مشكلة اليمن أكبر من "الجرعة"، وحلها لا يكون بتخفيض أسعار البنزين والديزل. المشكلة تتمثل في العبث والفساد الذي مارسه ويُمارسه رأس النظام الحالي، الذي استغل الحالة الوطنية الانتقالية لتعزيز دور وفعالية الفساد ومراكز القوى القديمة؛ الأمر الذي جعلنا نعيش حالة مفتوحة من الفوضى، ونقف بشكل مباشر على حافة الانهيار والتصدع. "الجرعة" نقلت ثقل الأزمة اليمنية وشبحها إلى الحياة الخاصة لليمنيين. لهذا، فحل الأزمة اليمنية لا يكون بتخفيض "الجرعة" أو حتى إلغائها؛ بل بتخليص اليمن من حالة العجز والفساد الرئاسي القائم. انتصار اليمن على الجماعات المسلحة، ومشاريع التمزيق الما قبل وطنية، لا يُمكن له أن يتم مع استمرار نفوذ وسيطرة قوى النفوذ التي تُدير البلاد وتتحكم بها. الانتصار لليمن، كجغرافيا وإنسان، يبدأ من تخليصها من مراكز الاستحواذ والفساد التي تحكمها وتتحكم بها اليوم. لا يُمكن لليمن أن تواجه المخاطر الراهنة وهي مثقلة بأدوات الحكم والنفوذ الحالية. تخليص اليمن من المأزق الراهن يبدأ من تخليصها من أدوات وأسباب هذا الفخ. لا يُمكن لليمن أن تخرج من مأزقها الراهن في ظل بقاء العصبة الحالية ممسكة بزمام السلطة والحكم. تخلص اليمن من مخاطر الجماعات المسلحة، ومشاريع التمزيق الما قبل وطنية، مُرتبط بالتخلص أولاً من القوى التي تُدير البلاد وتتحكم بها. تحتاج اليمن مشروعا وطنيا حقيقيا يُخلصها من عصابة الحكم القائمة في صنعاء، والمخاطر التي تُهددها بالتفتيت والتمزيق. … موجة الطائفية، التي تجتاح المنطقة حالياً، تدفع إلى السطح أمراضنا الأكثر قيحاً وصديداً، وتنعكس في واقع اليوم على شكل "داعش" والحالات العصبوية التي تستدعيها على الضفة الطائفية الأخرى. تعايش العرب، لقرون طويلة، مع القمع والاستبداد، حتى شكل الخوف والتوجس هوية العربي، وأصبحت حياته اليومية محكومة بالارتياب والسلبية. وعندما قفزت بعض المجتمعات العربية على الاستبداد الرسمي، في ثورات الربيع العربي، قفزت معها إلى السطح أمراضها النائمة، ممثلة بالطائفية وحالة النزوع للعنف السائدة اليوم. منحتنا ثورات الربيع العربي فرصة لتجاوز عقدتي الخوف والاستبداد؛ إلا أن المجتمعات العربية خاضت هذه المرحلة الانتقالية وهي مثقلة بوعي ماضوي قائم على عداء للقيم الإنسانية، والحياة بشكل عام. وترافقت قفزتها، الباحثة عن الحرية، مع صعود أمراضها وأزماتها المكبوتة والمصمتة داخلها منذ عقود. غياب الشروط الموضوعية لإنجاز التحديث تجعل الشعارات المرفوعة من أجل الديمقراطية، والدولة المدنية الحديثة، مجرد أمنيات حالمة تفتقد للمصداقية والنزاهة. مواجهة أمراضنا وأزماتنا تكون بمواجهتها، لا الهروب منها عبر التعامي عنها وإنكارها، من أجل نفيها أو التستر عليها. الشعوب تنتصر على لوثاتها ومحنها الداخلية عبر الاعتراف بها، وهذا لا يأتي إلا من خلال "الوعي بالذات". مواجهة الأزمات مقدمة ضرورية لتجاوزها. علينا أن نذهب نحو مواجهة أزماتنا ومشاكلنا وجهاً لوجه، بما في ذلك الأزمات الأكثر قيحاً وصديداً، كالطائفية والمناطقية.