هل يمكن النظر إلى ما يدور اليوم من صعود للأصوليات المتطرفة، والقضايا والأزمات الاجتماعية وحتى المرورية، وحوادث الغرق.. بأنها نزعة إلى الانتحار؛ سواء كان مَخرجا من أزمة، أو تطلعا إلى الخلود/ التميز، أو عيبا في التنشئة الفردية والاجتماعية المتراكمة ببطء، على نحو لا يكاد يكون ملحوظا، وتكاد تكون حتمية في المنظومات الاجتماعية والاقتصادية.. ولا أمل سوى أن يواصل النظام إصلاح نفسه وتقليل مشكلاته وعيوبه؟ سوف تظل الأعمال الإبداعية (الرواية، والشعر، والموسيقى، والسينما، والفنون التشكيلية..) أفضل وأهم ما يساعدنا في ملاحظة الخلل. وهكذا، فإننا نحكم أيضا على ثقافتنا -وثقافة الآخرين- بمقدار ما تساعدنا على فهم العالم والانسجام معه. ولدينا، في حدود قراءاتي بالطبع، ميلان كونديرا في تأمله الجميل والإبداعي لظاهرتين: الشباب الذين كانوا يتطوعون للالتحاق بالمنظمات القتالية أو في صفوف الحزب الشيوعي، والانتحار العادي اليومي. وأظن أنهما ظاهرة واحدة! يقول كونديرا إن الشاب الذي يسجل في سن العشرين في الحزب الشيوعي، أو يلتحق بالمقاتلين في الجبال متأبطا بندقيته مفتونا بصورته الخاصة كثائر: فهي التي تميزه عن كل الآخرين، وهي التي تجعله هو نفسه في منشأ نضاله يوجد حبا جارفا وغير مشبع لأناه التي يتوق لرسم حدودها بوضوح، قبل أن يبعث بها عبر أداء إيماءة الخلود إلى خشبة التاريخ التي تتجه إليها ملايين الأنظار. ونحن نعلم أن الروح حين تكون تحت أنظار كثيفة، لا تكف عن التنامي والتورم والتضخم، لكي تطير في النهاية نحو الأعالي كمنطاد مضاء على نحو بديع. إن ما يدفع الناس إلى رفع أيديهم وتناول بندقية الانتصار جماعيا لقضايا عادلة أو غير عادلة، ليس العقل، بل الروح المتضخمة؛ إنها الوقود الذي لا يمكن أن يدور محرك التاريخ من دونه. ومن دونها أيضا، كانت أوروبا ستبقى مستلقية على العشب تراقب بكسل السحب الراكضة في السماء. وهذا يقود إلى فهم ظاهرة أخرى لا تقل شذوذا عن التطرف والعنف، وهي مواجهة التطرف والعنف. فمن يراقب اليوم ما يجري، مما يحسبه أصحابه عملا لأجل التنوير والاعتدال ونبذ العنف والتعصب والكراهية، يجد أنه ليس أكثر من هروب من الذات. وكأن هؤلاء الدعاة والنشطاء المعتدلين والمتنورين في أعماقهم يحسدون أولئك المتطرفين أو يجلّونهم ويقدسونهم. فالمسألة ليست تحديد الصواب أو الخطأ؛ سواء لدى المقاتلين المتطرفين أو المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تدير المدن والمؤسسات.. فلم يكن الصواب هو النقطة الحاسمة، ولم يكن الصواب ابتداء فكرة واحدة يحاول الناس البحث عنها أو اكتشافها؛ فلكل صوابه. والفرق بين المتطرفين أنهم يؤمنون بصوابهم، فيما سدنة حماية المنظومة الاجتماعية وأتباعهم لا يؤمنون بصوابهم ولا يعرفونه، وربما يؤمنون بصواب "داعش" أكثر!.