واقع حقيقي متجسد بسيرة "جمال" وحكاية حلم مستهله " أشجان"، قرأتها.. نعم.. قرأتها؛ وباستغراقي في قراءتها، نسيتُ نفسي لمدة ثلاثة ساعات ونصف كاملة تماماً، كقدر الزمن الذي يستغرقهُ فيلم، ذهَبَ مع الريح، أو فيلم (طروادة ) أو (البؤساء )؛ لم يلتفت بصري إلى أي جهة غير سطور وصفحات الرواية؛ لم أشعر طيلة مدة قراءتها؛ بالألم المزمن الذي أعانية في ظهري؛ غابت حواسي عن عالم الواقع وأسلَمَت نفسها لعالم الرائي الواقعي / المتخَّيل؛ متذوقة كل أصناف الأحاسيس والمشاعر التي تتابعت في سطور الرواية وصفحاتها وفصولها؛ إذ تذوقتُ الألم والانتشاء، والسرور، الإحباط، الحزن، الرثاء، الغضب، الأسى، الفَقد، القلق، الوجوم، الاستلاب، السعادة، الحبور، الشفقة، الإشفاق، المحبة والبغض.. جميعها بدون ترتيب . وبقدر ما كانت الرواية مثيرة للغضب والإحباط والحزن في مساحات كبيرة منها، إلا أن هناك مساحات صغيرة مضيئة فيها منتهى الجمال والبهاء والأمل الفسيح، وهو سر القانون الرباني الذي لا يفقهُهُ ولا يدرك كُنههُ إلا القليلون ؛ مساحة الشر أضعاف مساحة الخير وهو مناط الجهاد البشري في الخير والشر منذ مبتدأ هذه الثنائية في أول الخلق . عموماً.. لستُ ناقداً أدبياً، لا هاوياً أو محترفاً، حتى أضع الرواية تحت مجهر النقد الأدبي، وإنما أكتب هنا لأدلي بدلوي كقارئ متذوق، ليس إلا ؛ لأشكال الكتابة كنتاج فني إبداعي يتم قراءته من زوايا أصنافه وأغراضه وأساليبه التعبيرية التي تحدد مقدار الأثر التذوقي الناتج عنه، وعلى هذا الأساس، أحب أن أوجز عن هذا الأثر بعيد قراءتي لرواية الشرق أشجان : إن عملاً أدبياً بهذا الشكل لَهُوَ عملٌ يدل أن صاحبه ذو تراكم معرفي موسوعي كبير عموماً، وذو استغراق عميق في فن السرد، كضرب من ضروب التعبير الأدبي خصوصاً . وهو ما يفسر اقتحامه للفن السردي بكل اقتدار . فمن قراءتي لفصول القصة وجدتني أمام كاتب واسع الاطلاع والمعرفة لتقنيات الكتابة، كتابة الفن السردي، ومن هنا يتكشف لنا السر الكامن وراء جمال ( الشرق أشجان ) بحيث جعلها أشبه ب(الحبل المنصرم ) إذا ما انصرم لا يتوقف حتى يصل نهايته، وهي ميزة من مميزات العمل الأدبي المبدع . استخدام المؤلف تقنية (flash back) أو ما يطلق عليه بتقنية الاسترجاع، أعطى السارد مساحات لإبداع سرديته، والتخلص من عقبات فنية كانت ستقف أمامه وتعوقه . فكان لاستخدام هذه التقنية ببراعة جعلت من النص السردي قطعة فنية جميلة . هذه السردية، بقدر ما هي سيرة ذاتية للراوي فيها (جمال)، إلا أن هذه السيرة الذاتية مثلت الإطار الخارجي الذي يحتوي في ثناياه صورة (بانورامية) لتاريخ اليمن الجنوبي بشكل خاص، وتفاعله داخلياً وخارجياً، اشتملت على أهم محطاته التاريخية مذ ما قبل الاستقلال 30نوفمبر 1967م وسنوات الكفاح المسلح تحديداً مروراً لما بعده في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، وتحقيق الوحدة اليمنية وانتهاء بحرب اكتساح الجنوب من قبل نصفه الآخر صيف 94م وإفرازات