ما يجري على الساحة ليمنية اليوم أضحى نوعاً من الترهات، التي لم يعد أحد يطيق الإصغاء إليها، تلك السلوكيات السياسية الصارخة، التي تتبناها جماعة الحوثي المسلحة صارت مزعجة حد الإيذاء، مقلقة حد المرض، مريبة حد الإجرام والخيانة. احتلوا كافة مؤسسات الدولة، عطلوها، نهبوها، جمدوا كافة المشاريع في الدولة، خلقوا كافة المشاكل في هذه البلاد، ثم يجبرون الآخرين تحت تهديد السلاح، على حل المشاكل التي اختلقوها هم. ليس ذلك وحسب بل مشترطين أن تكون تلك الحلول، حسب أمزجتهم ورغباتهم، التي لا يمكن أن تمثل حلاً حقيقياً، لكل هذه المشاكل التي أوجدوها على الساحة. أضف إلى ذلك، تلك الطريقة التي يستخدمونها مع فرقائهم السياسيين، والتي تتمثل في الترغيب والترهيب، والتخوين، والتشكيك، بين كافة الأطراف المتحاورة؛ فمنذ أن قدم الرئيس والحكومة استقالتيهما، في يوم22يناير2015م وكافة لأطراف السياسية في حوار عقيم، رغم ما يُقال عن الجهود المبذولة، من الواضح بأن تلك الممارسات، قد أوصلت الجميع، إلى درجة أنه لا أحد أصبح يثق بأحد، وأن الجميع أصبح يتربص بالجميع، وأن الكل أصبح لديه رغبة من نوع ما للفتك بالكل. ليس من المعقول بأن حواراً بين أطراف لديهم قضية مشتركة، بحجم الوطن، يمكن أن يمر على حوارهم عدد من الساعات، ناهيك عن أيام وأسابيع، ثم لا يصلون فيها إلى حل، مالم تكن النوايا مبيته. لم يعد من شك بأن المتحكمين بمصير هذا البلد أرادوا ذلك، أرادوا أن يضل الحوار بهذه الصورة، حتى لا يتمكن أحدٌ من فهم أحد، ولا أن يثق أحدٌ بأحد، فلا يتعاون أحدٌ مع أحد. من يخدع من؟! تصريحات قد يستكثر فيها المتابع السياسي، أن يصفها بأنها سياسية أو دبلوماسية؛ هناك دائرة مغلقة من المخادعات المختلفة، على كافة المستويات، المحلية، والإقليمية، والدولية، والأممية، دعونا نتأمل سريعاً شيء من هذه المخادعات، لندرك أبعاد ما يجري. *- فور سقوط صنعاء بيد لمليشيات الحوثية المسلحة، بتاريخ21ديسمبر2014م ظهرت تسريبات مختلفة يتلخص مجملها، أن الخطة التي كانت تهدف إلى ضرب الحوثي والإصلاح، لم تسر على النحو الذي رسم لها، الأمر الذي اعتبره رُعاة المبادرة الخليجية خديعة، متهمين طرفين يمنيين أساسيين بذلك هما (الرئيس هادي، وعلي صالح). *- وحينها أكدت السعودية على وجه الخصوص، بأنها قد خدعت خِصيصاً، وأن الرئيس هادي هو الذي خدعها، رغم تواصلها معه بشكلٍ دائم، منذ دخول الحوثيون إلى عمران، لكنه كان يقول: بأن الموضوع لا يتعدى مناوشات مسلحة، بين الحوثي والإصلاح، وكانت تطميناته قوية. *- اللواء علي محسن الأحمر قال بأن الرئيس هادي، ووزارة الدفاع خدعوه، وأنهم جميعاً، أرادوا أن يفعلوا به كما فعل بالقشيبي. *- تجمع الإصلاح قال بأنه كان على استعداد، للدفع بأعضائه لمساندة الجيش والقوات المسلحة، للدفاع