في كتابه "مذكرات الأكاديمية" يصف آبي مونجولت حال الدهماء مع قادتهم الرومان أيام كانت روما إمبراطورية، فيقول أن العلاقة كانت تبدأ عادة بولاء حقيقي للحاكم، ثم يتحول الولاء بفعل الانحناء إلى مداهنة. وحين يستمرئ الناس الخنوع، يستبيح الحاكم ظهورهم المقوسة ليرتقي سلما من الأقفية الممهدة نحو عرشه المقدس. وعندها تتحول نافلة الطاعة إلى فرض، وتتحول قصائد المديح إلى ابتهالات وتواشيح ليصبح الحاكم بأمره ظل الله في أرضه وسلطانه الذي لا يجوز الاقتراب منه أو الخروج عليه. وللرومان طرائف طقوسية غريبة تتداخل فيها ريشة الأسطورة مع طرافة الحدث. منها أنهم كانوا يصنعون لطغاتهم تماثيل ينصبونها في معابدهم وينكسون تحت أقدامها المفلطحة رؤوسهم الفارغة كل يوم تبركا وعبادة. وفي أعيادهم، تترك التماثيل قواعدها لتحل ضيفة على عبيدها المخصية رؤوسهم، ويتجمع الناس والطهاة حول أجساد ملوكهم المقددة الممددة في الساحات والميادين ليشاركوها النبيذ والصخب. وتربص الرؤوس المرمرية فوق وسائدهم المخملية لتضحك ملء صمتها الحجري من عبيد لا ينسون قيودهم وإن رحل الطغاة. ومن الطريف أنه عندما تمكن يوليوس قيصر من هزيمة الرومان وكسر شوكتهم، تقدم نحو مأدبتهم الكاريكاتيرية في صلف بالغ، وفجأة وجد نفسه محاطا بآلهة من مرمر لا تمد أياديها نحو موائد نصبت على شرفها كما يفعل البسطاء. عندها أمر الإمبراطور المنتصر صانعي المرمر المقدس أن يمحوا من فوق جبينه كلمتي "نصف إله" حتى لا يرقد كجذع نخلة عجوز بين أقدام أحياء بعد رحيل غير مأسوف عليه. كان حكام الرومان يستخفون بشعوبهم السفيهة، ويحولون قوانينهم الشاذة إلى "وحي إلهي"، ويمنحون أوامرهم السلطانية ألقابا مقدسة، لتتحول فرمانات بابهم العالي إلى شريعة، وتأتي حكمة الرومانيين الانبطاحية لتبارك فجور سلاطينهم فتراهم يقولون ساخرين: "إذا أسقط الملك عن النهار ضوءه، فقل يا لجمال النجوم ووضاءة القمر!" لكن الرومان لم يخُطّوا في صفحات التاريخ مجدا يشهد لهم بالفرادة، فقد سبقهم المصريون بالانحناء حتى استخف بهم فراعينهم، وتبعهم جهلاء العرب الذين كانوا يصنعون آلهة التمر ويعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، فإذا انتهوا من عبادتهم التهموا آلهتهم اللزجة وعادوا إلى بيوتهم تكلؤهم عناية الآلهة قبل الهضم وبعد الخلاء. وعلى أثرهم سار أعراب كثيرون، صنعوا من تماثيل ملوكهم محاريب، وتقربوا إليها بما أهل لهم من أهل وتاريخ وتراب. لكنهم كعادة أسلافهم، دائما يأكلون تماثيل فراعينهم بمجرد أن يُوَارَى ملكهم التراب. وفي بلادنا، لا يحترم خير خلف لأتعس سلف تماثيل ملوكهم إلا وهي قائمة على عروشها في زيها السلطاني المهيب، فإذا سقط التمثال فوق قاعدته المرمرية، لم يجد يدا تمتد لتقيمه أو تقيم عليه مراسم وداع تليق بمليك خضعت لصولجانه رؤوس علية القوم دهورا. ولا يجد الرأس المرمري وسادة من حرير أو عوسج حتى لتوضع تحت خده الشريف، لأن السقاة لديهم دوما ما يعصرون من نبيذ في كأس أي قادم إلى البلاط الجمهوري. في بلادنا تسقط التماثيل تترى جائعة باردة، فلا تمتد يد لتضع إكليلا حول رقبتها، لأن أزاهيرنا محجوزة كالعادة لسكان القص. في مياديننا لا تقام على شرف الراحلين الموائد لأنهم يتحولون بمجرد الموت إلى تماثيل – مجرد تماثيل – لا تنفع ولا تضر ولا تستحق سوى شآبيب الكلاب الدافئة في ليالي الشتاء الباردة. تسقط التماثيل في بلادنا مصادفة لتقام فوق قواعدها عن عمد تماثيل أخرى تتشابه في الملامح مع اختلافات بسيطة هنا أو هناك. ويغيب دوما عن مواكب الوداع وقوافل المهنئين المشردون وعابرو التيه في بلاد لا تعترف أبدا بانتماء البسطاء إلى موائدها العامرة. يغيب دوما عن مراسم التشييع ومشاهد التنصيب والتقسيم فقراء القوم وعامتهم لأنهم ببساطة مجرد مدعوين على حفل لا يقام أبدا على شرفهم، ليلوكوا كلمات التنصيب تحت ضروسهم السوداء وهم يستمعون إلى صوت أجوافهم النخرة تطحن الهواء والخواء والضحكات الساخرة المرة، ويمنون أنفسهم بحفلة تنصيب أخرى تضع أسماءهم على قائمة الأحياء ليبيعوا أصواتهم من جديد لمن يدفع الثمن.