ما زلنا نرصد تداعيات الفيلم (Innocence of Muslims) الذي يندرج تحت مد وجزر يستهدف الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، كما أنه يستهدف المسلمين بعامة من خلال هذا العنوان الذي يسخر منهم، ويصفهم بالسذاجة (براءة المسلمين). هناك شيء غريب يحدث، وقد لفت نظري هذه السنة فقط. فقد كنت فيما سبق من السنوات أبذل جهدا كبيراً عندما أحتاج مادة إعلامية في الفلسفة أو المنطق على اليوتيوب، لاستعين بها في بحوثي وكتاباتي، أما هذه السنة فقد تدفقت تلك المواد بشكل غير مسبوق، ليست العلمية والمنطقية والفلسفية، بل المواد الجريئة جداً على الدين والأنبياء، وبوقاحة لا يرتضيها عالم مهما كان دينه، إن كان لديه شيء من خلق. يتصور الغربيون أنهم بموافقتهم على سب المسيحية والتهكم بها، فإنه يفترض أن يقبل المسلمون بسب دينهم. لكن ما يجب أن يعلموه هو أن هناك فرقاً كبيراً بين الحالتين، فالمسيحيون لم يعودوا مسيحيين حقا، بينما المسلمون لم يتغيروا، بل لم ينفكوا عن الاعتزاز بدينهم. لقد اختار المسيحيون منذ زمن أن يُسقطوا الدين من المعادلة، أما المسلمون فلا يرون في دينهم ما يدعوهم للتخلي عنه، كما حدث مع المسيحيين. أحد الفروق الرئيسة بين هذين الدينين هو أن المسيحية كانت مرحلية، أما الإسلام فقد جاء ليبقى للأبد. عندما تنظر في الإنجيل المحرّف الموجود في أيدي أهل الكتاب اليوم فإنك سترى كتاب زهدٍ ومواعظ وأخلاقٍ فقط، مثله مثل كثير من كتب الأخلاق والزهد التي عرفها البشر، أما القرآن فالمواعظ والأخلاق هي أحد فنونه فقط، وليست كل ما فيه، فالإنجيل قدّم للمسيحيين عقيدة بلا شريعة، فهذا الكتاب الذين في أيدي المسيحيين يخلو من الأحكام، ما عدا حكم واحد هو تحريم الطلاق ووصف المطلِّق بأنه زانٍ. أما القرآن فقد جاء بعقيدة وشريعة وأخلاق وتاريخ ومواعظ، فهو عدة فنون في كتاب واحد. وهو منهج حياة، منهج متكامل ختم الله به كتبه، وجعل الإسلام آخر أديانه، لأنه أراد له أن يبقى، وأراد لهذه الشريعة أن تسود حياة البشر. بل إن الشريعة اليوم قد زاد الاهتمام بها في داخل البيت الغربي حتى إن بعض الإخوة الذين يعيشون في بريطانيا قالوا مرة: لا تستغربوا إن رأيتم الشريعة تتمدد أكثر، وتتغلغل بشكل أكبر، وتأخذ مزيدا من المساحات في الحياة القانونية في بريطانيا بعد أن تم اعتماد القرآن هناك كمصدر تشريعي. هذا الفرق الجوهري يغيب عن أذهان كثيرين، خصوصاً العلمانيين العرب الذين يتصورون أن سقوط المسيحية وتراجعها عن حكم حياة البشر في العالم الغربي، الذي حدث في أوروبا في القرن ال17 – يسمونه قرن العقل – حينما أقصوا الدين، وجعلوا المناهج المادية والعلم التجريبي مكانه، لا بد أن يحدث للقرآن والإسلام. هم بلا شك مخطئون عندما يعتقدون هذا الاعتقاد، وعندما يتصورون أن المسألة مسألة وقت ليحدث في العالم الإسلامي نفس ما حدث في العالم المسيحي من نبذ للدين، والتحول للنمط العلماني في المعيشة. ويقف هؤلاء في نفس الخندق الذي يقف فيه القس تيري جونز، الذي خرج للعالم منذ بضع سنوات يدعو لحرق المصاحف، وقد كتبت عنه في وقتها، وها هو اليوم يقف وراء الفيلم المسيء لحبيبنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. يحاول البعض أن يتصوّر ويصور قضية الإساءة لنبينا عليه الصلاة والسلام، على أنها من القضايا التي يجب أن تعتبر من قضايا حرية الرأي والتعبير، التي يجب أن نتقبلها بصدر رحب. لكننا لا نستطيع أن ننظر إلى الموضوع بهذه الصورة، فلو أن فردا أو مؤسسة تبنّت موقف التشكيك في قصة محرقة اليهود (الهولوكوست) لحورب أشد الحرب، ولاتّهم بمعاداة السامية، مثلما حدث مع أحد أكبر المؤرخين البريطانيين (ديفيد أرفنج) الذي زعم أن اليهود الذين ماتوا في الهولوكوست ليسوا ستة ملايين يهودي، وإنهم لا يتجاوزون المائة ألف فقط، وأن هذا أقصى عدد يمكن أن يصل إليه تجمع اليهود في تلك الحقبة التاريخية وفي تلك المنطقة من الأرض، فقامت قيامة اليهود في بريطانيا، ولم تقعد ضده. وهذا أيضا الممثل ميل جبسون، الذي اتصل بأحد البرامج الحوارية منذ حوالى خمس سنوات، وهو في حالة سكر وقال وهو على الهواء: إنه يكره اليهود، ويتمنى أن تقوم حرب ليتمكن من قتالهم وقتلهم، فأبعدته شركات الإنتاج (وهي في الغالب يهودية) فلم يعد يُرى إلا نادراً، وتشوهت صورته بعد أن كان نجماً كبيرا بالنسبة للشباب. أبعد كل هذا نشك في صحة نظرية المؤامرة؟!