عن صنعاء، لكن الجميع تخلوا عنه، أرادوا أن يخدعوه لكي يواجه منفرداً. *- بعد أن سيطر الحوثيون على صنعاء، خرج الرئيس هادي، ليصرح بأنه هو الآخر قد خدع، وأن أمريكا هي التي خدعته، وأن تطميناتها له بشأن الحوثي كانت قوية. *- ردت أمريكا على هذا الإتهام بالقول، بأنها أيضاً خدعت، وإيران هي التي خدعتها، وأن إيران هي التي لم تفي بتعهداتها أمام أمريكا. *- أما إيران فقد اكتفت بأنها باركت التحرك الحوثي واعتبرته نصراً خاصاً بها، حين وضعت يدها على العاصمة اليمنيةصنعاء، ذات الموقع الاستراتيجي الذي سيخدم مصالحها. الملاحظ أننا لم نجد من إيران شيء من الخديعة والمخادعة، سنتعرف على السبب لاحقاً. *- بالعودة مرة أخرى إلى الرئيس هادي، نجده يقول بأن الحوثي لم يفي بأي تعهد ولا وعد، وقد أكد على ذلك ما حدث في يومي 19و20يناير2015م عند اقتحام القصر الجمهوري، وتم الاعتداء علي شخصه (كما تحدث رئيس الوزراء) إذاً يُعد الرئيس هادي هو الأوفر حظاً، فهو الذي حصل على خدعتين قويتين، من الجانب الأمريكي و الحوثي. *- جمال بن عمر صرح بهراء كثير، لا معنى له، لعل أكثر ما فيه هي تناقضاته، كانت الغاية من ذلك، التبرير والدفاع عن جرائمه التي ارتكبها بحق اليمن واليمنيين، الجميع أصبح يدرك بأن له الدور الأكبر في إيصال البلد إلى هذا الحال. مالفت انتباهي في هراءه الكثير، والذي يتعلق بهذا الخصوص، أنه صرح هو الآخر بأنه مخدوع، قال بأن الفرقاء السياسيين، لم يفوا بما تم الاتفاق عليه، وأن البعض يقول كلاماً في الاجتماع، لكنه يقول في خارج الإجتماع كلاماً آخر، إنهم يخدعوه حسب سياق كلامه. *- ما حدث في إعلان إنقلاب الحوثي، أنه كان هو الآخر خدعة، لم يكن خداعاً لجهة معينة، بل كان فيما يبدو خداعاً للداخل والخارج، حين تعمدوا القول بأنهم ماضون في إطار النظم القانونية والدستورية، من خلال تسمية بيانهم الإنقلابي بأنه إعلان دستوري. هذا الموضوع يحتاج إلى نوع من الإيضاح، لأن ما أذاعوه لم يكن إعلان دستوري. الإعلان الدستوري (هو ذلك البيان الصادر من جهة ذات مسؤولية دستورية، مثل مجلس النواب المنتخب بصورة شرعية، لم يسبق لجهة ذات اعتبار أن تطعن في مشروعيته، حد تعطيل تلك المشروعية، أو أن يكون ذلك البيان صادراً من رئيس جمهورية منتخب، بنفس الآلية والطريقة) أما غير ذلك فلا يوجد من له صلاحية المشروعية الدستورية للقيام بذلك. إذاً: لا يوجد في القوانين السياسية، ما يمكن أن يُسما بإعلان دستوري، وهو صادر من جهة غير دستورية. أما المشروعية الثورية التي يتحدثون عنها، فإن المقصود بها هي حالة الثورات الشعبية، تلك الحالة التي تتوفر فيها أركان ومقومات الثورة الشعبية الحقيقية (كتلك التي تجلت بكل مقوماتها في ثورة فبراير2011م) تلك الحالة هي منعدمة تماماً فيما يسمونه بالثورة التي يشيرون