تحقيق استقصائي يؤكد تعطل سلاسل الإمداد الدفاعي للكيان بسبب الحصار اليمني    عراك عنيف داخل مسجد في عدن يخلف مصابين    Ulefone تطلق هاتفها المصفح الجديد مع كاميرات رؤية ليلية    ما سر قرار ريال مدريد مقاطعة حفل الكرة الذهبية 2025؟    اكتشاف معبد عمره 6 قرون في تركيا بالصدفة    دراسة تحذّر من خطر شاشات الهواتف والتلفاز على صحة القلب والشرايين!    باوزير: تريم فضحت تهديدات بن حبريش ضد النخبة الحضرمية    يحق لبن حبريش قطع الطريق على وقود كهرباء الساحل لأشهر ولا يحق لأبناء تريم التعبير عن مطالهم    الراجع قوي: عندما يصبح الارتفاع المفاجئ للريال اليمني رصاصة طائشة    لماذا يخجل أبناء تعز من الإنتساب إلى مدينتهم وقراهم    في تريم لم تُخلق النخلة لتموت    إنسانية عوراء    المحتجون الحضارم يبتكرون طريقة لتعطيل شاحنات الحوثي المارة بتريم    وتؤكد بأنها على انعقاد دائم وان على التجار رفض تسليم الزيادة    كرة الطائرة الشاطئية المغربية.. إنجازات غير مسبوقة وتطور مستمر    تغاريد حرة .. عندما يسودنا الفساد    وسط تصاعد التنافس في تجارة الحبوب .. وصول شحنة قمح إلى ميناء المكلا    تضامن محلي وعربي واسع مع الفريق سلطان السامعي في وجه الحملة التي تستهدفه    فوز شاق للتعاون على الشروق في بطولة بيسان    رونالدو يسجل هاتريك ويقود النصر للفوز وديا على ريو آفي    القرعة تضع اليمن في المجموعة الثانية في تصفيات كأس آسيا للناشئين    منظمات مجتمع مدني تدين اعتداء قوات المنطقة العسكرية الأولى على المتظاهرين بتريم    إب.. قيادي حوثي يختطف مواطناً لإجباره على تحكيمه في قضية أمام القضاء    من الذي يشن هجوما على عضو أعلى سلطة في صنعاء..؟!    وسط هشاشة أمنية وتصاعد نفوذ الجماعات المسلحة.. اختطاف خامس حافلة لشركة الاسمنت خلال شهرين    الرئيس المشاط يعزي في وفاة احد كبار مشائخ حاشد    تعرّض الأطفال طويلا للشاشات يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب    إيران تفوز على غوام في مستهل مشوارها في كأس آسيا لكرة السلة    تعاون الأصابح يخطف فوزاً مثيراً أمام الشروق في بطولة بيسان الكروية 2025    الرئيس الزُبيدي يشدد على أهمية النهوض بقطاع الاتصالات وفق رؤية استراتيجية حديثة    محافظ إب يدشن أعمال التوسعة في ساحة الرسول الأعظم بالمدينة    إجراءات الحكومة كشفت مافيا العملة والمتاجرة بمعاناة الناس    كنت هناك.. وكما كان اليوم، لبنان في عين العاصفة    عصابة حوثية تعتدي على موقع أثري في إب    رصاص الجعيملاني والعامري في تريم.. اشتعال مواجهة بين المحتجين قوات الاحتلال وسط صمت حكومي    منتخب اليمن للناشئين في المجموعة الثانية    الصراع في الجهوية اليمانية قديم جدا    الأرصاد الجوية تحذّر من استمرار الأمطار الرعدية في عدة محافظات    وفاة وإصابة 9 مواطنين بصواعق رعدية في الضالع وذمار    الهيئة التنفيذية المساعدة للانتقالي بحضرموت تُدين اقتحام مدينة تريم وتطالب بتحقيق مستقل في الانتهاكات    الريال اليمني بين مطرقة المواطن المضارب وسندان التاجر (المتريث والجشع)    صنعاء تفرض عقوبات على 64 شركة لانتهاك قرار الحظر البحري على "إسرائيل"    الفصل في 7329 قضية منها 4258 أسرية    جامعة لحج ومكتب الصحة يدشنان أول عيادة مجانية بمركز التعليم المستمر    خطر مستقبل التعليم بانعدام وظيفة المعلم    من الصحافة الصفراء إلى الإعلام الأصفر.. من يدوّن تاريخ الجنوب؟    