كما رأينا في جميع البلدان التي اشتركت في الربيع العربي ونجحت في إسقاط الزعيم الديكتاتور لديها، فإن الثورة لن تنتهي بمجرد إزالة الحاكم المستبد فقط. مصر وليبيا وتونسواليمن يعرفون ذلك جيدًا؛ إلا أن الأمر المهم الذي انبثق عن الربيع العربي، هو موقف المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من الشعبية الناشئة للإسلام السياسي، عندما سمح لسكان البلدان المعنية، أن يختاروا ديمقراطيًا الذين يقودونهم. بعد سقوط قادتهم الاستبداديين، شهدت مصر وتونس وليبيا صعود الإسلام السياسي. وبينما حققت تونس استقرارًا نسبيًا، رغم مشاركة الحزب الإسلامي، النهضة، في العملية الانتخابية الديمقراطية منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي؛ إلا أن مصر وليبيا لم تشهدا هدوءًا مماثلًا. فقد رأينا في مصر وليبيا حالة متباينة من عدم الاستقرار، منذ الإطاحة بحسني مبارك والزعيم الليبي معمر القذافي على التوالي، وخاصة مصر، التي شهدت مقتل الآلاف من المصريين وحبس عشرات الآلاف الآخرين، إثر الانقلاب العسكري الدموي، الذي جاء بعد سنة واحدة فقط من حكم أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا في البلاد، وبذلك يعود النظام القديم لحكم البلاد مرة أخرى. وقد أصبح موقف المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، من صعود الإسلام السياسي واضحًا لا لبس فيه. ففي مصر مولت الدولتان الخليجيتان، بالإضافة إلى الكويت، الانقلاب العسكري ضد الرئيس محمد مرسي، بقيادة وزير الدفاع، عبد الفتاح السيسي. وأصبحت الحرب ضد جماعة الإخوان المسلمين، التي ينتمي إليها الرئيس مرسي، هي الهدف الرئيس لدول الخليج المذكورة أعلاه، حيث تم اعتبار الحركة الإصلاحية، منظمة إرهابية في المملكة في وقت سابق من هذا العام، وهو ما اعتبر تصعيدًا كبيرًا من الدولة، التي كانت، على عكس دولة الإمارات العربية المتحدة الصريحة جدًا في معارضتها لجماعة الإخوان المسلمين منذ عام 2011، تتجنب أي نوع من التعليقات على الإخوان. وخلال الانتفاضة المصرية في يناير 2011، اندلعت في اليمن أيضًا احتجاجات واسعة، والتي ثارت في البداية ضد البطالة والفساد والظروف الاقتصادية، ثم بدأت في مطالبة الرئيس اليمني، علي عبد الله صالح، بالاستقالة. وفي أوائل شهر يونيو من نفس العام، بعد رفض صالح التوقيع على اتفاق الانتقال بوساطة مجلس التعاون الخليجي، حدث قتال عنيف في الشوارع باستخدام الأسلحة الثقيلة، التي شملت المدفعية وقذائف الهاون، وأصيب فيه صالح. في اليوم التالي للحادث، تقلد نائب الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، منصب الرئيس، بينما فر صالح إلى المملكة العربية السعودية. وتم الاحتفال بنقل السلطة من قبل الحشود، رغم أن مسؤولين يمنيين أكدوا أن غياب الرئيس صالح كان مؤقتًا. وفي فبراير 2012 شهدت اليمن إجراء الانتخابات الرئاسية، التي أعلنت فوز الهادي رسميًا، وإنهاء حكم صالح المستمر منذ 33 عامًا، وهو ما كان يعتبر نهاية للثورة اليمنية. وكان الوضع في اليمن جديدًا نسبيًا منذ تولي الرئيس الجديد، عندما استولى الحوثيون في اليمن، وهم جماعة زيدية شيعية من شمال اليمن، على عاصمة البلاد، صنعاء. وكان الحوثيون قد شاركوا في الثورة ضد الرئيس صالح، جنبًا إلى جنب مع الطلاب، وتحالف قبائل اليمن، والتجمع اليمني للإصلاح وغيرها. ومن المعروف أن الحوثيين، وشريكتهم إيران، من أشد الأعداء لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ولكن كان الهدف من هذا التقدم المفاجئ مواجهة الحزب الإسلامي الإصلاحي، التجمع اليمني للإصلاح، وهو حزب المعارضة الرئيس في اليمن، الذي يتولى حاليًا رئاسة الحكومة، ويعتبر أيضًا فرعًا لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن. وقد أدى رفض الحكومة الانتقالية، التي تشكلت بعد الثورة، إدماج الحوثيين على الرغم من كونهم جزءًا من التحالف الثوري، والشعور بأن لا شيء من مظالمهم قد عولجت، إلى أن واصل الحوثيون التوسع عسكريًا، وصاروا مستعدين للانتقام من حزب المعارضة الرئيس. ومثل حزب الله في لبنان، أصبح الحوثيون أكثر قوة ونفوذًا بعد تنمية أنفسهم عسكريًا. وكانوا قادرين على القيام بذلك، بمساعدة ودعم من علي عبد الله صالح، الذي قيل إنه كان يزود الحوثيين