إليها ويقصدونها، فإنها بكل المقاييس لم تكن ثورة. الوصف السياسي لما قام به الحوثي، هو تمرد جماعة مسلحة على الدولة (نعم بكل أسف ندرك ذلك الدعم الذي قدمته الدولة لتلك الجماعة، لكن ذلك الدعم لا يخرجها عن نطاق التمرد) هذا التمرد في حقيقة الأمر لم يكن سوى على الدولة وضدها، وهو تمرد فريد من نوعه، لأن الدولة كانت في مقدمة من يقف إلى جوار ذلك التمرد ويدعمه . هذا التمرد انتهى إلى إنقلاب، كان يجب فيه أن يتم إعلان البيان رقم واحد، الذي يسقط كافة مؤسسات الدولة، ثم تتوالى البيانات التي تقوم بإنشاء مؤسسات الدولة الدستورية المختلفة. هم لم يفعلوا ذلك، لسبب واحد فقط، وهو أنهم لا يريدون أن يتحملوا تبعات ونتائج هذه العملية، التي من الممكن أن توصلهم -في حالة نجاح الإنقلاب- إلى إنشاء المؤسسات الدستورية التي ينطلقون من خلالها. هم في حقيقة الأمر يدركون بأنهم لا يمكنهم القيام بمهام الدولة، وإن كانوا راغبين في ذلك، هم ينطلقون في التعاطي مع نظام الحكم، تماماً كما يتعاملون مع نظام المتعة، إذا لم تتوفر لديهم القدرة للقيام بمهام ومسؤوليات الأسرة وما ينتج عنها، يفرون إلى موضوع التمتع، ولكي يبرروا لأنفسهم الأمر، فإنهم يطلقون على تلك العملية ب (زواج المتعة) . أجدد مخدوع من بين الجميع، الذي يبدو بأنه خدع بصورة لم يكن يتوقعها أحد، وهو الذي عرف بأنه يخدع الجميع، ويعلب على الجميع، هو المؤتمر الشعبي العام، أو ما تبقى من المؤتمر الشعبي بقيادة صالح. ما يجعل الخديعة هنا مؤلمة إلى حدٍ ما، أن الذي خدع صالح هو الحوثي، الذي ظل ينميه برفق منذ المولد في1992م حيث استمرت تلك الرعاية بشكل أكثر منذ أن شمر صالح للقيام بعمل دؤوب، خلال الفترة الممتدة بين20/11/2011م يوم التوقيع على المبادرة اليمنية في المملكة، وحتى يوم إعلان الإنقلاب الحوثي في 6فبراير2015م . شخصياً ليس بمقدوري أن أفهم، بأن ترتيب معين بين الحوثي وصالح، يقبل من خلاله الأخير، بكسر عصاه التي ظل يلوح بها منذ أكثر من 12عاماً، يوم تم انتخاب مجلس النواب (الأغلبية المريحة). كيف له أن يقبل، بأن يكون تابعاً لأغلبية جديدة، هي اللجان الشعبية المسلحة التابعة للحوثي، ذات المرجعية الوحيدة، كما حصرها إعلانهم في6فبراير2015م كيف لصالح الذي عُرف عنه أنه لا يقبل أن يكون تابعاً، أو مسيراً من أحد، كيف له أن يقبل أن يكون كذلك، ولمن ؟! لشخص هو يعرف تماماً بأنه لن يغفر له مقتل أخيه، شخص لم يتوقف عن نهب أسلحة الحرس الجمهوري، التي اتفق معه على أنها لن تكون من نصيبه، لكنه فعلها وأخذها جبراً . إن العدد الذي اختاره الحوثي 551 عضو هو عدد تحدده لجانه الشعبية وحدها، ولو انظم مجلس نواب صالح بكل أركانه إليه، لن يكون بمقدوره أن يكون له الدور الذي يرجوه صالح للتأثير وتغيير مجريات الأحداث، وسيكون الصوت