قبل أولمبياد بكين نظمت فضائية "السعيدة" مسابقة بين فنانين من اليمن وتحت عنوان "هيا نغني لبكين"، ولا أدري كيف اختير اسمي ضمن لجنة التحكيم، ولكنني آثرت الابتعاد واعتدت الاعتذار إزاء حالات كهذه. وإزاء تدخلات "عديلي" وهو أخ لي هيلان الربيع، لم يكن أمامي خيار غير الاستجابة والتجاوب. ما لم أكن أتوقعه هو صرف مقابل لأعضاء لجنة التحكيم من قبل المنظمين، وذلك ما حل لشخصي أزمة خانقة في ذلك الشهر وميزانيته، وكأنما هذا الخروج الاضطراري جاء لي بحل من حيث لا أحتسب لمشكلة هي كبيرة بالنسبة لي إن لم يكن في حملها ففي همها. يوجد اختلاط تلقائي فوق الوعي أو بأي قدر يكون الوعي به بين صراع الرزق وأي صراعات أخرى في الواقع، كما يوجد خلط عمدي وبكامل الوعي بين صراع الرزق وأي صراعات أخرى. في تجربة غير بعيدة لشخصي مع إحدى الصحف تطوع زميل أو اجتهد في تحقيق من أحد البنوك كل إشادة وشهادة ومدح وثناء على أداء البنك ونجاحاته، وفي العدد التالي فوجئت بذات الزميل يمارس الانقلاب على تحقيق الاسبوع الماضي وآرائه فيه، بل والانقلاب على البنك فنسفه نسفاً، والحالة واضحة الفهم في إنصاف عدد من الصحيفة والنسف في العدد التالي. لقد كان من نتائج ظهوري في "السعيدة" ان شاباً ظريفاً بشوشاً دائم الابتسامة عرفني ويعمل "جزاراً" في أقرب سوق إليّ، حتى باتت بيننا "صداقة" وليس فقط معرفة، وفي بعض الشهور تتجاوز مديونيتي سقف خمسة آلاف ريال وقد تصل إلى العشرة. أوائل شهر رمضان الكريم وبمجرد وصولي إليه وإذا هو يصيح بابتسامته المعهودة، وها هو الصحفي.. مارست التكشيرة والغمزة فامتنع عن مواصلة كلام التعريف بي، واستوقفت لفضول التتبع وإذا شاب يعمل في إحدى الصحف الاسبوعية والتي ازدادت بمستوى خلط الحابل بالنابل. هذا الشاب الممسك بالقلم وباستمارة إعلان من الصحيفة، يطلب من "الجزار" الموافقة على نشر إعلان له في الصحيفة. لقد بدا على هذا الشاب الخجل وتعامل بتواضع وأدب، وبالتالي فهو يمارس علاقة ايجابية وعملاً مشروعاً؛ بما جعل الجزار يتقبل الحالة بابتسامة ورضى وليس بتكشيرة عهدناها حين حالات أخرى غالباً ما نلحظ أخذاً ورداً ومفاوضة على مبلغ سيدفعه. ففي حالة يكون سقف صراع الرزق بنكاً وفي أخرى مؤسسة وفي ثالثة "الجزار"، ولكن الغالب هو افضاء صراع الرزق إلى سخط تجاه أي نظام وأي حكم، وهذا السخط إما تقمعه أنظمة أو يصبح بأي قدر يوظف أو يستعمل هو القامع للنظام. ربما في تفعيل هذه الثقافة تطوير مع تطورات وتفصيل على مراحل ومحطات، وحالات يجعلها بين الحضور غالباً أو على الدوام للتعامل مع ما تقدره من طرفك – أو من طرف آخر- كمشكلة لك أو في وضعك. فخلال فترة إبعادي وابتعادي التي باتت عقداً لم تقتصر المسألة فقط على من يصنف معارضاً أو أطراف معارضة لاستمالة تعبوية ضد النظام، لكنك قد تسمع من أناس هم أثقال في النظام يقولون لك مثلاً: "أصحابنا هكذا الساكت يهملونه ثم ينسونه"، وهذا يعني أن عليك "ندف" النظام لتذكره أو يتذكرك. وهكذا ففي حالة كهذه يأتي استهداف النظام ليس من خلال قناعات سياسية كاصطفاف أو من خلال واقعية للتعامل مع أخطاء أو معالجة أخطاء، وإنما من حالة ووضع لصراع الرزق ربطاً بوعي وتفكير فرد أو شخص، وذلك يحكم تباينات الأفراد في أولوية تقديره لوعيه وقيمه، أو أن تكون أولوياته من صراع الرزق ومن كونه من يقدر ويقرر رزقه وليس أرحم الراحمين. إننا في خضم صراع الرزق نتعامل مع الأفعال والتفعيل دون اعتبار لما نسلم به جدلاً وكلاماً بأن أي نظام وأي بشر هو في مسألة الرزق في إطار الأسباب حين يمنع أو يمنح، وهذا يمثل قدراً من عمد التناسي لخالق الخلق الرزاق، ولنا من هذا القياس قراءة وتقدير التناسي العمدي للوطن أو المصالح العليا له ونحو ذلك. في إطار الظواهر العامة وقياسها فالمسافة بين التسليم بأن أرحم الراحمين هو واهب الرزق والسعي له وطرق أبوابه هو في إطار الأسباب؛ وبين نسيان ذلك في الأفعال والتفاعلات هو ما يسمى "السياسة" في التفعيل