كليلة ودمنة والتي أنطقها الحكيم بيدبا كل ما يريد قوله من حكمة سياسية تتواشج تماما مع ما أراده فريد الدين العطار من وراء رحلة البحث الطويلة عن ملك الطيور وصولا لدون كيخوت وهو يجوب الآفاق بحثا عن ذاته الضائعة.
الحكايات مع سرفانتس تتناسل لتؤلف إطارا يجمع شتاتا سرديا يتمخض في محصلته عن واقعية سحرية متخمة بالترهات والبطولات الزائفة، فالعمل بحكايته الأم (الحكاية/ الإطار) وخطها الملتوي والملتف حول سرد استطرادي حينا وسرد هامشي حينا آخر يتطلب جهدا وصبرا في مرافقته لا يقل عما تكبده بطلنا دون كيخوت من تجلد وأعباء ومقالب ومكائد لكي يتوج بلقب الفروسية الذي يطمح إليه.
البطل دون كيخوت، الذي ينتمي إلى طبقة النبلاء، حكيم لكنه أحمق، وربما لأنه حكيم بإفراط صار مجنونا، وهنا يستحضر القارئ سريعا ظاهرة البهلول في التراث العربي، فكلاهما يبدي من خلال جنونه حكمة فائقة، لكن بطلنا يمتاز بفرادة فروسيته المتأخرة، حيث يصوره سرفانتس كفارس جوال أراد أن يبعث ثقافة الفروسية وما يرتبط بها من قيم وقواعد وما تمثله من عصر ذهبي يكشف حجم القبح الذي يلطخ عصره الحاضر، وباختصار: ولد دون كيخوت متأخرا، حيث ثمة خطأ متعمد في التحديد الكرنولوجي لحياة البطل، فبدل أن يعيش العصر الزاهر للفروسية تأخر في ولادته ثلاثة قرون، لكنه لم يتراجع بل عزم على مواجهة الحاضر التعيس بانبعاث عصر سعيد، هو عصر دون كيخوته، البطل الذي تأثر بكتب الفروسية الرائجة آنذاك، في القرن السادس عشر، أي في عصر المؤلف الذي سخط من ترهاتها فعزم على فضحها وتعريتها من خلال حماقات دون كيخوت وسذاجة رفيقه سينشو.
الحكاية الأم هي إذاً حكاية فارس يجوب الآفاق ليزج بنفسه في أتون المغامرات التي لا تستهدف سوى إغاثة المظلوم ومنع الفساد ومناهضة الرذيلة، حتى وإن قاده هذا الحلم المتهور إلى أن يكون موضوع سخرية واستهزاء من صاحبه الطيب حد السذاجة: سينشو. وعلى امتداد الرحلات الثلاث لدون كيخوت نشهد عالما من التيه والعشق والشجاعة والحكمة وأيضا الجن والمردة التي تحدق وتتربص بدون كيخوت وتمنحه علاجا وهميا لجنونه..
إن الغوص في عالم دون كيخوت يكشف السمة الأساسية التي يتمتع بها البطل، فهناك مزيج من الحكمة والحماقة، التهور واللياقة الأدبية، الحب والخيانة، الصداقة أو الإخلاص والمكائد التي تتابع بين الثنائي دون كيخوت ورفيقه سينشو من جهة وبينهما وبين سائر الواقعيين الأذكياء من شخوص الرواية من جهة أخرى: "لا أدري ماذا أقول لك يا ولدي، لقد رأيته يأتي أعمالا لا تصدر إلا عن أكبر مجنون في الدنيا، بينما أقواله من الحكمة بحيث تنسي المرء أفعاله"..
إنه مزيج مستمر من الحكمة والجنون لأن الخيط الفاصل بين الحكمة والحماقة، بين المثال والواقع، بين الروح والجسد، هو خيط دقيق يكاد ينعدم في هذه الرواية التي تحذرنا من الوقوع في فخ النرجسية، أو وهم دون كيخوت الفارس المقدام والبطل الغيور، حيث صدق الخدعة التي نسجتها الذات لتصبح موضوعا للتندر والشفقة، هذا الانخداع الذي يعمر الواقع أحيانا سيتخذ صورا عديدة في الرحلة الدون كيخوتية الطويلة: انخداع الحب، انخداع الفضيلة، انخداع الباحث عن الحقيقة.. الخ.