طالت عشرات الدول.. ترامب يعلن دخول الرسوم الجمركية حيز التنفيذ    دراسة أمريكية جديدة: الشفاء من السكري ممكن .. ولكن!    هيئة الآثار تنشر قائمة جديدة بالآثار اليمنية المنهوبة    موظفة في المواصفات والمقاييس توجه مناشدة لحمايتها من المضايقات على ذمة مناهضتها للفساد    اجتماع بالمواصفات يناقش تحضيرات تدشين فعاليات ذكرى المولد النبوي    مجلس الوزراء يقر خطة إحياء ذكرى المولد النبوي للعام 1447ه    لا تليق بها الفاصلة    حملة رقابية لضبط أسعار الأدوية في المنصورة بالعاصمة عدن    ( ليلة أم مجدي وصاروخ فلسطين 2 مرعب اليهود )    رئيس الوزراء: الأدوية ليست رفاهية.. ووجهنا بتخفيض الأسعار وتعزيز الرقابة    من أين لك هذا المال؟!    تساؤلات............ هل مانعيشه من علامات الساعه؟ وماذا اعددناء لها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما تيسّر عن رجال الدين ( الربانيين ) (1)
نشر في المؤتمر نت يوم 11 - 06 - 2012

في اواخر شهر مايو المنصرم قام عدد من رجال الدين الحزبيين بزيارة الرئيس عبدربه منصور هادي، وسلموه برنامجاً سياسياً يتمحور حول ضرورة بناء دولة دينية كهنوتية تكون الكلمة العليا فيها لا للشعب بل لمرجعية عليا من رجال الدين (الربانيين) بحسب وصفهم لانفسهم، حيث لا يجوز اتخاذ أي قرارات أو تشريعات أو سياسات إلاّ بعد الرجوع الى هذه المرجعية (الربانية) والحصول على موافقتها. ثم طلبوا من الرئيس عبدربه منصور الاسراع بوضع آلية تنفيذية مزمنة لبرنامجهم السياسي!!! وبعد ان سلم اولئك الساسة (الربانيون) رئيس الجمهورية المشير عبدربه منصور هادي برنامجهم السياسي الاسود، ابلغوه بأنهم كلفوأ اربعة من زملائهم (الربانيين) لمتابعة ومراقبة سير تنفيذ هذا البرنامج.. وكان لافتا للنظر ان جميع هؤلاء (الاربعة) أعضاء قياديون في أحد الاحزاب السياسية المشاركة في حكومة الوفاق!!!.
صحيح ان هذه الواقعة حظيت بردود افعال واسعة عكست رفض المجتمع المدني والقوى الحية في البلاد لهذا النوع من التنطع السياسي الذي يستخدم الدين وسيلة من أجل تحقيق أغراض حزبية ضيقة وأهداف سياسية رجعية ومتخلفة، ما يجعلني في غنى عن مناقشة هذه الواقعة، لكن ما أثارني هو اصرار الذين قابلوا الرئيس عبدربه منصور على اطلاق الصفات (الربانية) على انفسهم، الامر الذي يتطلب نقد هذا الادعاء، وتوضيح جذوره في االفكر الملكي اليهودي والمسيحي.
قبل عامين من هذه الواقعة كتبت في هذه الصحيفة مقالاً أوضحت فيه بعض التشوهات التي أصابت المعتقدات الإسرائيلية بتأثير الدمج بين الدين والنظام السياسي الملكي الاقطاعي، حيث كان ملوك بني إسرائيل يستخدمون الدين كغطاء لتبرير انغماسهم في ممارسة الظلم والاستبداد والفساد واكتناز الثروات، وما ترتب على ذلك من ضم وإلحاق ما أسموه (الشريعة الشفوية) إلى التوراة، بواسطة كتب الأسفار التي اعتبروها (وحياً ثانياً) أنزله الله إلى النبي موسى عليه السلام بعد التوراة، وما تضمنته تلك الإضافات من تعاليم ومعتقدات منافية لشريعة موسى، مارسها ملوك وأحبار بني إسرائيل باسم الحكم الإلهي، وهو ما يفسر غضب الله عليهم، بقوله في القرآن الكريم: »إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» (النمل 34).
