يعد طب النساء والولادة من التخصصات التي أخذت في التفرع مؤخراً والاشتباك مع تخصصات أخرى وذلك بسبب ما يجود به العلم من حقائق مستجدة غيرت كثيراً من مفاهيمنا السابقة. ومن ذلك مثلاً علم الغدد المتخصص في هرمونات التناسل الذي يبحث فيما يتعلق بالدورة الشهرية والخلل المصاحب لها بالنسبة للمرأة ويسمى (reproductive endocrinology) وهو فرع من طب الغدد المتفرع من الطب الباطني ويلتقي مع طب النساء والولادة عند المريضة المرأة! كما أن هناك جراحات خاصة بهذه الأمراض تتفرع من طب الجراحة العام أو من طب النساء والولادة. هذا وتخضع فترة النفاس التي تسمى علمياً ب(puerperium) لدراسات مكثفة بسبب ملاحظة تطور أو نشوء أمراض محددة في تلك الفترة ومنها اكتئاب النفاس والجلطات الوريدية واعتلال عضلة القلب المصاحب للحمل وما بعد الولادة، كل هذا وغيره يدفع لمزيد من البحوث والمقالات العلمية التي تحترم جسد المرأة وتقدر ظروفه الخاصة وتعالج مشكلاته الناتجة عنها. ولي أن أتساءل: هل يمكن أن نجد في الطرح الثقافي الغربي من يثرب أو يعيب على هؤلاء العلماء أو فئة منهم انشغالهم في علم الحيض والنفاس المتعلق بجسد المرأة والممتد لروح الأمومة وعاطفة الحياة؟ في المقابل فإن لدينا فئات من العلماء منشغلة في أحكام الحيض والنفاس الفقهية الناشئة عن دين نؤمن به يربط بين ظروف الجسد ومتغيراته وبين الأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات والمعاملات، يلقون نوعاً من السخرية والإعابة والتثريب من قبل بعض المثقفين المنتسبين لتيارات فكرية مناوئة. والسؤال هنا: هل هذه الحالة بسيطة أم مركبة؟ بمعنى: هل هي تعبير مباشر عن حالة السجال والخصام الفكري يمكن التغاضي عنها أم أنها تحمل أبعاداً تصل إلى العقل الباطن وما استقر فيه من عيوب التكوين؟ إن واحدة من إشكالات التيار الليبرالي الذي يرعى مثل هذه الظواهر أنه يرتكب الخطايا الثقافية في سبيل تحقيق مكاسب على أرض الواقع أو ما يمكن التعبير عنه بالانتقال من خانة الداعية إلى خانة المحارب! ذلك أن التعيير بفقه الحيض والنفاس لن يكون رفضاً للدين كما سيؤكدون ذلك لو تم نقاشهم، ولن يكون تقييماً للمؤسسة الفقهية وملاحظة انشغالها بالجزئيات إذ يقتضي ذلك توسيعاً للنماذج لا الاقتصار على أمثلة محددة تعاد وتكرر، لكن في الأمر شيئاً من ذلك وليس كله كذلك! إن التيار الليبرالي هنا يمارس ثقافة (تحقير المرأة) ويستعين بها كرافد من العادات الخاطئة المتحكمة في عقول كثير لصالح أجندته في معركته الفكرية، هذه البراجماتية لها شواهد أخرى في المشهد الثقافي مما يكرس الاصطفاف والجدل دون تغيير حقيقي وصادق في طريقة تفكير المجتمع حيال قضاياه. إن تغيير «السوفت وير» مع الإبقاء على «الهارد وير» علامة مميزة لكثير من رواد الحراك الثقافي. وتتحمل مؤسسة الفتوى خاصة في ظهورها الإعلامي شيئاً من المسؤولية حيال هذا الأمر، وذلك بضعف تحويل الفقه إلى فكر، والاستسلام لما يفرضه المستفتون من وعي، ذلك أن الحاجة ماسة مع الجيل الجديد متعدد المشارب التعليمية والتربوية أن يتحرر من حالة التلقين والأحكام الجاهزة إلى التفسير والتعليل وهذا يقتضي جهداً مضاعفاً يمكّن من صناعة منهج تربوي متعدد الروافد، هذا المنهج يربط الأحكام الفقهية بالإيمان ربطاً متكاملاً يمكّن من خلق رؤية جديدة لدى المتسائلين الجدد عن الحق القديم. أما ثالث الأبعاد في هذا التركيب للإجابة على السؤال في الفقرة أعلاه فهو (المرأة المثقفة) أيا كان توجهها الفكري، لنسألها عن هذا التسامح البارد تجاه قضاياها وما يتعلق بها على مستوى الجسد والروح والدين، إذ رغم هذا الانفتاح الإعلامي وغياب عذر المنع والحجب فإننا لا نجد المرأة المثقفة في الموعد عند قضاياها، وما زالت تتمتع بإدمان الانتظار والإنابة عنها في معالجة قضاياها ولا نسمع صوتها الثقافي والفكري إلا في قشور القضايا وأطرافها. هل تريد المرأة المثقفة أن تستمتع بمحاربة الفرسان ليفوز بها أكثرهم بسالة وشجاعة؟ فعليها إذن أن تعلم أن النياحة الثقافية وشق الجيوب الفكرية أمر لا يصح عقلاً عند تخليها عن دورها وعن لبن ضاع في صيف الغفلة. (إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم).. هكذا تحدث الرسول عليه الصلاة والسلام لعائشة في الحج، فهل أجمل من هذا الربط المنسجم بين الفقه والإيمان واحترام المرأة؟