ما كان يجب أن تموت ، كان يجب أن تغمض أجفان من تركوك وحيدا قبل تمضي ، فلقد ماتوا حين أغمضوا عينيك ،وخضبوا العلم الوطني بدماك . دمك المسكوب وبزتك العسكرية وتقاسيم وجهك المفصح عن بطل ، كلها تفاصيل وطن ، ووحدها تنسج قماش العلم الوطني ، وتمنحه قوة الخفقان . عمران تحولت بلا راع ، عورتها انكشفت ،وأطفالها ضحايا الرعب ، عمران تنزح ياسيدي وكنت تسترها بعكازك إذ نفشت فيها غنم القوم ، تلوح لهم به فيلبثون صرعى عند أبوابها . لم تكن تحمي المدينة وحدها ، لقد اهتز العلم الوطني كله عند سقوطك، كما لو أنه كان محمولا على سارية عكازك . من من أبناء سبتمبر لم يعلن قلقه وقد دقت فلول الإمامة أبواب صنعاء ؟ ومن لم يتذكر سيرة البطل عبدالرقيب عبدالوهاب وهو يسوّر صنعاء بجثمانه المغدور كما فعلت أنت ؟. وأين كان هذا القلق والخوف من قبل ؟. إلا أن يكون آمنا في ظل عكازك ، ولقد انكشف على وقع اختفائه ، وانزلق الجميع في الدحرجة ، كما لو أن الوطن كله كان محمولا على ظهرك وحدك . لم نكن نعلم أيها البطل أن خمسين عاما من الجمهورية يمكن أن ترتعش بسقوط عكازك ، لم نكن ندرك أن رحلة خمسين عاما من الوطنية والحرية والمواطنة المتساوية والفنون والثقافة والتاريخ ستتعرض للتحرش بهذا القدر المخيف بعد أن غادر آخر الشجعان . سيقولون إنك لم تقاتل من أجل الجمهورية ، فلماذا اهتز الجميع بسقوطك ، ولماذا نفشت الإمامة ريشها بعد أن تواريت ، ولماذا تداعى العالم كله قلقا وخوفا على أن تسقط القلعة الأخيرة ؟ أنا لا أكتب عن القشيبي ، إنما أرثي رجلا كان حارسا وفيا لحدود الجمهورية ، وكنا نحن نلوك سيرته بالخيانة والغطرسة والتمرد ، وحين قتلوه غدرا تبين أننا جميعا بلا أسوار ولا حصون تمنع العابثين ، صارت صنعاء بعلمها الوطني وجمهوريتها التي بلغت من العمر خمسين عاما تحت رحمة البرابرة . وحدها الخيانة تهزم الأبطال ، هكذا و أبدا . لبسوا من خلفك خمر النساء ، طعنوك من الخلف وأعلنوا أسماءهم وألقابهم ساقطين بسقوط مدينتك وسقوط عكازك . لم يقولوا عنك متمردا تقاتل خارج سلطة الدولة ، كانت رجولتهم أقل من أن يعلنوك خائنا وهم يعرفون فيك شموخ الأبطال وشجاعة المحاربين ووفاء الفرسان . الحرب ليست أسلحة ومعدات فقط ، إنها قبل كل شيء رجل في المقدمة يحتزم العزم ويسخر من عربدة الموت . هانحن نتحدث عن رجل ، ونعلم أنه كان محاطا برجال على شاكلته ، ماتوا أبطالا كما مات ، سنحتفظ بأسمائهم ، خالدين عندالله وخالدين في ذاكرة الوطن ، لكننا نتحدث عن قائدهم ، والحديث عن القائد حديث عن الجنود . ربما سنعلنك خائنا يوما ما ، أنت قاتلت وحيدا بعيدا عن الجيش ، أنت كنت تحمي مدينة عجنتك من طينها ، أنت كنت تعشق أبناء مدينتك و كنت تعرف همجية الأعداء ، أنت كنت تعلم أن العسكرية لا تعني الاستسلام ،لا تحتمل التفاوض ، لاتقبل الذل ، وهذه العسكرية لاتريح أحدا في هذا الزمن القميء . لهذا سيحقدون على تفردك وقد أعلنك الناس بطلا ، سيلوحون بخيانتك ، وسيسرقون آخر كلماتك . لقد كانوا هم الخيانة ، وكنت أنت الجيش ، فالجيش يحمي الوطن ويؤمن حياة الناس ، وإلا فلماذا تركوا المدينة كلها تحت النهب والخوف بعد رحيلك ؟ أنت لم تمت ، أنت على قيد المخاوف والفجيعة والدموع ، وأنت في ضمائر الجيل المعتق بعشق الجمهورية والوطنية والأرض الطيبة ،ولن يخون وطنه ! حتى وإن لم يدفنوك بعربة عسكرية ، ولم يعزفوا على جسدك النشيد الوطني ، لم يعلنوك حيا ، لم يعلنوك ميتا ! لقد كنت آخر الأحياء وآخر الناطقين وأنت تقول " لن أخون شرف العسكرية " . وداعا أيها البطل ، ولا شاهدة لقبرك ، نحن كلنا معك في المقبرة شهود على رجولتك وموتنا . وداعا أيها البطل .