لا تبدأ الممارسة الديمقراطيّة، إلّا إذا تغيّر الكامن فينا، على مستوى الشعور واللاشعور. فإذا كانت اللغة هي أعظم ما يُفصح عن الإنسان، بل هي بوابة الإنسان إلى العالَم؛ فإنّها -أي اللغة- مغموسة بالذي يحتويه ما هو كامن فينا. يكتب ميشيل فوكو: "الفاشية فينا كلّنا، في رؤوسنا وسلوكنا اليوميّ، الفاشية التي جعلتنا نعشقُ السلطة، وأن نرغب في كل ما هو يهيمن ويستغلّنا". فليس العنف والطائفيّة واللاعدالة مجرّد ممارسة يقوم بها الفاشيون والطغاة، إنما هي فاشية تكمن في الجسد والرأس، ولذلك تحرير اللغة على مستوى النفس هو بداية التحرير الحقيقي للحياة المشتركة واللافاشيّة. إنّ اللغة ليست أداة تواصليّة براغماتية وكفى، بل ما يصدر من الإنسان من أصوات هو نتاج للنماذج المعرفيّة التي تمثّل الرؤية الكونيّة لديه. ومن ثمّ، فإنّها المعبّر المُخلص عن الكينونة، فكل شيءٍ إذا لم يخضع إلى دلالات جديدة وديمقراطيّة وأكثر قبولًا للآخر دون حرجٍ للذات، كانت لغتنا قاتمة وعدميّة وإقصائيّة تقوم على "نحن" و"هم"، خاصّة في مشهد عربيّ حافل بالفاشيّة السلطويّة لعقود، ولم تُعرف للممارسة الديمقراطيّة فضاءً فيها، إلّا كان مثقوبًا. وفي ظلّ وعي غير صحيح، يتم تجنيد القواعد الشعبيّة سواء على المستوى العادي أم على المستويات الأيديولوجيّة للأحزاب، ويتمّ رسم التصورات لديهم، بلغةٍ مراوغة تستبدّ بالمخيال بواسطة سلطة الجميل والأقوال البليغة، وذلك من قبل الدولة ومن قبل الأحزاب الديمقراطية شعارًا والفاشية لغةً: فالدولة تعمل على ترسيمات معيّنة في الذهن تجاه ما يسمّى "الوطن" و"الدولة" و"الهويّة الوطنيّة"... إلخ، بل إنّها تعيد تعريف الوطنيّة كمفهوم جامع للانتماء إلى قوّة إقصائيّة للذين يتبنّون سرديّة غير سرديتها عن نفسها، بل إن الدولة لتضع "حقوق الإنسان" رهينة بتعريفها للوطنيّة، وهنا نشير إلى حنّة أرندت، فقد أشارت أرندت، بشكل جذري وموضّح لطبيعة الدولة الحديثة، إلى أنه لا مكان لحقوق الإنسان خارج الدولة القومية. هناك حقوق للمواطنين، لا حقوق للإنسان. ولكي تتمتع بالحقوق عليك أن تكون مواطنًا. وهنا نرى كيف أنّ المفاهيم التي يفترض أنّها تجمع الذات والغير تعمل الدولة على تشويها، لتحوّلها إلى مفاهيم تحريضيّة ضد الآخر. كما إنّ هناك نوعًا من الديمقراطيّة الإقصائيّة، وهي التي يقوم بالترويج لها الأحزاب الأيديولوجيّة، سواء من خلال الظنّ بأنّ التاريخ يسير باتجاههم بحتميّة صلبة، ومن ثمّ فإن التاريخ سينتصر لهم، أو من خلال دعاية "التمكين" لإقصاء المخالف والمعارض، فينقلون المفاهيم من مستوى متعالٍ إلى مستوى سياسي يتعلّق باليومي والراهن والظرفي. ليست الأزمة في فتح مجال ديمقراطي حقيقي، بقدر ما أنّ الأزمة تكمن في دمقرطة أنفسنا ولغتنا قبل ممارستنا. لقد تمّ الحديث طويلًا عن إمكانية ديمقراطية حقيقيّة في فضائنا، بيد أنّ الديمقراطيّة لا يُمكن أن تُفرض على أحد إلّا إذا فرضها هو على نفسه وعلى شعوره ولاشعوره، وذلك بإدراك آخريتنا، وكيف أنّ الهويّة التي نصون جرخها النازف ليست سوى "هو" كامن في بنيتها اللغوية والوجوديّة. تعملُ سياسات الهويّة دائمًا ضمن معجم معيّن للحديث عن الذات، يُبوّئ الذات منزلة معياريّة لتحديد الآخر، حتى وإن كان هذا الآخر هو الذي لا معنى للذات بدونه، كالأنثى مثلًا، ونحن نعلم لغتنا المطعونة بتهميش الأنثى لاشعوريًّا، وليست هذه دعوة نِسويّة، إنما تحليل لأنماط اللغة وبنيتها الإقصائية التي تترسّخ فينا. فثمّة إقصاء للحديث عن الغير وفتح النقاش معه لغويًّا، وهذا خطير، لأنّ ما لا يمكن الحديث عنه يظلّ مبهمًا وعنيفًا أيضًا، وإذا تحدثنا عنه مارسنا عنف الذات لنسقطه عليه. لا يمكن بدء المشاركة الثنائيّة، إلّا إذا تم تحرير أصل الهويّة الواحد، فلا بدّ من اعتبار الهويّة منشطرة إلى ذات وآخر، أو كما يختصر علينا بول ريكور: الذات عينها كآخر. ويحلّل الفيلسوف الاقتصادي أمرتيا سِن "عنف الهويّة" من خلال "وهم القَدر"؛ أي إنّ الإنسان يتوهّم أن قدره قد وضعه في هويّة "واحدة"، في حين أن الإنسان له روافد كثيرة متشعبة، سواء على المستوى الشخصي، كذات؛ أو على المستوى الجمعي، كفرد ينتمي إلى أمّة وثقافة، فإنّ الأمّة التي ينتمي إليها أصولها مُبلبلة ومشوّش عليها، وهناك عناصر "أجنبيّة" -وهي تسمية إقصائيّة- قامت بصناعة "ذات" تلك الأمة وهذه الثقافة التي نتخيّل أن أصولها واحدة. كلّ هذه العوامل الثقافية والتاريخيّة هي ما تنشئ "عنف اللغة" المُمارَس على أنفسنا وعلى الآخرين، فالذات هي أوّل من يقع عليها استبدادها قبل الآخر، وذلك بالظنّ أنها متعالية وتنزل منزلة عليا عن الآخرين، مما يحوّلها لذات عدميّة وملثّمة بالغموض الكثيف. فإنّ حياتنا الملأى بالفاشية هي نتاج تصوراتنا وكلامنا الفاشيين، والديمقراطية كتداول تشاركي لا تكون إلا بديمقراطيّة لغوية تحرّر اللغة من هوويتها ضدّ نفسها والآخرين، ليكون الآخر من بنية "النحن"، ولتغدو "النحن" كذلك عُرضة لمهبّ الغيرية المتواصلة.