بالسلاح والمال. الحوثيون، الذين لم يكونوا في وضع يمكنهم من تحدي التجمع اليمني للإصلاح علنًا، على الرغم من كونهم الأقوى، صاروا الآن يملكون دعم صالح وحزبه، ودعم المؤتمر الشعبي العام، الذين يسعون لإقامة تحالف ضد ما كان ينظر إليه على أنه تهديد مشترك. وقد أدلى صالح بتصريحات، لمح فيها بدعمه للحوثيين. فصالح لا يزال يأمل في استعادة شعبيته وتمهيد الطريق لابنه العميد أحمد علي، سفير اليمن الحالي لدولة الإمارات العربية المتحدة، للاستيلاء على السلطة. مع سقوط الإخوان المسلمين في مصر، والحرب ضد الحركة والمؤسسات التابعة لها في المنطقة، انتبه الحوثيون إلى حقيقة أن جماعات مثل الإصلاح، قد أصبحوا يقفون على رمال متحركة. وسمح سقوط جماعة الإخوان المسلمين، والتي أصبحت مرتبطة بالإرهاب والتطرف الإسلامي، بصعود الحوثيين وتقديم أنفسهم كقوة جديدة في اليمن؛ إلا أنهم لم يفعلوا ذلك فقط بدعم وتأييد من الرئيس السابق صالح، ولكن بدعم من المملكة العربية السعودية وحليفتها الإمارات العربية المتحدة أيضًا. كانت المملكة العربية السعودية وإيران، قد انخرطتا في عقود من التنافس الاستراتيجي، من أجل السلطة والنفوذ في الشرق الأوسط، استنادًا إلى مبادئ الطائفية والعقائدية، حيث تعتبر المملكة العربية السعودية نفسها زعيمة العالم الإسلامي السني، بينما إيران هي زعيم للشيعة في العالم الإسلامي. ولكن يبدو أن حرب السعودية ضد الإسلام السياسي، وبشكل أكثر تحديدًا، جماعة الإخوان المسلمين، يحمل أهمية كبيرة جدًا بالنسبة للمملكة، التي كانت على استعداد للتنازل عن أيديولوجياتها، لدرجة وصلت إلى التفاهم الواقعي مع أكبر منافس لها، وهي إيران، في دعم الجماعة الشيعية اليمنية ضد الحزب الإسلامي. تمتد اليمن على الحدود السعودية الجنوبية، وتقع على الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، ويمثل الشيعة نسبة 35 في المائة من سكانها؛ لذا، فهي تعتبر بمثابة قاعدة استراتيجية لإيران، لا سيما في التنافس ضد المملكة العربية السعودية، باعتبار أنها "فريسة سهلة" يمكن أن تستخدمها طهران للاختراق والتلاعب في شؤون المملكة. ولكن، في حين أنه قد يكون هناك حروب أخرى بالوكالة بين السعوديين والإيرانيين في سورياولبنان والعراق والبحرين؛ إلا أن الظاهر هو أن المملكة لن تلعب نفس اللعبة باليمن، وأن كراهيتها لجماعة الإخوان قد أعمت عينيها عن الرؤية، وأن دعمها للحوثيين، الذين كانوا سابقًا في حالة حرب معها، يجعلها بالتأكيد تقذف نفسها في حفرة عميقة. يذكر أن العالم العربي يشهد حاليًا انتشار المذهب الشيعي عبر أراضيه، حيث تفاخر السياسي الإيراني الموالي لعلي خامنئي، علي رضا زكاني، بأن إيران تسيطر الآن على أربع عواصم عربية، وهي بغداد ودمشق وبيروت والآن، صنعاء. وأضاف أن إيران تعتبر الثورة اليمنية امتدادًا للثورة الإيرانية، والتي من شأنها أن تضع 14 من أصل 20 مقاطعة قريبًا تحت سيطرة الحوثيين. والظاهر أن الإيرانيين لا ينوون التوقف عند هذا الحد، كما قال زكاني: "بالتأكيد، لن تقتصر الثورة اليمنية على اليمن وحدها، وسوف تمتد بعد نجاحها في الأراضي السعودية، والحدود اليمنية-السعودية الشاسعة ستساعد في تسريع انتشارها في عمق الأراضي السعودية". وتعتبر المملكة هي الدولة الأكثر احتمالًا لبدء الانتفاضة الشيعية في العالم الإسلامي، فالمنطقة الشرقية بها مكتظة بالسكان الشيعة، كما أن إيران لديها بالفعل قاعدة صديقة على الأرض، يمكنها من خلالها التسلل والانتشار. لقد توسعت المملكة العربية السعودية في حربها من أجل تخليص العالم من جماعة الإخوان المسلمين، وهو الهدف الذي تم بتحريض من أجل بقاء العاهل السعودي في حكمه، ومنع انتشار الديمقراطية في الخليج. فبسبب معارضتها للربيع العربي؛ فتحت المملكة أبوابها لاستضافة الحكام المستبدين، بما فيهم اليمني علي عبد الله صالح، ناهيك عن دعمها للانقلاب العسكري في مصر والهجمات الأخيرة على ليبيا، والآن دعمها الحوثيين، وهي مؤشرات واضحة لكونها تقود ثورة مضادة ضد الربيع العربي، وأنها من أجل معارضة الحركات الديمقراطية، تقف إلى جانب حلفائها السلطويين، القدامى والجدد. ومع ذلك، فإن هذا التحرك الأخير من قبل المملكة قد يكون بمثابة المباراة النهائية للمباراة، التي يعتقدون أنهم يلعبونها.