ذلك الاكتساح . وبرغم كون الرواية تعد امتداد لرواية (حقل الفؤاد) شخوصاً وأحداثاً وتاريخاً وجغرافياً وفكرة واتساقاً وغاية؛ إلا أن البديع والمثير هنا هو المزج العجيب بين القصتين شخوصاً ومقاومة ومكاناً وبين اختلافهما من جهة ثانية غاية وزمنا وفلسفة ومقاومة، فإذا كانت مجريات رواية حقل الفؤاد قد انتهت بانجاز غايتها وطن مستقل وحر من المستعمر البريطاني؛ فأن رواية الشرق أشجان بقدر ما أغلقت فصولها عند هول ما حدث لشخوصها أثر كارثة حرب 94م بذات القدر أبقت الباب مشرعاً ومفتوحاً لمجريات وسياق متواصل ومستمر لا ينتهي سوى بتحقيق الذات الوطنية التي هي هنا الهوية المفقودة كغاية بعيدة المنال لأجيال ما بعد الثورتين والوحدة . على هذا المزج والافتراق ما بين الفكرتين والغايتين والروايتين أجدني ميالاً للكتابة الآن عن الشرق أشجان ولاعتبار ذاتي محض، وله صلة بسيرة شخصية عاشت وشاهدت الكثير من تلكم الأحداث التي سردتها القصة، وتم اختيار شخوصها من أجيال متعددة تم مزجها بأسلوب إبداعي دقيق، وغزلت خيوطها السياسية والفكرية والاجتماعية والعسكرية والعاطفية والدينية والوضعية،فجميعها مسبوكة في قالب إبداعي لا يستسلم ولا يُسَلِّم قياده إلا لصاحب روح إبداعية . اكتسبت الواقعية (واقعية الأحداث التاريخية) في هذه السردية مساحات كبيرة على حساب الخيال، وهو ما يُعَدُّ عند النقاد من مواطن الضعف في العمل الأدبي، لكننا إزاء واقعية مختلفة، هنا، بشفافيتها، وتجردها، وإجادة توظيفها لخدمة الغرض الرئيس للعمل/ الرسالة المراد توصيلها، الغاية المطلوب تحقيقها، فلقد أحال الكاتب موطن الضعف هذا إلى موطن قوة استندت عليه السردية لإبلاغ الرسالة والهدف وبقالبها الأدبي السردي . كيف ولماذا؟ فلأنها – أي السردية هذه – ليست في مناط (الفن للفن) كمذهب أدبي، بل هي في مناط صياغة معرفية لتاريخ أمة وشعب بكل وثباته وعثراته، انجازاته وإخفاقاته، انتصاراته وهزائمه، جميله وقبيحة، عبر نمط أدبي إبداعي تعبيري، بسيط، خالي من الزيف والتعقيد السردي السياسي/التاريخي . كشفت السردية في قالبها ودلالتها الجميلين، الميزة الجميلة للعمل الأدبي الإبداعي ( قصصي أو مسرحي ) والمتمثلة بديالكتيك الصراع (الجدل) وهي الثنائية الأزلية في جميع مظاهرها – صراع الخير والشر – الصدق والكذب، الانتماء والتبعية، الوفاء والخيانة، البذل /العطاء والارتزاق، العلم والجهل، التطور والجهل، التقدم والتخلف، الحب والكره، التضحية والنكوص، الإقدام والتراجع، الشجاعة والجبن، الأمن والخوف، العهد والغدر ..