والثابت أن ما أصاب الديانة المسيحية من ضلال لا يمكن فصله عن تسلل التراث الإسرائيلي إلى هذه الديانة بعد صراع مرير خاضه عيسى المسيح عليه السلام مع ملوك واحبار بني إسرائيل، الذين قاوموا رسالته بمختلف أشكال الكيد والتآمر والقسوة، حيث لم يكن الانحراف عن شريعة النبي موسى عليه السلام في سلوك ملوك بني إسرائيل الظلمة فقط، بل امتد ليشمل أحبارهم ورهبانهم الذين ربطوا الغفران بدعائهم لمن يقدم لهم النذور والقرابين، ثم أنكروا الحساب والعقاب وانغمسوا في متاع الحياة الدنيا واكتناز الذهب والفضة، ما أدى إلى فساد العقيدة وفساد الأخلاق معاً.
وكانت رسالة المسيح عليه السلام موجهة إلى بني إسرائيل الذين دعاهم إلىاتباع ناصية الحق، بعد أن أيده الله بمعجزات ذكرها الله في القرآن الكريم بقوله: «وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» (عمران 49)
بهذا المعنى تكون المعجزات التي أيد بها الله عيسى عليه السلام محددة في أربع على نحو ما ذكره القرآن الكريم الكريم، أما المعجزة الخامسة فهي المائدة التي طلبها الحواريون منه:
«إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ» (المائدة 112- 115).
والثابت أن كلمة (المسيح) وردت في التوراة، ولا يزال الأصوليون اليهود يؤمنون بحتمية ظهوره، كملك عظيم يحقق لهم السلطان على الأرض، ويجعل كلمتهم هي العليا وجيشهم هو الجيش الأعظم باعتبارهم شعب الله المختار، بيد أنهم لم يصدقوا بنبوءة المسيح بن مريم؛ لأنه جاء ليدعوهم إلى الأخلاق، ويوجههم وجهة روحية، ويحذرهم من اكتناز المال والذهب والفضة، ولذلك لم يروا فيه صفات المسيح المنتظر، وقاوموه وتآمروا على قتله، ولا يزال الأصوليون اليهود يؤمنون حتى الآن بظهور المسيح المنتظر الذي يحقق لهم السلطان المطلق على الأرض وكافة أجناس البشرية.
وقد تميزت التعاليم المسيحية في عهدها الأول قبل محاكمة وصلب المسيح أنها كانت تهتم بالوعظ والتسامح، ولعل أهم ما ترويه الكتب الدينية عن اهتمام المسيح بن مريم بالوعظ قوله: (طوبى للمسكونين بالروح فإن لهم ملكوت السموات، وطوبى للمزارعين فإنهم يرثون الأرض وطوبى للجياع والعطاشى إلى البر، فإنهم يشبعون، وطوبى لأتقياء القلوب فإنهم قريبون إلى الله) إنجيل متى الإصحاح الخامس والسادس والسابع.
وبالإضافة إلى الوعظ دعا المسيح إلى التمسك بشريعة موسى وأكد على وجوب حفظ الوصايا القديمة التي أنزلها الله على موسى في الجبل بقوله: (إن كنت تريد أن تدخل الحياة الأبدية فاحفظ الوصايا المتعلقة بالله وهي: الرب إلهك، فلا تكن لك آلهة أخرى، لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا، وأحفظ كل الوصايا المتعلقة بالبشر وهي لا تسرق، لا تزن، لا تقتل، لا تشهد الزور، أكرم أباك وأمك، لا تشته زوجة قريبك)، (انجيل متى 52- 54).
ولئن كان ثمة تشابه بين الناموس المسيحي والناموس اليهودي باعتبارهما صادرين عن الله، فإن عدداً من الكتاب والباحثين في التاريخ المسيحي يرون أن ثمة تمايز بين الناموسين على قدر كبير من التسامح الذي تميزت به دعوة المسيح بن مريم في حياته، لكنه لا يصل إلى درجة التناقض، فقد نهت شريعة موسى عن القتل، أما المسيح فقد ذهب إلى أبعد من ذلك فنهى عن التفكير في الإساءة إلى الغير، كما نهى المسيح عن البغضاء والكراهية واحتقار الآخرين بقوله: (قيل للأولين لا تقتل، فإن من قتل يستوجب الدينونة، أما أنا فأقول لكم إن كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة ) (إنجيل متى 5- 21).