قد يبدو السياسي أو رجل الدين أو المثقف هو أيضا دون كيخوت، فسرفانتس المؤلف الإسباني الذي كان يحدق في حديقته نحو الفراغ متأملا في كون من العماء والانخداع المستمر والأزلي، يعلمنا أن الواقع غير منزه من السقوط في انخداع أو نرجسية وانفصال عن الواقع ذاته، أي انشطار الواقع وفصاميته، فالبطل هنا مصاب بالشيزوفرينية، بينه وبين الواقع مسافة تفصله عن مولده، فهو لا يعبأ بالحاضر، لأنه مهجوس باستعادة المجد الضائع لزمن ولى ولن يعود، زمن يراد له أن يبعث من جديد.
وهكذا فدون كيخوت ماضوي لا يختلف كثيرا عن أي سلفي يريد شطب الواقع لأنه ببساطة مفصول عنه. السلفي كائن شيزوفريني ينتج عالمه الوهمي المعزول عن الواقع وتحدياته وتحولاته، إن صاحبنا المدجج بسلاحه من رأسه حتى أخمص قدميه ، الفارس الشجاع والذي ولد متأخرا ثلاثة قرون هو نسخة طبق الأصل عن كل نموذج سلفي منسحب من اللحظة الراهنة نحو ماضٍ عتيد يسقطه على كل اللحظات.
السلفية تعني تثبيت، فثمة نموذج قابع في مكان ما من التاريخ الإدراكي للذات، نموذج يتسم بسطوة الأصل، ليرغم الذات الشيزوفرينية على ممارسة منغمسة في تكراره وتوليده المستمر. المحتسب أو الأصولي منشد دائما لفكرة أو فضيلة أو مبدأ يتأصل دائما ويتجاوز الحاضر بوصفه مدان ومتهم بمجافاة المثال الافتراضي، ثمة عجز متأصل عن إدراك جوهر العلاقة الجدلية بين الواقع والمثال، حيث لابد لكل واقع من مثال يكبح النزوع الواقعي للعدم أو الموت، ولكن من جهة أخرى لابد للمثال من واقع يحد من طوباويته، هذه العلاقة الجدلية لا يعيها الشيزوفريني، كما يمارس عملية إخصاء دائم للذات حين لا تتجاوب مع حركية الواقع وتبدل حاجاته، إن السلفي وباختصار ميت قبل أن يولد.
والسلفية تعني انخداع.. لا يخل كل سلفي من غرور، فهو مثل صاحبنا دون كيخوت، معتد دائما بأصله الذي لا يتزحزح، ونموذجه الذي لا يأتيه الباطل. إنه معتد بذاته مثل الفتى نرسيس الذي كان لا ير سوى ذاته فهلك. النرجسية السلفية تتجلى أكثر في ممارسات الإقصاء الناجم عن الوثوق المفرط بالفكرة اليتيمة والمستبدة داخل العالم الذهني، الفكرة التي لا تترك مجالا للتراكم المعرفي الناجم أساسا عن حركة الأفكار المتسمة بطابع ديالكتيكي، والفكرة حين تصبح يتيمة تطغى وتستبد، لكنها تتصاغر عند احتكاكها بفكرة مغايرة وهكذا تتولد الأفكار ويصبح التحول طبيعة مترسخة، تحد من النزوع النرجسي الناجم في أغلب الأحيان عن انخداع أو جهل مركب أو حماقة متأصلة.
غير أن السلفي موعود بالصحوة، ولكن بعد خراب مالطة، تماما مثل فارسنا الذي عاد إلى رشده بعد فوات الأوان: "لقد كنت مجنونا والآن صرت عاقلا، لقد كنت دون كيخوته دلا منتشا. وأنا الآن كما قلت لكم ألونسو كيخانو الطيب- وهو اسمه الحقيقي- ولعل توبتي وصدق مشاعري أن يستردا احترامكم السابق لي"...
لست وحدك الأحمق يا دون كيخوته!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.