السياسي للديمقراطية، وهو ما كان قبل ذلك سياسة في الانقلابات والصراعات. مثل علي سالم البيض فإنه لم يذق نعيماً ويطل أو ينل رزقاً واسعاً وهو في مراتب من الحكم أو على رأسه كما بعد ترك الحكم والإقامة في الخارج، وما كان الاشتراكي كنظام في عدن يستطيع توفير ما أنفق في زواج ابنته، ولكن التطور مراتب مختلفة، فالبعض تقدير "الويزرة" رزقه، والبعض تقدير الحكم رزق وحق له وهكذا. مثلما كلنا في أي جمع أو تجمع مقيل أو داخل الباص لا يمكننا القول إلا ان الرزق هو من الله، وذلك لا يجسد بنسب متفاوتة في الأفعال والتفاعلات، فكلهم في الخطاب العام يمارسون اعلاء الوطن وأولوية مصالحه والمصالح العليا، حتى بات لدينا تضخم في تنافس الخطاب وطنياً، وتذبذب إلى درجة مستفزة بل مقززة في تخلخل الأفعال والتفعيل وطنياً. لقد ظل تضخيم الذات وطنياً واستسهال إدانة الآخر بالخيانة والعمالة من سمات الحرب الباردة في اليمن كتبعية لصراعات، وذلك ما انكشف وتعرى بشكل مخجل في العقد الأول للوحدة، وبالتالي ليس التطور هو انقلاب اللذات على الذات بتهبيط سقف الوطنية والمصالح الوطنية في تفكيرنا ووعينا، ثم في قيمنا وضمائرنا كما ربط صحفي رزقه ببنك، وحين لا يتحقق ينقلب على ذاته وعلى البنك. عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها خرجت للقتال ضد علي بن ابي طالب رضي الله عنه، فيما شقيقها يقاتل في جيش علي بن ابي طالب، وذلك يقدم اختلاف رؤى البشر في ظل صراعات، وحيث عائشة وعلي من المبشرين بالجنة، فإن الجنة أو النار هي محصلة لاجمالي الحساب والمواقف ربطاً بما هو خافٍ، وما تخفي الصدور فوق اعتساف البشر بمعيار محطة أو موقف. ربما لم نهتم بحقيقة ان ثورة سبتمبر وأكتوبر في تموضع نظامين مارسا الواقعية مع الصراعات الخارجية، وكل طرف بفكره وتقديره وموالاته بدون اكتراث أو اهتمام بالواقعية مع الواقع والصراعات في هذا الواقع. فالتطور إلى اختيار أو خيار اضطرار للوحدة والديمقراطية للتموضع مع واقعية الصراعات الخارجية، واستمرار عدم الاكتراث أو الاهتمام بالواقعية مع الواقع وصراعاته، سيظل تطويراً للصراعات لا علاقة له بنهوض أو تطوير الواقع. إذا قحطان الشعبي وسالمين وفتاح وعلي ناصر لا ينفعون على رأس نظام نمطي سهل التسيير في ظل نمطية الأنظمة الشيوعية أو لا مشروعية لهم، فذلك يعني ان المشروعية هي للانظام، والشيوعية "ثقلها" هي التي حافظت على نظام في عدن حتى انهيارها. ولهذا فانه لم يعد يفيد استدعاء الحرب الباردة أو استعمال تداعياتها وثقافته للتلقين الصراعي والتعبوي من وجه واحد كالقول بافتقاد النظام للمشروعية أو انتهاء صلاحيته، بل لا بد من الاكتمال بالوجه الآخر للاقناع بالنظام الذي له مشروعية أو صلاحية، فهل لا نزال في ثقافة ان التقدمية هي المشروع الحضاري أو الاسلام هو الحل وإن بتوليفات ديمقراطية؟!!. الفلسفة ستظل غطاء أو تغطية مطلوبة لنظام سياسي ولفكر وطرف سياسي، ولكنها لا تصلح غطاءً لافلاس سياسي لدى أي طرف. أزمات وتأزمات الصراعات وأية فلسفة للصراع لم تعد تفيد المعارضة، وباتت مصلحتنا في الواقعية لذاتها ومن أجلها كمعارضة، ولا تستطيع مواجهة أخطاء النظام بشكل ايجابي ومؤثر إلا من خلال هذه الواقعية في خيارها أو مسارها العام، وفي الأفعال والتفعيل. باستطاعة مثلي كتابة من وضع ساخط أو موضوع ساخط يحمل قدرة عالية في استهداف النظام بأي أخطاء استدعيها أو أصل إليها، فذلك سهل ما دام الهدف استهداف النظام وليس أخطاءه. وباستطاعتي من خلال تاريخ أو واقع أثقال المشترك نسفه ديمقراطياً أو نسفه في ديمقراطيته، ولكن ما أتمناه كأهم وأولوية واقعية هو وصول النظام والمشترك إلى اتفاق وتوافق واقعي، يؤسس لتغليب المصلحة العامة ولصالح الواقع العام في الأفعال والتفعيل بغير ما اعتدناه في تضخيم وضخامة الخطابة والكلام. نريد الوصول إلى اتفاق سياسي واقعي وليس إلى صياغات فلسفية أو اتفاق فلسفي عادة ما يكون فاقد الوعي أو الواقعية أو كليهما!.