في السياق ذاته نهت شريعة موسى عن الزنا، أما المسيح فقد نهى عن كل فكرة أو شهوة مدنسة تداعب الحس والخيال بقوله: (إن كل من نظر إلى امرأة لكي يشتهيها فقد زنى بها في قلبه) (متى 5- 27).
أما فيما يتعلق بالزواج والطلاق اللذين أباحتهما شريعة موسى، فقد ألغى المسيح الطلاق بحجة أن موسى ما سمح به إلا لقساوة قلوب قومه، بينما سمح المسيح بالهجر المشروط بألا يعقبه زواج جديد، فيما نهت شريعة موسى عن الحنث بالعهود والحلف بالله، أما المسيح فقد نهى عن الحلف بالله على الإطلاق أيا كان نوعه بقوله: (لا تحلف البتة بالسماء فإنها عرش الله، ولا تحلف برأسك،لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منها بيضاء أو سوداء، ولكن ليكن كلامكم نعم ولا، وما زاد على ذلك فهو الشر) (متى 33- 37).
وقد نصت شريعة موسى على محبة الأحباء وبغض الأعداء، أما المسيح فقال بمحبة الأحباء والأعداء بقوله: (أقول لكم أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا لأجل من يعنتكم ويضطهدكم، لأن شمس الله تطلع على الصالحين والأشرار ومطره ينزل على الأبرار والظالمين) (متى 43- 44).
والثابت أن التاريخ المسيحي بكل ما انطوى عليه من حروب واضطهاد وقسوة يتعارض تماما مع هذه التعاليم التي أوردناها بإيجاز شديد لضيق الحيز، ولا يمكن فهم هذا التحول من التسامح والمحبة إلى القسوة والاضطهاد بدون التعرف على جذوره التاريخية في التلمود، حيث كان الأباطرة الوثنيون قبل ظهور المسيح يقومون بحماية السكان من جيش بني إسرائيل، ولذلك فقد كان الأباطرة لا يعرفون من أمر الدين الجديد سوى أنه امتداد لليهودية.
مما له دلالة أن التشوه الذي أصاب العقيدة اليهودية لم يتمحور فقط حول الروايات الشفوية التي قام الأحبار والحاخامات بتدوينها بعد أن اخترعوها ونسبوها إلى النبي موسى عليه السلام، بل إنها تجاوزت ذلك إلى تضمين العقيدة أساطير وخرافات تركت آثارها السلبية على الاختلافات المذهبية اليهودية من جهة، وعلى العلاقة بين اليهود وغير اليهود من جهة أخرى.
وبالنظر إلى أن رسالة المسيح ظهرت وتوجهت إلى بني إسرائيل بعد أن اشتد انحرافهم عن التعاليم الصحيحة لشريعة موسى عليه السلام، فقد تعرضت المسيحية لمقاومة شرسة من داخل البيئة الإسرائيلية التي تحركت فيها وتوجهت اليها. ولعل أخطر أشكال هذه المقاومة هو تسلل الإسرائيليات إلى العقيدة المسيحية نفسها، خصوصا بعد أن اعتنق ملوك أوروبا الديانة المسيحية وطوعوها لمصالحهم بالتعاون مع رجال الدين المسيحيين.
وبوسع من يطالع الكتب المقدسة عند المسيحيين ملاحظة العلاقة البنيوية بين الأساطير والخرافات والروايات التي نسبها الحواريون والرسل والرهبان إلى المسيح عليه السلام، وبين المعجزات الخمس التي أيد بها الله عيسى بن مريم عليه السلام لنشر رسالته في أوساط بني إسرائيل.. فقد أفرطت الأناجيل في إيراد طائفة كبيرة من الموتى، وزعمت بأن المسيح أحياهم بعد الموت، وطائفة أخرى من المرضى الذين شفاهم من المرض أو جعلهم يبصرون. كما تذكر الأناجيل أحاديث وروايات عن العشرات والمئات من المجانين والمصروعين والعميان والموتى والمشلولين الذين زعمت ايضا أن السيد المسيح عليه السلام شفاهم تماما من أمراضهم، بل إن إنجيل متى يذكر أن (جموعا كثيرة جاءت ليسوع وفيهم الأعرج والأعمى والأخرس والمشلول فقبلوا قدمي يسوع فشفاهم).