الخ، جميعها كانت حاضرة في هذه السردية الجميلة، وانعكست على شخوصها الرئيسيين، أو شخوصها الثانويين الذين استلزمهم سياق السرد وهم هنا الشخوص التاريخيون المرتبطون بمجريات الأحداث المختلفة لزمان السردية ومكانتها القريبة والبعيدة (ثوار، مفكرون، رؤساء، زعماء في اليمن أو العالم). أتسمت لغة السردية، بقوة التعبير والسبك المحبك، فكلماتها وعباراتها وجملها التعبيرية قصيرة مضغوطة، لكنها تختزل أحداثا ذات أمد زماني ومكاني فسيح، وكذلك مفاهيم ليس من السهل الإحاطة بماهيتها وقضاياها وأبعادها الفكرية والدلالية، على الأقل لقطاع كبير من جيل اليوم في اليمن وللقارئ في الخارج . كل ذلك تم بلغة بسيطة، شفافة، سلسلة، رقراقة غير معقدة، امتلك السارد ناصيتها بكل فن ومهارة واقتدار. وكانت اللغة مرآه عاكسة لعين ماهرة في رؤية الأحداث والمشاهد وتصويرها بدقة وبراعة بالغتين، فكانت اللغة تجسيداً مفرداتياً لبراعة العين التصويرية، أبرزت التفاصيل الصغيرة بذات المقدرة عند إبرازها لتفاصيل الأحداث والشخصيات في السردية . كما أن الذخيرة اللغوية المكتسبة في المعجم السردي لدى الكاتب مثلت ثرَّة وثريّة، غنَّاءَ وغنيِّة، واثقة غير وجله ولا مترددة، ويتضح ذلك من خلال المفردات والعبارات والجمل التي تصّور مكان وزمان وحركة أحداث السردية واستطراداتها، وهي علاوة على كل ذلك، تعكس جمالية الإحساس والذوق للكاتب عند وصفه للطبيعة والناس في فصول السردية، فكان بحق أشبه بمصوَّر ومخرج سينمائي في آن واحد؛ مصوَّر سينمائي بارع بعدسته بأبعادها الثلاثية، ومخرج محترف يعرف مكان وأبعاد الجمال وكيفية الوصول إليه واحتواءه . ليس هناك ما يمكن تسجيله حول الشخوص الرئيسة، فلقد أبدع السارد تصويرها وفي مختلف مراحلها العمرية، وكذلك ترميزها؛ زد على ذلك وُفِّق الكاتب في رسم وتصوير شخصية كل من "جمال" و"أشجان" ومن ورائهما الدلالة العميقة للشرخ الأزلي الكامن في واقع اليمن أرضاً وإنساناً، كثنائية ما تلبث أن تلتئم حتى يسيء إليها أبناؤها بسبب ثنائيات التضاد الداخلية أو المحيطة بهذا الواقع تأثيرا وتأثراً. ولقد أراد الكاتب "السارد" أن يوصل للقارئ رسالة مفادها أنه برغم كل هذه الظروف إلا أن الحقيقة قد تشوه وتزيف أو تدفن لبعض الوقت، لكنها لا تموت إلى الأبد، كما أن الغاية النبيلة والمثالية والكبيرة لا ينجزها الصغار وإنما الكبار، الثورات أيضاً لا يمكن أن تكون ثورات، إلا بثائرين وثائرات . بقيت ملاحظة قد لا تبدو مهمة في نظر الكثير، ولكنها أشد أهمية للقارئ ذي الذائقة وللناقد المنصف، ألا وهي الأخطاء المطبعية أو الإملائية مثل عشوائية أوضاع الهمزة، فوق أو تحت الألف، وكذلك الخاصية الطباعية الأكثر أهمية في الترقيم وهي "الفاصلة" والفاصلة وتحتها نقطة؛ فهذه العلامات وأن بدت هامشية، لكنها ذات أهمية كبيرة، إذ أن عدم الانتباه لها أو إهمالها يبهت أي عمل فني مهما كان رائعاً، وهذا أمر أحببت التنبيه إليه لئلا يتم تكرارها في الطبعة الجديدة من هذه السردية الرائعة التي أتمنى أن لا يبهت من جمالها شيئاً من جراء هذه الهّنة الصغيرة . في الأخير، مثلما قلت في المفتتح، إنني لست ناقداً، بقدر ما أنا قارئ متذوق للأدب بشكل خاص ولجميع ضروب الكتابة الإبداعية وغير الإبداعية بشكل عام.. أهنئ نفسي وأهنئ من هم على شاكلتي من القراء، برواية الشرق أشجان وبقاص مبدع لطالما عرفناه كاتبا صحافياً وسياسياً مرموقاً في الساحة اليمنية .