الأكثر تأثيراً وإسماعاً هو صوت الحوثي ولجانه الشعبية. ما يؤكد ذلك أن المؤتمر الشعبي العام أعلن مؤخراً، رفضه الدخول في مجلس الحوثي، ما يعني بأن الصورة أصبحت أكثر وضوحاً، وأن صالح بالفعل قد خدع. كما أن الموقف الحالي لصالح من بيان الحوثي الإنقلابي، يُدلل على أن صالح ولأول مرة يظهر في موقف المستجدي، الذي يتودد إلى الطرف الأقوى، يطلب منه برجاء أن يعيد النظر في المواقف التي تم اتخاذها، حيث وجد نفسه يتوجه نحو بوابة الملعب. إعلان الحوثي هذا جعل صالح في موقع، لا تسمح فيه التغطية، له بسماع الكثير مما يجري، على الساحة السياسية . حين أتحدث عن الموقف الضعيف لصالح، لا أقصد به ضعف القوة المسلحة، في الوقت الحالي صالح لا يزال لديه قوة، ويمكن أن تكون فاعلة للغاية، يمكن أن تحدث فروق مؤثرة في ساحة المواجهة العسكرية إذا حصلت، غير أن صالح في هذا المقام لا يرغب أن تصل الأمور هذا الحد في الوقت الحالي، بكل تأكيد هو يريد ذلك ويعد له، ولكن ليس في الوقت الحالي، كذلك الحوثي، كلاهما لا يرغب في المواجهة في الوقت الحالي، لكن بكل تأكيد الطرفين يعدان لمواجهة حاسمه، ينفرد فيها الطرف المنتصر بكل ما يملكه الطرف الآخر. من المتحكم بمصير اليمن إذاً: لاشك بأن الحوثيون الذين قدم لهم كافة الدعم المحلي، ولإقليمي، والدولي، هو الذي تمكن من خداع الجميع، الداخل والخارج، وذلك من خلال المساعدة المباشرة وغير المباشرة، من ألائك الذين تعامل معهم، وسبق أن تحدثنا عنهم، وأظهروا أنفسهم بأنهم كلهم مخدوعين، قد نجد بعض الداخل مخدوع نعم. لكن الخارج كله في حقيقة الأمر لم يكن مخدوعاً، كانوا مخدوعين وهم يعلمون أنهم مخدوعين، لأن مهمتهم كانت تقتضي أن يكونوا كذلك. ذلك أنهم يرون في الحوثي أنه الطرف الأكثر قدرة على تحقيق مصالحهم في اليمن، لا يوجد أكثر قدرة لتحقيق انتقامك من شخص ما، من رجلٍ أحمق لديه القوة، أو تمده أنت بها، ليقوم بأكثر مما ترغب به أنت من الإنتقام. ذلك هو الحوثي، الذي أظهر استعداداً غير مسبوق لفعل كل شيء بحق هذا الشعب، كان على رأس كل ذلك موضوع القتل، الذي لم يكد يسبقه إليه أحد، لذلك فهو الأقدر من كافة النواحي، لتحقيق طموحات الغرب، وفي مقدمتهم أمريكا وإسرائيل، ومن يكن العداء لليمن واليمنيين، لذلك فقد وجد كل الدعم، وكل التغطية، وكل الصمت، وكل الوسائل والإمكانات، التي تمكنه اليوم للقيام بتلك المهمة. ليبقى الخيار المتاح في نهاية المطاف أمام كل طرف، أن يستخدم مالديه من قوة، وأدوات عنف، في محاولة منه لكي ينهي هذه المهزلة فيما بينه والآخرين. بينما الأطراف الراعية، والداعمة، يقفون في موقع المتفرج، يقهقهون نشوة، في الوصول إلى ما خططوا له. وفي نهاية المشهد، يتقاسمون أرباح الرهانات فيما بينهم، أو يأخذها جميعاً صاحب الحظ الأوفر. [email protected]