وعلى النقيض من ذلك يرى كثير من الباحثين أن المعجزات التي أيد بها الله عيسى بن مريم حدثت مرة واحدة وبهدف واحد هو إثبات صدق نبوءته، بمعنى أن عيسى كان قويا بمشيئة الله الذي قرر أن يمنح رسوله ونبيه عيسى بن مريم البرهان لإثبات النبوة أمام الذين أنكروا رسالته، بيد أن ما ترويه الأناجيل يجعل العلاقة بين الله والمسيح تنافرية، أي أن الله يميت، ثم يأتي عيسى لينقض مشيئة الله ويقوم بإحياء من أماتهم الله، ثم يقضي الله بالعمى فيقوم عيسى بإعادة البصر إلى العميان وهكذا.
كما يرى باحثون في علم الأديان أن أكثر معجزات الرسل والأنبياء تأتي متوافقة مع البيئة الفكرية والثقافية في عصر كل منهم، فالسحر كان معجزة موسى والبلاغة كانت من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لانتشار السحر في عهد موسى وانتشار البلاغة في عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بيد أن الأساطير التي دخلت على المسيحية توحي بأن الطب كان منتشراً بين بني إسرائيل في عهد عيسى، مع أن التاريخ يدل على عكس ذلك.. فقد كانت معرفة بني إسرائيل بعلم الطب قليلة في عهد المسيح وقبله، وليس ادل على ذلك من انتشار الأوبئة والأمراض بينهم، والتي كانت من أهم أسباب إخراجهم من مصر، أما معجزات عيسى فإنها تتفق مع طبيعة مولده، حيث أن معجزاته تعلي من شأن الجوانب الروحية وتقيم الدليل على وجود الروح التي اشتهر بني إسرائيل بإنكارها، وهو ما يفسر قيام عيسى وبتأييد من الله سبحانه وتعالى بخلق شكل الطير من طين لا حراك فيه، ثم نفخ فيه فكان طيراً.
ومما له دلالة أن الأب الياس ادعى في كتابه (يسوع المسيح) أن (من مميزات المسيح التي لا يفاضله فيها نبي ولا رسول أنه أفضى بالقدرة على إتيان المعجزات إلى تلاميذه، ثم جدد منحها لهم بعد قيامه من الموت وصعوده إلى السماء، وأورث الكنيسة تلك القدرة أيضا وجعل من رجال الدين القديسين ورثة لرسالته وتعاليم كل الرسل والانبياء من قبله).
وعند هذه النقطة يمكن فهم أبعاد الافتراء على المسيح وانعكاساته على مسار التاريخ المسيحي، خصوصا بعد اختفاء إنجيل عيسى على نحو يشابه اختفاء التوراة من التابوت الذي وضعه موسى فيه. حيث يقول سفر الملوك ان سليمان لم يجد التوراة عندما فتح التابوت بعد ان وضعه في الهيكل، ولم يجد فيه سوى اللوحين الحجريين اللذين وضعهما فيه النبي موسى إلى جانب التوراة، وقد ترتب على اختفاء إنجيل عيسى قيام بعض الحواريين بتدوين أناجيل مختلفة عرفت بأسمائهم، مثلما ترتب على اختفاء التوراة تدوين الأسفار الملحقة بها وصولا الى تدوين (التلمود) والزعم بأنه السنة النبوية لموسى عليه السلام، بيد أن التطور الأبرز في التاريخ المسيحي حدث بعد أن اعتنق الملك قسطنطين المسيحية واعتنقها معه بولس، وهو كاهن للملك قسطنطين عندما كان وثنيا قبل اعتناق المسيحية. وتعود إلى الملك قسطنطين والكاهن بولس عقيدة التثليث وعقيدة ألوهية المسيح ونقل عقيدة تجسيم صفات الله عن اليهودية، ما أدى إلى بداية تاريخ طويل من الاضطهاد والقتل والقسوة بين المسيحيين بعضهم البعض، وبينهم وغيرهم.
ومن نافل القول ان الكتب التاريخية المسيحية وغير المسيحية أجمعت على أن التحول في هذه العقيدة حدث على يد بولس والملك قسطنطين اللذين كانا معروفين بمحاربتهما للمسيحية عند ظهورها، واضطهاد وملاحقة وقتل المؤمنين الأوائل برسالتها، وعندما اعتنق بولس المسيحية بالتزامن مع انتقال الملك قسطنطين من الوثنية إلى المسيحية نقل بولس إلى العقيدة المسيحية كثيرا من الأفكار الوثنية واليهودية، حيث زعم بولس (أن عيسى لم يكن المسيح الموعود، فحسب بل إنه ابن الله، نزل إلى الأرض ليقدم نفسه قربانا ويصلب تكفيراً عن خطايا البشر، فموته كان تضحية مثل موت الآلهة القديمة في أيام الحضارات البدائية من أجل خلاص البشرية) (A short History Of the world) 179- 170، وقد أدخل بولس على الديانة المسيحية بعض تعاليم اليهود ليجذب له العامة منهم، كما أدخل بعض فلسفة الإغريق لجذب الأتباع من اليونان، حيث استعار من فلاسفة اليونان فكرة اتصال الاله بالارض عن طريق الكلمة، او عن طريق ابن الاله او عن طريق الروح القدس، وهي فكرة وثنية اغريقية قديمة تمحورت حول الدور المركزي لرجال الدين القديسين في الوساطة بين الاله والملوك والمحكومين.
ويرى القرآن الكريم أن المسيح نزل رسولاً إلى بني إسرائيل بعد أن تمادى ملوكهم وأحبارهم في التحريف والضلال والاستبداد والفساد (قال المسيح يا بني إسرائيل إن الله ربي وربكم) (المائدة الآية 72)، بل إن الأناجيل نفسها تؤكد ما ذهب إليه القرآن الكريم، فقد جاء في إنجيل متى بالحرف الواحد: (وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت قائلة أرحمني يا سيد يا ابن داوود، ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: أصرفها لأنها تصيح وراءنا فأجاب يسوع: لم يرسلني الله إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة) (متى 15/ 21- 42)، كما جاء في إنجيل برنابا قول عيسى (وقد أقامني الله نبيا على بني إسرائيل لأجل صحة الضعفاء).
ويؤيد الكثير من الكتاب المسيحيين هذا الاتجاه، حيث يرى المؤرخ الشهير أنطوان بري أن اضطهاد الرومان لأتباع المسيح كان سببه الأساس هو اعتقاد الأباطرة الرومان بأن دعوة عيسى المسيح عليه السلام هي امتداد لليهودية التي كانت شديدة التعصب والعدوانية والعنصرية بعد تحريفها من قبل ملوك وأحبار بني إسرائيل عقب اختراع الروايات الشفوية المنسوبة إلى النبي موسى عليه السلام وتدوينها في (التلمود) (A History of Freedom of Thougt)
والحال أن رسائل بولس شكلت جوهر العقيدة المسيحية بعد رحيل المسيح وحوارييه ورسله، مع العلم أنه لم يعرف ولم ير المسيح إطلاقاً، ولم يعاصر حوارييه وأتباعه الأوائل، وبوسع كل من يقرأ رسائل بولس وسيرة الإمبراطور قسطنطين الذي أعتنق المسيحية في وقت متزامن مع بولس ملاحظة أنه بقدر ما حرص بولس وقسطنطين على تضمين المسيحية أفكاراً وتعاليم وثنية ويهودية وإغريقية تزيل الهوة بين ديانات بني إسرائيل وأفكار الأمم الأخرى، بقدر ما تم ذلك بالترابط الوثيق مع التوجه للغزو والفتوحات الدينية من قبل الملك قسطنطين والأباطرة اللاحقين، وهو الأمر الذي نقل المسيحية على يد بولس والملك قسطنطين إلى مرحلة تاريخية جديدة سالت فيها الدماء بين المسيحيين أنفسهم، وبينهم وغيرهم من الشعوب الأخرى، فيما أصبح رجال الدين مرجعية عليا لتبرير سفك الدماء والافتاء بوجوبها، بعد ان انتزع كل من بولس الرسول والملك قسطنطين قراراً من مجمع (نيقيه) (NEACIA) سنة 335م، قضى باطلاق الصفة (الربانية) على رجال الدين، وهو ما سنأتي اليه في الحلقة الثانية من هذا المقال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.